المحاكم والمجالس القضائية
موضوع بعنوان :المسؤولية الإدارية وفق القانون الجزائري
الكاتب :ريتاج


بحث حول المسؤولية الإدارية وفق القانون الجزائري
الفصل الأول الأساس القانوني للمسؤولية الإدارية إن المسؤوليـة في معناها الواسع والذي حاول الكثير من الفقهاء إعطاءها تفسيرات وتعريفات كثيرة رغم الاختـلاف البسيط فيها فإن القانـون استطاع أن يضع لها نطاقا قانونيا إداريا والذي يتعلق أساسا بمسؤولية الدولة بشكل عام والإدارة بشكل خاصعن أعمالها الضارة والتي تستوجب التعويض لا محالة .
ورغم تمتع الدولة والإدارة بامتيازات منحها إياها المشرع وهذا محاولة منه لحماية المصلحة العامة فهذا لا يعني أن لا سلبيات لها فقد تتعسف في استعمال سلطاتها المخولة لها باسم القانون .
لذلك وفي محاولة شجاعة من المشرع الجزائري فعبر مراحل متتالية عمل على إيجاد حلول حقيقية قانونية خاصة بالمسؤولية (الدولة ، الإدارة ) فوضع نظاما قضائيا قائما بذاته ونصوصا خاصة تحمي المتضررين من هذين الجهازين المهمين ( الدولة ، الإدارة ) .
لذلك ومن خلال محورنا الاول سنتطرق لدراسة ماهية المسؤولية وكذا نشأتها والأسس القانونية التي تبنى عليها وفقا لأربع مباحث على الترتيب :
المبحث الأول : ماهية المسؤولية الإدارية
المبحث الثاني : نشأة فكرة المسؤولية
المبحث الثالث : المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ
المبحث الرابع : المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر
المبحث الأول : ماهية المسؤولية الإدارية :
من خلال مبحثنا هذا سنحاول تحديد مفهوم للمسؤولية (المفهوم العام والخاص لها ) ونخص با الحديث المسؤولية الإدارية أي مسؤولية الإدارة عن أعمالها وكذا أعمال موظفيها باعتبارهم جزء منها ذلك أن نشاط الإدارة كأي نشاط آخر قد يكون سببا في إحداث أضرار وذلك باعتبار الإدارة سلطة تنفيذية تستعمل وسائل ضخمة وأحيانا خطيرة في أداء مهمتها ، وسنتطرق أيضا لمختلف الفروق بين نظام المسؤولية في القانون الإداري وما هو متداول عليه في القانون المدني باعتباره القاعدة العامة وهذا ما سنوضحه في ما يأتي من مطالب :
المطلب الأول : التعريف بالمسؤولية الإدارية
المطلب الثاني : خصائص المسؤولية الإدارية
المطلب الثالث : العلاقة بين المسؤولية الإدارية والمسؤولية المدنية
المطلب الأول : التعريف بالمسؤولية الإدارية :
المسؤولية لغة : تعني تحمل التبعة أي أنها الحالة القانونية أو الأخلاقية التي يكون فيها الإنسان مسؤولا عن أقوال وأفعال أتاها إخلالا بقواعد وأحكام أخلاقية وقانونية [1].
المسؤولية الإدارية باعتبارها مسؤولية قانونية ونوع من أنواع المسؤولية القانونية تنعقد وتقوم في نطاق النظام القانوني الإداري ، وتتعلق بمسؤولية الدولة والإدارة العامة عن أعمالها الضارة ، لكن تحديد معناها بالمعنى الضيق وجزئيا ، بأنها " الحالة القانونية التي تلتزم فيها الدولة أو المؤسسات والمرافق والهيئات العامة الإدارية نهائيا بدفع التعويض عن الضرر أو الأضرار التي سببت للغير بفعل الأعمال الإدارية الضارة سواء كانت هذه الأعمال الإدارية الضارة مشروعة أو غير مشروعة وذلك على أساس الخطأ المرفقي أو الخطأ الإداري أساسا وعلى أساس نظرية المخاطر وفي نطاق النظام القانوني للمسؤولية الإدارية ومسؤولية الدولة [2].
الأصل أن مسؤولية السلطة الإدارية قائمة على الخطأ ، لأنه لا يمكن إجبار الإدارة على تعويض الضرر أو جبره إلا بناءا على خطئها ، غير أنه في بعض الحالات تكون بصدد مسؤولية بدون خطأ إما لكون الضرر صادر عن فعل الإدارة بالرغم من كونها لم ترتكب خطأ وتكون آنذاك بصدد وجود إخلال بمبدأ المساواة أمام الأعباء العامة أو لكون نشاط الإدارة ذو مخاطر خصوصية والذي تنتج عنه أضرار لا يمكن أن تبقى دون تعويض ، فبما أن الإدارة تستفيد من ذلك النشاط فإنها في مقابل ذلك تتحمل التعويض عن الأضرار الناشئة عنه1فمن الطبيعي أن تكون مسؤولية السلطة العامة مبدئيا مسؤولية خطيئة بمعنى لا تقوم إلا إذا كان الفعل الضار مخطئا فإذا كانت هذه المسؤولية (على أساس الخطأ) هي المسيطرة في القانون الإداري إلا أنه منذ سنة 1895 وجد نوع آخر من المسؤولية وهذه الأخيرة إنها تقوم حتى ولو غاب الخطأ ، وهي مسؤولية بقوة القانون بسبب الضرر الحاصل وهذا ما سنوضحه فيما يأتي من مباحث .
المطلب الثاني : خصائص المسؤولية الإدارية :
من أهم خصائص المسؤولية الإدارية أنها مسؤولية قانونية وكذا مسؤولية غير مباشرة ومسؤولية عن الغير ، وأنها مسؤولية ذات نظام قانوني مستقل ، كما أنها مسؤولية جدا ، ومسؤولية حديثة وسريعة التطور .
أولا : المسؤولية الإدارية مسؤولية قانونية :
-إن المسؤولية الإدارية وباعتبارها مسؤولية قانونية يتطلب لوجودها وتحققها اختلاف السلطات الإدارية والمنظمات والمرافق والمؤسسات العامة الإدارية صاحبة الأعمال الإدارية الضارة عن أشخاص المضرورين .
- كما يتطلب فيها أن تتحمل الدولة والإدارة العامة صاحبة الأعمال الإدارية الضارة عبء التعويض من الخزينة العامة بصفة نهائية للمضرور ويشترط في المسؤولية الإدارية توفر علاقة أو رابطة السببية القانونية - وفقا لنظرية السبب الملائم والمنتج - وحريات الأفراد العاديين,كما يتطلب في المسؤولية الإدارية - باعتبارها مسؤولية قانونية - عدم دخول مال في ذمة الأشخاص المضرورين من قبل الدولة والإدارة العامة بصورة مسبقة على النحو السابق بيانه في مجال تحديد مقومات وعناصر المسؤولية القانونية . 2
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1_أ د/ الحسين بن شيخ اث ملويا, دووس في المسؤولية الادارية , ( كتاب اول )،(ط1), دار الخلدونية , الجزائر , 2007, ص21 .
2 _ أد/محد فؤاد مهنا, مسؤولية الإدارة في التشريعات العربية ،( دط), القاهرة , جامعة الدول العربية , 1972, ص191_197
ثانيا : المسؤولية القانونية مسؤولية غير مباشرة:
المسؤولية القانونية المباشرة هي مسؤولية الشخص مباشرة عن أفعاله الشخصية الضارة في مواجهة الشخص المضرور ، مثل المسؤولية القانونية المنعقدة والقائمة على أساس خطأ شخص واجب الإثبات .
أما المسؤولية القانونية غير المباشرة فهي المسؤولية القانونية عن فعل الغير ، كما هو الحال في مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعة ، ومسؤولية الدولة والإدارة العامة لأعمال موظفيها وأعمالها الضارة ، فالمسؤولية غير المباشرة أو المسؤولية عن فعل الغير تتحقق وتكون عندما يختلف شخص المسؤول المتبوع طبيعيا وفيزيولوجيا عن شخص التابع مع وجود رابطة أو علاقة التبعية بين التابع والمتبوع والدولة والإدارة العامة باعتبارها أشخاص معنوية عامة تفكر وتعمل وتتصرف دائما بواسطة أشخاص طبيعيين هم عمال وموظفو الدولة والإدارة العامة .
فالمسؤولية الإدارية هي دائما مسؤولية غير مباشرة ومسؤولية عن فعل الغير ، عكس المسؤولية المدنية التي قد تكون مسؤولية شخصية مباشرة وقد تكون مسؤولية غير مباشرة عن فعل الغير . 1
ثالثا: المسؤولية الإدارية ذات نظام قانوني مستقل :
vباعتبار أن المسؤولية الإدارية مسؤولية الدولة عن أعمالها التنفيذية الإدارية ، أي نظرا لكونها مسؤولية سلطة عامة ومسؤولية منظمات وهيئات ومؤسسات ومرافق عامة إدارية تعمل بهدف تحقيق المصلحة العامة للدولة والمجتمع في نطاق الوظيفة التنفيذية الإدارية للدولة ، فإن المسؤولية الإدارية باعتبارها حالة قانونية ونظام قانوني لابد أن تطبع وتسمع بهذه المعطيات والعوامل وتصبح لها طبيعة خاصة وخصائص ذاتية تستقل بها وتميزها عن غيرها من أنواع المسؤولية القانونية .
vباعتبار أن المسؤولية الإدارية مسؤولية قانونية عن إدارة عامة تتميز بعدة خصائص ذاتية أهمها أنها إدارة بيئوية تتأثر وتؤثر وتتفاعل مع المعطيات والعوامل والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والعلمية والحضارية والثقافية التي تشكل في مجموعها بيئة ومحيط النظام الإداري للدولة والإدارة العامة ، الأمر الذي يجعل حتما المسؤولية الإدارية تتميز بالواقعية والمرونة وشدة الحساسية للبيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والحضارية والعلمية والفنية المحيطة والمتفاعلة بالإدارة العامة في الدولة
رابعا : المسؤولية الإدارية مسؤولية حديثة وسريعة التطور
تمتاز المسؤولية الإدارية بأنها مسؤولية حديثة جدا ومتطورة بالقياس إلى أنواع المسؤولية القانونية الأخرى ، فالمسؤولية الإدارية أو مسؤولية الدولة عن أعمالها التنفيذية - الإدارية - .1
باعتبارها مظهر وتطبيق من مظاهر وتطبيقات فكرة الدولة القانونية - لم تنشأ وتظهر إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كما سيتبين من خلال دراسة موضوع نشأة وتطور مسؤولية الدولة والغدارة العامة - ومازال النظام القانوني للمسؤولية في حالة حركة وتطور وبناء لحد الآن في بعض تفاصيله
المطلب الثالث : علاقة المسؤولية الإدارية بالمسؤولية المدنية
للنظام القانوني للمسؤولية الإدارية صلة وعلاقة وثيقة بالنظام القانوني للمسؤولية المدنية فلهذه العلاقة طبيعة خاصة تبعا لاختلاف النظام القضائي لكل منهما عن الآخر .
وعلى ذلك فإن النظام القانوني للمسؤولية الإدارية وعلاقته بالنظام القانوني للمسؤولية المدنية تبدو جلية خاصة في النظام القانوني المبني على وحدة القضاء والقانون, وكذا العلاقة بين النظامين في النظام المزدوج القائم على ازدواجية القضاء والقانون , الأمر الذي يتطلب منا التعرض أولا إلى تأكيد مبدأ استقلالية النظام القانوني للمسؤولية الإدارية ومدى أفضليته عن النظام القانوني للمسؤولية القانونية المدنية لتطبيق) ذلك على مسؤولية الدولة والإدارة العامة عن أعمالها من واجب دعوى التعويض ثم التطرق إلى تكييف طبيعة هذه العلاقة وبيان مظاهرها ).2
أولا: استقلالية النظام القانوني للمسؤولية الإدارية وأصالته عن النظام القانوني للمسؤولية المدنية :
لما كان القانون الإداري في مجمله مجموعة قواعد استثنائية غير مألوفة منظمة لعلاقة الأفراد مع الإدارة ، فإن النظام القانوني للمسؤولية الإدارية لا يعدوا أن يكون وليد هذه الفكرة كونه يتضمن على مجموعة من أحكام وقواعد قضائية خاصة
ـــــــ
1- د - عمار عوابدي ، المرجع السابق ، ص 28 .
2- د- رشيد خلوفي ، قانون المسؤولية الإدارية ،(دط)، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ، 1994 ، ص 07
واستثنائية غير مألوفة في صعيد قواعد النظام القانوني للمسؤولية المدنية .
ذلك أن فكرة التفرقة بين الخطأ الشخصي والخطأ الإداري المرفقي وكذا تفاصيل نظرية المخاطر كأساس قانوني للمسؤولية الإدارية وهو الأساس الحديث بعد نظرية الخطأ الذي تولدت بموجبه بدايات تبلور فكرة المسؤولية الإدارية بمعنى المسؤولية الموجبة للتعويض العادل والمنصف في حق المضرور كما سنرى في المبحثين الثالث والرابع من هذا الفصل .
فإذا كان الخطأ الشخصي الموجب للمسؤولية المدنية العادية يتميز بالثبات فإن الخطأ المرفقي أو الإداري هو خطأ متميز في ذاته متطور ومرن ، وتجدر الإشارة إلى أن تطوره ومرونته هي من الخواص المنبثقة عن القانون الخاضع له وهو القانون الإداري, بالإضافة إلى أن تطور مقتضيات وظروف المؤسسات الإدارية تعني بلا شك تطور مبدأ المسؤولية الإدارية ونظامها القانوني الذي تخضع له .
أما بالنسبة لعنصر الضرر فإنه فيما يخص المسؤولية المدنية هو ضرر مادي مباشر من شخص (فرد) إلى آخر في شخصه أو ماله أو تبعته (من كان تحت رعايته) ، فإنه يبدو ضيق النطاق ، محدود المعالم مقارنة مع الضرر الذي تلحقه الإدارة بالأفراد سواء كانوا تابعين لها (خطأ وظيفي موجب للمسؤولية التأديبية) ، أو الخارجين عنها (منتفعين بنشاطها)، فإن هذا الأخير يعتبر واسعا سعة النشاط الإداري خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المسؤولية وفق الأساس القانوني الحديث ، (نظرية المخاطر) ، تجعل الإدارة مسؤولة عن الأضرار التي تلحق الأفراد سواء أخطأت أم لم تخطئ .
ورغم جملة هذه الاختلافات بين المسؤوليتين إلا أن نطاق التداخل بينهما واضح وجلي من حيث أن كليهما (نظرية المسؤولية الإدارية والمسؤولية المدنية) يشكل أنواع المسؤولية القانونية بوجه عام .
كما أن كلا النظامين القانونيين يرتبطان ويتصلان ببعضهما فبينهما علاقة تكامل وتعاون,حيث أن النظام القانوني للمسؤولية الإدارية باعتباره حديثا غير مكتمل المعالم فإنه يستعير من النظام القانوني للمسؤولية المدنية بعض أحكامه و تقنياته, باعتباره نظاما راسخا بأحكامه, وكل هذا من أجل إقرار التعويض وأسسه التي تبنى عليه (خطأ ، ضرر ، علاقة سببية ) .
وخير دليل على ذلك هو أن البلاد التي تطبق نظام ازدواجية القضاء والقانون تخضع المسؤولية الإدارية إلى قواعد المسؤولية المدنية في بعض الحالات على سبيل الحصر استثناءا من الأصل وتختلف هذه الحالات من دولة إلى أخرى.
فحالات مسؤولية الدولة والإدارة العامة عن الحوادث والأفعال الضارة الناجمة عن المرافق والمؤسسات العامة الاقتصادية والاجتماعية وحوادث السيارات تخضع لأحكام وقواعد النظام القانوني للمسؤولية المدنية في أغلب دول الازدواجية القضائية ومنها الجزائر.
فعلاقة النظام القانوني للمسؤولية الإدارية والنظام القانوني للمسؤولية المدنية قائمة وموجودة باستمرار وهي علاقة تعاون وتكامل بصور مختلفة ومتطورة .
ومن وجهة نظرنا يمكننا القول بأن أبرز اختلاف واضح بين المسؤولية الإدارية والمدنية هو طبيعة الخطأ الموجب للضرر و الذي على أساسه تعقد المسؤولية بعد ثبوت العلاقة السببية بينهما وهو الخطأ المرفق .
ثانيا : مدى صلاحية أحكام النظام القانوني للمسؤولية الإدارية :
ونقصد بذلك مدى صلاحية أحكام النظام القانوني للمسؤولية الإدارية وأسسه في رسم الطريق نحو تحقيق التكامل بين إشباع الحاجات العامة من جهة والمحافظة على سلامة الأفراد وكذا تعويضهم في حالة حدوث الضرر الموجب للمسؤولية خاصة إذا كان أخذنا بعين الاعتبار أن أحكام هذا النظام (المسؤولية الإدارية) حديث في نشأته حداثة القانون الإداري .
فهناك جانب من الفقه يرى بضرورة الجمع بين نظامي المسؤوليتين وتوحيد أحكامها عن طريق تطبيق نظام المسؤولية القانونية غير المباشرة في القانون المدني والمؤسسة على أساس نظرية الخطأ المفترض في المسؤولية الإدارية ، ذلك أنه وفق هذا الاتجاه إن أحكام المسؤولية على أساس الخطأ المفترض في النظام القانوني لها (المسؤولية) كفيل باستغراق وتنظيم حالات المسؤولية الإدارية .
وعلى ذلك فإن منظور هذا الاتجاه يرى بتطبيق معالم المسؤولية المدنية وأسسها على المسؤولية الإدارية لاسيما تلك المتعلقة بالمسؤولية الإدارية على أساس الخطأ فيطبق في هذا المجال أحكام مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه ، ومسؤولية متولي الرقابة عن أفعال من هم تحت رقابته ، ومسؤولية الحارس بكل ما فيها (حارس حيوان ، حارس عن البناء ... ) فكلها تطبق على حالات المسؤولية الإدارية وتقبل التطبيق عليها.
الرأي الراجح : (الاتجاه الثاني) .
إن الرأي أو الاتجاه القوي بخصوص هذه المسألة هو رأي أغلبية الفقهاء الفرنسيين في القانون العام وخاصة الإداري وذلك باعتبارها المصدر التاريخي لفكرة القانون والقضاء الإداري بصفة عامة والنظام القانوني الأصيل والمستقل والخاص للمسؤولية الإدارية الذي ذهب إلى ضرورة وضع نظرية متكاملة البناء ذات كيان مستقل اسمها نظرية المسؤولية الإدارية والتي تختلف في معالمها عن المسؤولية المدنية نظرا للطبيعة الخاصة والاستثنائية لها ، بحيث أنه وصلت نظرية المسؤولية غير التعاقدية للسلطة العامة إلى درجة كبيرة من التكامل .
و لقد رفض القضاء الإداري الفرنسي من أول وهلة تطبيق القواعد الموضوعية للمسؤولية المدنية على النظام الذي يحكم المسؤولية الإدارية بحيث لا يمكن تطبيق المبادئ القائمة في التقنين المدني بخصوص المسؤولية الادارية ذلك أن هذه الأخيرة متميزة بذاتها فأحكامها ليست عامة ولا مطلقة ولها قواعدها الخاصة التي تختلف وتتنوع باختلاف وتنوع حاجات المرفق العام ، وكذا ضرورة التوفيق بين حقوق الدولة وحقوق الأفراد في إطار تجانس المصلحتين العامة والخاصة .
الرأي المأخوذ به :
رغم أن الكثير من الفقهاء ذهبوا إلى ضرورة اعتبار النظام القانوني للمسؤولية الإدارية مستقل عن النظام القانوني للمسؤولية المدنية مقدمين في ذلك جملة من الحجج التي من بينها :
- أن القواعد والنصوص المدنية التي ستقاس عليها مسؤولية الإدارة عن أعمالها وموظفيها تنظم وفق علاقة تبعية بين المتبوع الذي هو الإدارة والتابع الذي هو الموظف ، رغم أن العلاقة بين الطرفين (الموظف والإدارة) ليست تعاقدية ، وعلى ذلك فلا يمكن تطبيق قواعد القانون المدني على القواعد الإدارية .
- إن قواعد المسؤولية المدنية عاجزة عن مواجهة جميع مسؤوليات السلطة الإدارية وذلك في الحالات التي لا يمكن فيها إسناد الفعل الضار إلى الموظف أو إلى موظفين معينين حتى يمكن إعمال فكرة مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع ، وكل ذلك يؤدي إلى أفضلية القواعد الإدارية في موضوع المسؤولية خاصة أنها تأخذ وتوازن بين جميع الاعتبارات.فإن الرأي الذي نأخذ به كوجهة نظر متواضعة هي الاتجاه الذي يرى بضرورة توحيد النظامين القانونيين للمسؤولية في قالب واحد يجسد التزاوج بينهما خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الناحية العمالية على الصعيد القضائي الإداري في كون القاضي وهو يفصل في النزاع يستقي حكمه من القانون المدني في ظل عدم وجود تقنين إداري مستقل ثابت ، بداية من أحكام المادة 124 من القانون المدني .
المبحث الثاني : نشأة المسؤولية الإدارية
ظلت الدولة بصفة عامة و الإدارة بصفة خاصة و لحقبة طويلة من الزمن غير مسؤولة عن أعمالها المختلفة، و كذا عن أخطاء موظفيها، و يعود ذلك إلى الفكرة التي كانت سائدة آنذاك و هي أن الدولة شخص معنوي مجسدة في شخص الملك الذي لا يخطئ أبدا، و كذا إلى فكرة السيادة باعتبار أن المسؤولية التزام و هو ما يتناقض مع السيادة في شكلها التقليدي بما تنطوي عليه من سمو و إطلاق، إلا انه في نهاية القرن 19 و بداية القرن 20 بدأ المفهوم المطلق لعدم مسؤولية الدولة يندثر خاصة مع اتساع مجال تدخل الدولة في جميع المجالات مما ينتج عنه تعدد الأضرار على الأشخاص و الأموال، وبدأت فكرة المسؤولية تشق طريقها نحو التطبيق، وسنتطرق خلال هذا المبحث إلى المسار التاريخي الذي مرت به فكرة المسؤولية الإدارية في الأنظمة القانونية الكبرى في العالم بداية بالنظام الأنجلوسكسوني الذي تمثله إنجلترا ’ ثم النظام اللاتيني الذي تمثله فرنسا ، لنصل في الأخير إلى فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر ، وذلك وفق ثلاثة مطالب على الترتيب
المطلب الأول : نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في النظام لأنجلو سكسوني
المطلب الثاني : نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في النظام القانوني اللاتيني
المطلب الثالث: نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر
المطلب الأول : نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في النظام لأنجلو سكسوني
كانت بريطانيا في موضوع المسؤولية الإدارية تعتنق مبدأ أساسي هو عدم مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها بصورة مطلقة ثم حاول الفقه و القضاء ثم المشرع تطليق هذا المبدأ عن طريق اتخاذ جملة من الاستثناءات الواردة عليه (عدم مسؤولية الإدارة) أين تقرر مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها في بعض المرافق العامة دون غيرها، ثم وسعوا نطاقها,ذلك أن عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها و كذا أعمال موظفيها قد بينت على عدة مبررات منها القاعدة الدستورية القائلة بأن "الملك لا يخطئ"أين اعتبر الملك و بالتالي تسأل عن أعمالها الغير مشروعة الصادرة في حق الغير و تمتد هذه الحماية إلى موظفيها فلا يسألون حتى في ذمتهم الخاصة لأنهم في خدمة جناح الملك الذي لا يخطئ و بالتالي فهم جزء منه و أداته في أعماله حتى و إن كانت غير مشروعة، فالمفهوم الذي كان سائدا آنذاك هو امتزاج و اتحاد الدولة في شخص الملك إذ لم يكن ينظر إليها كوحدة قانونية قائمة بذاتها و مجردة,لها الشخصية المعنوية بل هي في نظر القانون ليست إلا الملك و تابعيه , فالقول بمساءلة الدولة و موظفيها عن الأضرار الناجمة عن أعمالهم أثناء أدائهم لخدماته الوظيفية ما هو إلا مساءلة للتاج(الملك) عن أخطائه الشخصية وهو مالا يسمح به و لا تقرره القاعدة المذكورة و الراسخة في القانون الانجليزي[7] ، بل إن الأمر أكثر من ذلك حيث كان لا يسمح بالرجوع على الموظف الذي سبب خطأه الشخصي ضررا حتى و إن كانت هذه المسالة مسألة شخصية في ذمته المالية الخاصة وعلى ذلك يمكن اعتبار الموظف وفق هذه النظرة الإله صغير،الأمر الذي يعقد الأمور و يشل حركة الإدارة بصفة خاصة و الدولة بصفة عامة في غياب الرعاية الإلهية، ثم من أجل تفادي هذا نظرا للقضاء الانجليزي و معه الفقه إلى مبدأ عدم مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها نظرة الرفض لقسوة هذا المبدأ فأخذ يحقق منه محاولا التلطيف من حدة هذه القسوة ، وعلى ذلك قرر في بداية الأمر مسؤولية الموظف الشخصية استنادا إلى السند و المبرر الفقهي الانجليزي في تكييفه لطبيعة العلاقة القانونية التي تربط الموظف لأنها خارجة عن حدود عقد الوكالة [8] كما حمل القضاء الانجليزي الإدارة التدخل في تحمل التعويض نيابة عن الموظف في بعض الأحيان رغم أن هذا التدخل لا يعتبر و لا يشكل مسؤولية الإدارة بالمعنى القانوني للمسؤولية لأنها في هذه الحالة تتحمل عبء التعويض المحكوم به على الموظف رحمة و شفقة عليه وليس التزام عليها. وعلى ذلك يمكننا القول:" بأن الأساس التاريخي للمسؤولية الإدارية في انجلترا خاصة بني على الفكرة التيوقراطية القائم على أساس تأليه الملك و بالتالي عصمته من الخطأ و في الوقت الذي أحس الأفراد بخطورة الموقف من خلال هذا المبدأ حتى مع جملة التغييرات الشكلية الطفيفة عليه ة بقي الأمر خطيرا بحيث أصبح الأفراد متخوفين عن ضياع مصالحهم في إطار استمرار الشعور بعدم الاطمئنان.مما أدى إلى تطور فكرة الفقه و القضاء إلى الضرورة تكوين لجنة قانونية عام 1921 لبحث مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيهاو قد رفعت هذه اللجنة مذكرة بمشروع قانون 1927 يقيم هذه المسؤولية لكن البرلمان الانجليزي رفض إقراره مستندا في ذلك إلى أن إقرار هذا المبدأ يعرض الثروة العامة للضياع نظرا لما يحكم به للأفراد من تعويضات مما يؤثر على مكانة الدولة و مقدرتها المالية،إلا أن المشروع ما لبث أن أحس بخطورة الموقف و عدم عدالة الوضع فوضح قانون 1947 قانون الإجراءات الملكية الذي قرر نهائيا مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها صراحة و أصبح ساري المفعول في مطلع 1948[9]
المطلب الثاني : نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في من النظام القانوني اللاتيني
لقد أجمعت مختلف الدراسات في القانون الإداري أن فكرة المسؤولية الإدارية ارتبطت في نشأنها بنشوء القانون الإداري الذي ظهر في فرنسا ، وهي مرتبطة بتاريخها و نظام الحكم فيها[10] .
وكغيرها من الدول القديمة خضعت فرنسا لمقولة " الملك لا يسيء صنعا " و أنه امتداد لإرادة و ظل الله في أرضه، و هو ما جعله يتمتع بسلطة مطلقة في تسيير شؤون الدولة و عدم خضوعه للرقابة بما فيها الرقابة القضائية، و اعتباره مصدرا للعدالة، و التكفل شخصيا بالفصل في أي منازعة، و كذا وقف تنفيذ الأحكام أو إصدار حق العفو فيها[11] ، و بانتقال فرنسا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 من النظام الملكي إلى الجمهوري، و ظهور نظرية مونتسكيو المتعلقة بالفصل بين السلطات، ظهر جدل فقهي كبير حول عدم مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية .إذ أن مناقشة تصرفات الإدارة أمام القضاء، و إعلان مسؤوليتها و إلزامها بالتعويض عن الأخطاء التي يرتكبها موظفوها، يؤدي إلى تدخل السلطة القضائية في أعمال السلطة التنفيذية على خلاف ما يقضي به مبدأ الفصل بين السلطات، و لم يكن الاختلاف قائما حول المبدأ و إنما حول تفسيره، إذ يأخذ البعض بالفصل المطلق بين سلطات الدولة، و هو ما كان يميل إليه رجال الثورة الفرنسية متأثرين في ذلك باعتبارات تاريخية تتمثل في تعسف محاكم النظام القديم.
في حين كان الاتجاه الغالــب و الواقع العملي يرجح فكرة الفصل النسبي لما يسمح به من وجود نوع من الرقابة المتبادلة بين سلطات الدولة للحيلولة دون استبداد كل سلطة باختصاصاتها[12] إلا أن النظام القانوني الفرنسي كان مبنيا في بداياته على فكرة أساسية مناطها عدم تدخل السلطة القضائية في نشاط الإدارة ’ حيث رأت السلطة الفرنسية أن المحاكم العادية قد تعرقل الإصلاحات التي تعزم الإدارة القيام بها لذلك عملت على إبعاد منازعات الإدارة عن ولاية المحاكم العادية ’ و تجسيدا لهذه الأفكار صدر قانون16 -24 سنة 1790 الذي نص في المادة 13 منه " إن الوظائف القانونية تبقى دائما مستقلة عن الوظائف الإدارية و أن القضاة لا يمكنهم تعطيل أعمال الإدارة بأي طريقة كانت أو مقاضاة أعوانها من اجل أعمال تتصل بوظائفهم و أن كل خرق لهذا المنع يعتبر خرقا فادحا للقانون"
وتأكد هذا المبدأ مرة أخرى بالقول : " أن القضاة لا يمكنهم التعدي على الوظائف الإدارية أو محاكمة رجال الإدارة عن أعمال تتصل بوظائفهم ’ ويحضر على المحاكم حضرا مطلقا النظر في أعمال الإدارة أيما كانت هذه الأعمال" [13]
و قد اعتبر المدافعون عن قانون 1790 أن مقاضاة الإدارة أو أعوانها أمام القضاء يؤدي إلى عرقلة أعمالها التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام، فمثلا إذا تمت مقاضاة الإدارة حول نزع الملكية من أجل المصلحة العامة فإن ذلك سيؤدي حتما إلى تعطيل المشاريع التي تم من أجلها نزع العقار من مالكه . [14]
وتطبيقا لهذا القانون فإن المنازعات التي تكون الإدارة المركزية طرفا فيها فإنها تحال مباشرة على الملك ’ أما المنازعات التي تكون الإدارة المحلية طرفا فيها فقد اختص بها حكام الأقاليم.
ومن هنا اجتمع في الإدارة صفة الخصم و الحكم لذلك سميت هذه المرحلة بمرحلة الإدارة القاضية [15] .
و هو ما أعاق تحقيق و تكريس مبدأ الفصل بين السلطات، إذ أنه منع على السلطة القضائية البث في القضايا الإدارية في حين منح للسلطة الإدارية سلطة الفصل في منازعاتها و أمام رفض الفقهاء و القضاء لتمتع الإدارة بهذا الاختصاص الممتاز، تم فصل الإدارة العاملة عن الإدارة القاضية، عرفت فرنسا تحولا جذريا في مجال منازعات الإدارة إذ بصدور دستور السنة الثامنة من عهد نابليون بونابرت نصت المادة 52 منه على إحداث مجلس الدولة كما تم إنشاء مجالس المحافظات في باقي الأقاليم , و أرجع الكثير من الكتاب سبب إنشاء هذه الأخيرة إلى سيل الطلبات المرفوعة ضد الإدارة آن ذاك [16] .
إلا أن قرارات المجلس لم تكن سوى آراء و مشاريع قرارات معلقة على مصادقة رئيس الدولة، إذ أنها لم تكتسي الطابع القضائي، و لم تكن شاملة و لا نهائية، كما أنه لم يعتمد حال فصله في المنازعات على قواعد خاصة تطبق فقط على المنازعات الإدارية، و إنما طبق قواعد القانون الخاص [17] .
بل أن جملة القرارات الصادرة عن المجلس في هذه المرحلة لم تخرج عن كونها مشاريع قرارات بخصوص منازعات معينة وجب أن ترفع أمام القنصل العام باعتباره رئيس الدولة الذي كان له وحده حق المصادقة عليها أو رفضها.
فولاية المجالس لم تكن كاملة و شاملة و أحكامه لم تكن نهائية ’ أما مجالس الأقاليم فقد كانت قراراتها قابلة للطعن أمام مجلس الدولة الذي يبدي بشأنها أيضا الرأي ليرفع فيما بعد أمام القنصل العام الذي إن شاء أضفى عليها الصبغة التنفيذية لها و إن شاء رفضها [18] .
و على ذلك سميت هذه المرحلة بمرحلة القضاء المحجوز وذلك لأن الفصل في أي منازعة إدارية كان موقوفا على مصادقة و موافقة الرئيس ، و موافقته بالضرورة ستكون وفق ما يخدم مصالحه الشخصية .
كما نصت المادة 75 من دستور السنة الثامنة من الثورة الفرنسية لسنة 1800 على ضرورة استئذان مجلس الدولة قبل رفع قضايا التعويض على موظفي الحكومة بسبب أعمالهم ووظائفهم[19] .
إلا أن هذه المرحلة لم تدم طويلا إذ صدر بتاريخ 24/05/1872 قانونا اعترف لمجلس للدولة بصلاحية الفصل في المنازعات الإدارية دون الحاجة لمصادقة السلطة الإدارية على قراراته ’ ولم تعد الأحكام تصدر باسم رئيس الدولة بل باسم الشعب الفرنسي ’ و منذ دلك التاريخ أصبح لمجلس الدولة صفته كجهة قضائية عليا بأتم معنى الكلمة ’ حيث تم الفصل بين القضاء الإداري و القضاء العادي [20] .
وعلى ذلك فإن الوظيفة القضائية لمجلس الدولة تتمثل في صلا حيته كمحكمة أول درجة للنظر في المنازعات الواردة على سبيل الحصر ومنها :
الطعون الخاصة بتجاوز السلطة ، أو دعاوى الإلغاء الموجهة ضد المراسيم اللائحية أو الفردية .
المنازعات المتعلقة بالمراكز الفردية للموظفين المعينين بمرسوم .
الطعون الموجهة ضد أعمال إدارية بتجاوز نطاق تطبيقها دائرة اختصاص محكمة إدارية واحدة .
كما ينظر المجلس في المنازعة الإدارية باعتباره جهة إستئنافية بخصوص الطعون المرفوعة ضد أ حكام المحاكم الإدارية الإقليمية .
إلا أن الصعوبة تكمن خاصة في كيفية تعليل عدم صلاحية قواعد القانون الخاص لأن تحكم منازعات النشاط الإداري[21] .
وبصدور قرار بلانكو الشهير الذي يعتبر نواة القانون الإداري تجسدت فكرة مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها
والذي تتمثل وقائعه فيما يلي :" تعرضت بنت صغيرة تدعى إيجيتر بلانكو لحادث تسببت فيه عربة لوكالة التبغ ، و التي كانت تنقل إنتاج هذه الوكالة من المصنع إلى المستودع .
قام ولي البنت برفع دعوى تعويض عن الضرر المادي الذي حصل لابنته أمام المحكمة العدلية أو محكمة القضاء العادي على أساس أحكام القانون المدني الفرنسي .
قامت وكالة التبغ اعتبرت أن النزاع يهم الإدارة و أن مجلس الدولة هو صاحب الاختصاص بالنظر في الدعوى [22] .
أحيل الأمر على محكمة التنازع بتاريخ 08 /02/1873 ’ أجابت كما يلي:
" حيث أن المسؤولية التي يمكن أن تتحملها الدولة بسبب الأضرار التي يمكن أن يلحقها أعوان المرفق العام بالأفراد لا يمكن أن تخضع لأحكام القانون المدني الذي يضبط علاقة الأفراد فيما بينهم .
- حيث أن هذه المسؤولية ليست عامة أو مطلقة بل لها قواعدها التي تتغير حسب مقتضيات المرفق العام و ضرورة التوفيق بين مصلحة الدولة و حقوق الأفراد ....و بالتالي السلطة الإدارية وحدها المختصة بنظر النزاع[23] .
-ومنذ تلك اللحظة أسس مجلس الدولة قراراته على روح القانون العام أحيانا و علي حسن سير العدالة وكذا
-المرافق العامة من جهة أخرى .
وعلى ذلك نستنتج : أ ن المسؤولية الإدارية كانت فكرة نظرية تجسدت على الصعيد العملي بفضل قرار بلانكو الشهير" .
المطلب الثالث : نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر
لدراسة فكرة مسؤولية الإدارة عن أعمالها و موظفيها ونشأتها في الجزائر يجدر بنا التطرق إلى ثلاثة مراحل أساسية بداية من مرحلة ما قبل الاحتلال ’ أثناء الاحتلال ’ لنصل في الأخير لدراسة مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها بعد الاستقلال نظرا لما مرت به الجزائر تاريخيا ، وذلك وفق ثلاثة فروع على الترتيب .
الفرع الأول : فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر قبل الاحتلال
الفرع الثاني : فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر أثناء الاحتلال
الفرع الثالث : فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر بعد الاستقلال
الفرع الأول : فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر قبل الاحتلال
لإبراز فكرة المسؤولية في هذه المرحلة ينبغي أن نتطرق لتاريخ الجزائر القانوني و بمعنى أدق التاريخ القانوني الإسلامي الذي كان مطبقا في الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي لها إلى جانب العادات الوطنية التي أثرت فيها أحكام الشريعة الإسلامية حتى أصبحت تشكل عنصرا من عناصرها الجلية [24] " .
وحيث أنه توجد في الشريعة الإسلامية قواعد قانونية عامة تقرر رفع الأضرار عن الرعية مهما كانت الجهة التي تسببت في إحداثها ، ومن هذه القواعد قوله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ."
وهذه القاعدة الشرعية العامة التي تفيد أن الضرر يزال و أن الظلم يرفع ولو كان من الوالي بل ولو كان من الخليفة الأعظم الذي اختير اختيارا شرعيا .
و يعد المذهب الإسلامي أول مذهب أقر المسؤولية بصفة عامة و الإدارية بصفة خاصة عن الأضرار الناتجة عن السلطة التنفيذية الممثلة في الخلفاء و أعوانهم أو السلطة القضائية الممثلة في القضاة و معاوينهم ، و ذلك تطبيقا لمبادئ الشريعة الإسلامية التي تحث على رفع الأضرار عن الرعية و مساءلة مسببيها مهما كانت الجهة التي صدر عنها الضرر .
و من هذه المبادئ و القواعد " قوله صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "
وفي الدولة الجزائرية فقد حذا حكامها حذو حكام الدولة الإسلامية في عهدها الأول فكان يطبقه على إطلاقه وهذا أمر منطقي كون الدولة الجزائرية دولة مسلمة [25] .
إلا أنه و مع التطور التاريخ الذي عرفته الأمة الإسلامية و غلبة الطابع الدنيوي أصبح من الضروري إيجاد نظام قانوني و قضائي يتولى تطبيق مبدأ المسؤولية و تعويض المتضررين عن الأضرار الناجمة عن أعمال الدولة أو موظفيها، فظهر ديوان المظالم كجهة قضائية إدارية بالمفهوم الحديث تتولى مقاضاة الولاة رجال الدولة الذين لا يمكن للقضاء العادي مقاضاتهم ، و قد باشر الخلفاء الراشدون النظر في المظالم بعد الرسول صلى الله عليه و سلم بأنفسهم كما فعل عثمان بن عفان وعمر بن عبد العزيز و أو بواسطة معاونيهم.
و قد كرسوا هذا المبدأ بإعمال قاعدة مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه في نطاق المسؤولية المدنية و التي يتطلب قيامها ثلاثة شروط، علاقة التبعية بين التابع و المتبوع، خطأ التابع و العلاقة السببية بين خطأ المتبوع و ما استخدم التابع من أجله.
و إذا ما بحثنا عن تطبيق مبدأ المسؤولية في الدولة الجزائرية فإننا نجد أن أمراء بني الأغلب و الفاطميين و سلاطين الموحدين و المرابطين و بني مرين و بني زيان يجلسون لنظرا لمظالم و يعتبرونها من صلب وظيفة الإمارة.
و قد أبقي على ولاية المظالم في عهد الأتراك مع بعض الاختلاف ، و في عهد الأمير عبد القادر طبق مبدأ مسؤولية الدولة بصفة واسعة و موضوعية ، إذ حذا حذو الخلفاء الراشدين و تولى النظر بنفسه في ولاية المظالم و حرص على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، إذ كان يفصل في التظلمات المرفوعة إليه ضد موظفي الدولة و يتولى معاقبتهم مهما سمت درجة وظائفهم و مراكزهم، و يصدر في ذلك أحكام نهائية غير قابلة للطعن فيها [26] .
الفرع الثاني: المسؤولية الإدارية في عهد الاحتلال
لما كان الاحتلال الفرنسي للدولة الجزائرية غير مشروع بكافة المقاييس، ذلك أنه كان يهدف لتحقيق مصالحه اللامشروعة على حساب سيادة الدولة الجزائرية من جهة وحقوق وحريات الشعب ولاسيما مقدساته من جهة أخرى .
كان حتميا عليه أن تضع مبدءا أساسيا هو عدم مسؤوليتها عن الأعمال الضارة التي تمس بالجزائريين فقط .
وهو ما يتعرض مع مبدأ المسؤولية الإدارية وفق النظرية الغربية للمسؤولية الإدارية القائمة على تطبيقها بصورة متكاملة شاملة و ليست جزئية نسبية
حيث أمتد تطبيق مبدأ المسؤولية الإدارية إلى الجزائر وفق نفس القواعد و الأسس المقرة لمسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها و مرت بذات التطورات التي مر بها القضاء الإداري الفرنسي ، حيث أقام النظام القضائي الفرنسي في الجزائر جهات قضائية خاصة للفصل في المنازعات الخاصة بمسؤولية الإدارة عن أعمالها و موظفيها ، إذ أنشأت بمقتضى المرسوم المؤرخ في 30/09/1953 محاكم القضاء الإداري الثلاث في الجزائر وهي : محكمة الجزائر ، قسنطينة ووهران التي كانت تفصل في المنازعات الإدارية و التي من جملتها المنازعات الخاصة بالتعويض الإداري تحت إشراف مجلس الدولة الفرنسي بباريس كجهة قضائية للاستئناف و النقض [27] .
وعليه يمكننا أن نستنتج بأن تطبيق مبدأ المسؤولية الإدارية في الجزائر مقصورا على الفرنسيين والأجانب المستوطنين في الجزائر، الأمر الذي من شأنه أن يجعل هذا المبدأ نسبي طالما أن تطبيقه لم يشمل الجزائريين مما يفتح باب التعسف تجاههم ، وكل ذلك بهدف إرغامهم على الاعتراف بفرنسية الجزائر"
الفرع الثالث : المسؤولية الإدارية بعد الاستقلال
اختارت الدولة الجزائرية بعد الاستقلال الاستمرار في تطبيق التشريع الفرنسي خوفا من الوقوع في فراغ قانوني و طبقت ذلك وفقا للقانون 62-153 المؤرخ في 31/12/62، الذي قضى باستمرارية تطبيق التشريع الفرنسي إلا ما يتنافى مع السيادة الوطنية كأن يتعلق الأمر بالسياسة الداخلية و الخارجية للدولة الجزائرية أو التفرقة العنصرية، و قد ورد في ديباجة هذا القانون تبرير حول إختيار المشرع لهذا التمديد بقوله: " إذا كانت الظروف لا تسمح بإعطاء البلاد تشريع يتماشى مع احتياجاتها و طموحاتها فإنه من غير المعقول تركها تسير بدون قانون ’ و لذلك كان من الضروري تمديد مفعول القانون القديم و إستبعاد الأحكام التي تتنافي و السيادة الوطنية إلى أن يتم التمكن من وضع تشريع جديد "[28] .
و بموجب الأمر رقم 63-218 المؤرخ في 18/06/1963 تم إنشاء المجلس الأعلى كجهة نقض بالنسبة للقضاء العادي و الإداري.و لم تدم المرحلة الإنتقالية التي شهدها النظام القضائي طويلا، إذ صدر الأمر رقم 65-278 المؤرخ في 16/11/1965 و تضمن عدة إصلاحات و تنظيم قضائي جديد، إذ وضع حدا للازدواجية في مجال المنازعات بإلغاء المحاكم الإدارية الثلاثة (الجزائر، وهران، قسنطينة) و نقل اختصاصاتها للغرف الإدارية بالمجالس القضائية التي أنشأت بموجب المادة الأولى منه 15 خمس عشرة مجلسا، و أسند للغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى مهمة النظر ابتدائيا و نهائيا في الطعون بالبطلان في القرارات الإدارية و تفسيرها و فحص مدى مشروعيتها ’ كما تولى مجلس الثورة مهمة التشريع خلفا للمجلس الوطني، و قد جعلت هاته الإصلاحات و غيرها من النظام القضائي الجزائري نظاما متميزا عن النظام الفرنسي، و أثبتت الدولة الجزائرية من خلالها أنها حققت نجاحا على مستوى المنظمة القانونية و القضائية بالقضاء على نظام الازدواجية باعتبار أحد مخلفات الاستعمار.
و في المقابل كان تطبيق مبدأ مسؤولية الدولة بعد الاستقلال أمر حتمي و ضروري بعد المعاناة الطويلة التي عانى منها الجزائريين من استبداد و تعسف الإدارة الاستعمارية التي طبقت مبدأ عدم المسؤولية بكل أبعاده و آثاره رغم تقدم النظرية الفرنسية و تكريس مبدأ المسؤولية في فرنسا و حتى في الجزائر لكن بالنسبة للفرنسيين و الأجانب فقط[29] .
و قد سار القضاء الجزائري و حتى المشرع على نفس درب التشريع و القضاء الفرنسي، إذ طبق النظرية الفرنسية المتكاملة قضائيا و تشريعا و فقهيا المتعلقة بمبدأ المسؤولية الإدارية، و كرسها في العديد من القرارات القضائية الصادرة عن المجلس الأعلى أو مجلس الدولة بعد إنشائه بموجب القانون العضوى98-01 المؤرخ في 30/05/98 ، و كذا من خلال العديد من النصوص التشريعية و التي نذكر البعض منها فقط على سبيل المثال 2:
صدرت عدة نصوص تشريعية هامة تم بموجبها التوسع في أسس المسؤولية القانونية من الخطأ الشخصي للموظف إلى الخطأ المرفقي ثم ظهرت نظرية المخاطر الإدارية، و من بين هذه النصوص المادة 17/2 من القانون الأساسي للوظيفة العامة.
و المادة 139-145 من قانون 90-08 المتعلق بالبلدية التي كرست مسؤولية البلدية عن الأخطاء التي يرتكبها رئيس المجلس الشعبيالبلدى و المنتخبون البلديون و موظفي البلدية و كذا مسؤولية البلدية عن الخسائر و الأضرار الناجمة عن الجنايات و الجنح المرتكبة بالقوة العلنية أو بالعنف أو خلال التجمهر والتجمعاتو هو ما تقره أيضا المادة 118 من قانون 90-09 المتعلق بقانون الولاية التي تكرس مسؤولية الولاية.
و تجدر الإشارة إلى انه قد تقررت أيضا مسؤولية الإدارة بموجب نص دستوري المادة 145 من دستور 1996 .
و بتفحصنا لقرارات الغرفة الإدارية لمجلس قضاء بجاية وجدنا أن هناك تكريس واضح و كبير لمبدأ مسؤولية الإدارة، و مثال ذلك القرار الصادر بتاريخ 17/02/98 بين ع. ل القطاع الصحي لخراطة ، و القرار الصادر بتاريخ 10/06/2003.
بين ورثة (ب.ع) ورئيس بلدية أوزلاقن ، وكذا القرار الصادر بتاريخ 24/02/2004 بين خ. س و إدارة الجمارك.
و يمكن تلخيص العوامل التي أدت إلى انهيار مبدأ عدم مسؤولية الإدارة ليقوم مقامه مبدأ مسؤوليتها، إذ أضحى هو الأصل بعد أن كان الاستثناء و لتتحقق المساواة بين الإدارة و الأفراد في نقاط هي التالية :
1- الفهم الصحيح لمبدأ سيادة الدولة، إذ بعد أن كانت تفهم على أنها سلطة مطلقة لا تقيد بالقانون و بالتالي لا يمكن مقاضاتها أو إلزامها بدفع تعويض، فلم تعد حاليا تتنافي مع الخضوع للقانون و لا مطلقة، إذ تقيد بأحكام القانون الدولي العام على مستوى العلاقات الدولية، و تقيد بالقانون الداخلي على مستوى علاقاتها مع الأفراد، و بالتالي يمكن مساءلتها و تتحمل دفع تعويضات إذا ما ألحقت ضررا بأحد المواطنين.
و إن كان الفقيهان دوجي وجيز يريان أن فكرة السيادة خاطئة و تتنافي مع المنطق و المبادئ القانونية الحديثة، لأن الحكام و ممثليهم على مستوى الإدارات يتولون اختصاصاتهم في حدود القانون، و يسألون في حالة خروجهم عنهم.
2- انتشار الديمقراطية في معظم دول العالم، و هي النظام الأكثر تقبلا لفكرة المسؤولية و رقابة القضاء، و احتراما للقانون، إذ تقوم أساسا على مبدأ المشروعية و خضوع الجميع حكاما و محكومين للقانون.
3-انتقال الدول من المذهب الفردي الحر إلى مذهب التدخل و تبلور دورها من مجرد حارسة تنحصر مهمتها في حماية الأفراد و السهر على أمنهم و سلامتهم داخليا و خارجيا إلى تدخلها في مختلف الأنشطة و اتساع دورها، و هو ما جعلها تقوم بأنشطة مشابهة لأنشطة الأفراد.مما نجم عند ازدياد الأضرار التي تسببها الأفراد كما و نوعا، و زادت معه الحاجة الملحة لمساءلتها و تعويض الأفراد.
المبحث الثالث : المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ
تقوم المسؤولية بصفة عامة على ثلاثة أركان أساسية هي ركن الخطأ ، ركن الضرر و ركن العلاقة السببية بينهما
ولما تقرر مبدأ مسؤولية الإدارة عن أعمالها فإن أول أساس اعتمد عليه لتقريرها هو الخطأ .
و على هذا الأساس سنتطرق في هذا المبحث إلى بيان طبيعة الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية و صوره وكذا معايير التفرقة بينه وبين الخطأ الشخصي وفق ثلاثة مطالب على الترتيب
المطلب الأول : طبيعة الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية
المطلب الثاني: صور الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية
المطلب الثالث : معايير التفرقة بين الخطأ المرفقي و الخطأ الشخصي
المطلب الأول : طبيعة الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية
اتفق الفقه على أن الخطأ الذي يعقد المسؤولية الإدارية و يقرها ليس أي خطأ بل إنه خطأ من نوع خاص يختلف عن الخطأ المعهود الذي بموجبه تتقرر المسؤولية المدنية يعبر عنه بالخطأ المرفقي ، ونظرا لخصوصيته فإنه من الصعوبة بما كان إيجاد تعريف شامل له على الصعيدين الفقهي و القضائي، و لعل سبب ذلك كونه قضائي النشأة شأنه شأن القانون الإداري .
ويرى الدكتور سليمان محمد الطماوي أن هذا المصطلح ( الخطأ المرفقي ) يرجع للفقه الإداري الفرنسي 1
وقد عرف الخطأ المرفقي بأنه : " الخطأ الذي يشكل إخلالا بالتزامات وواجبات قانونية سابقة عن طريق التقصير و الإهمال الذي ينسب إلى المرفق العام ذاته ويعقد المسؤولية الإدارية2."
فالخطأ في طبيعته خطأ شخصي من موظف عام ولكن نظرا لاتصاله بالوظيفة العامة صبغ بصبغتها فتحول إلى خطأ وظيفي .
كما يعرفه الدكتور عمار عوابدي بأنه : " الخطأ الذي يشكل إخلالا بالتزامات وواجبات قانونية سابقة عن طريق التقصير و الإهمال الذي ينسب ويسند إلى المرفق العام ذاته ويقيم ويعقد المسؤولية الإدارية ويكون الاختصاص بالفصل و النظر فيه لجهة القضاء الإداري في النظم القانونية ذات النظام القضائي الإداري1 ."
المطلب الثاني :صور الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية :
إن التطرق لصور الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية يعني التطرق لصور الخطأ المرفقي ، فإذا كان هذا الأخير يتجسد في إخلال الإدارة بالتزاماتها ، فإن أمثلة هذا الإخلال تتعدد و تتنوع بتنوع الأنشطة الإدارية خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الهدف الذي تسعى له و المتمثل دائما في تحقيق المصلحة العامة .
ولذلك فإن صور إخلال الإدارة بالتزاماتها يتجلى لنا في ثلاثة صور أساسية نبرزها في ثلاثة فروع على الترتيب .
الفرع الأول : التنظيم السيئ للمرفق العام .
الفرع الثاني : سوء سير المرفق العام .
الفرع الثالث : عدم سير المرفق العام .
الفرع الأول :التنظيم السيئ للمرفق العام :
وتتحقق هذه الصورة في الحالة التي تكون فيها الأضرار اللاحقة بالضحية ناتجة عن التنظيم السيئ للمرفق العام ، فعندما تتوفر له كل الإمكانات المادية و البشرية لكنه لا بحسن استغلال هذه الوسائل ليضمن السير الحسن للمرفق العام ينسب الخطأ للمرفق ويتحمل عبء التعويض
وكذلك الأمر إذا ما تباطأت الإدارة في تنفيذ أمر كان يتحتم عليها تنفيذه تباطأ أكثر من اللازم والمعقول في أداء تلك الخدمات وترتب عنه ضرر للأشخاص فتقوم بذلك مسؤوليتها (الإدارة ) وتتحمل عبء التعويض .
وقد طبق القضاء الجزائري هذه الحالة عندما قضت الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا بموجب قرارها المؤرخ في 08/04/1966 ، وتتلخص وقائع القضية في إن الإدارة وظفت السيد حميطوش وفق شروط غير قانونية و لم تنتبه إلى هذه الوضعية إلا بعد مرور ثمانية سنوات عن توظيفه
- فأرادت الإدارة تصحيح هذه الغلطة ، فلجأت إلى إلغاء قرار توظيفه .
-رفع النزاع إلى الغرفة الإدارية التي قررت بأن هذا التأخير يشكل خطأ مرفقيا موجبا لمسؤولية الإدارة . 1
الفرع الثاني : سوء سير المرفق العام :
و تتمثل الخطأ هنا في الأعمال الإيجابية التي تؤدي بها الإدارة خدماتها ، ولكن على وجه سيء مما يسبب الإضرار بالغير سواء تجسد الخطأ هنا في صورة عمل مادي أو في صورة قرار إداري مخالف للقانون 2.
ويمكننا ذكر قضية فصلت فيها الغرفة الإدارية للمحكمة العليا قرار رقم 52862 بتاريخ 16/05/1988
وتتمثل في أن أحد المجانين (مريض عقلي ) أدخل المستشفى ووضع في نفس الغرفة التي يتواجد بها المطعون ضده (ب)
-حيث قام المطعون ضده بأعمال عنف أدت إلى وفاة ابن المطعون ضده ، رفضت الغرفة الإدارية جميع دفوع المستشفى الرامية إلى تقرير عدم مسؤوليته.
- حيث أن الغرفة الإدارية عرضت حيثياتها كما يلي :
- حيث أن إدارة المستشفى تقر بعلم عمال المستشفى وكذا المرضى بأن المدعو (م) مصاب بمرض عقلي، و أنه كان يتعين بالتالي حراسة خاصة عليه باعتباره يشكل خطرا محققا بالنسبة لنزلاء المستشفى ، و أن الأعوان الذين قرروا وضع المريض في نفس غرفة الضحية (ب ، م) خلقوا خطأ تتحمل الإدارة تبعته ، وأنه يوجد بالفعل في هذه القضية خطأ مرفقي "
ففي هذه القضية نلاحظ إهمال رقابة مريض عقلي تمثل سوء سير المرفق العام ( المستشفى) كصورة من صور الخطأ المرفقى .
الفرع الثالث : عدم سير المرفق العام :
هذه الصورة من صور الخطأ المرفقي أحدث نسبيا من الصور السابقة ، و ترجع إلى تبلور الأفكار الخاصة بسير المرافق العامة كون أن المبدأ الحديث المتجسد هو أن " سلطات الإدارة لم تعد امتيازا لها تباشره كيفما شاءت ومتى أرادت ، ولكنها واجب على الموظف يؤديه بكل أمانة و مع حرصه التام على المصلحة العامة1 .
ويتمثل الخطأ هنا في ذلك الموقف السلبي الذي يتخذه المرفق بامتناع أحد أدواته ( الموظف ) عن أداء خدماته أو الأعمال التي يكون ملزما بها قانونا .
وعليه يمكننا القول أن كل امتناع من شأنه أن يعطل السير المطرد للمرفق العام ويؤدي بذلك إلى تعطيل المصلحة العامة للأفراد يعني بالضرورة عدم سير للمرفق العام و هو ما يقر المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ المرفقي
وقد بدأ مجلس الدولة الفرنسي أولى تطبيقاته في هذه الحالة بمناسبة الأضرار الناجمة عن الأشغال العامة ، لكن يجب عدم الخلط بين الأضرار الناجمة عن قيام المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر و المسؤولية الإدارية عن الخطأ .
فإذا ترتب الخطأ نتيجة إهمال الإدارة في رقابة الأشخاص التي يجب عليها رقابتهم , ومثاله أن يكون تلميذ في مدرسة ويلحقه ضرر نتيجة الإهمال في الرقابة ’ وكما لو أهملت إدارة المستشفى الأمراض العقلية رقابة المجانين فتمكن أحدهم من الهرب أو أشعل حريقا .
وقد أخذ القضاء الإداري الجزائري بهذا الاتجاه ودليل ذلك أن الغرفة الإدارية فصلت في قضية عرفت باسم صاحبها وهو السيد ( بلقاسي ) ضد وزير العدل
الذي صدر فيها قرار في 19/04/1972 1.
وتتلخص وقائع هذه القضية في تلقي أحد كتاب الضبط المحكمة في شكل أوراق تمت مصادرتها من طرف الضبطية القضائية بمناسبة توقيف السيد (بن قاسي ) غير أن كاتب الضبط سهى عن تقديمها لوكيل الجمهورية .
وفي هذه الأثناء قررت الإدارة تبديل الأوراق المالية المتداولة بأوراق جديدة ’ و هكذا بقي المبلغ المحجوز في خزينة المحكمة دون تبديل .
وبعد الإفراج عن صاحبه (السيد بن قاسي ) ، قام هذا الأخير برفع دعوى ضد وزير العدل مطالبا بتعويضه عن الأضرار اللاحقة به جراء عدم قيام كاتب الضبط بواجباته ( عدم تبديل الأوراق المالية ) باعتباره موظف في مرفق القضاء .
ومن أشكال عدم سير المرفق العام التي ترتب المسؤولية الإدارية ، انعدام الصيانة العادية وهي صورة من صور المسؤولية عن الأشغال العمومية و التي قد تؤدي في بعض الحالات لحوادث المرور2 .
المطلب الثالث : معايير التفرقة بين الخطأ المرفقي و الخطأ الشخصي
إن اقتران الخطأ المرفقي بالخطأ الشخصي أمر لا مناص منه خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المرفق العام لا يمكن أن يسير باطراد ويحقق الغاية المرجوة منه إلا إذا توفر على مجموعة من الإمكانات أهمها البشرية ، هذه الأخيرة التي تتجسد في شخص الموظف،هذا الأخير الذي لا يمكن عصمته من الخطأ .
ولذلك فمن الأهمية بما كان التفرقة بين الخطأين لما في ذلك من أثار، خاصة من حيث تحديد الطبيعة القانونية للمسؤولية إن كانت مدنية أو إدارية ، وكذا تحديد الجهة القضائية المختصة بالفصل في منازعات التعويض التي يرفعها صاحب الشأن المضرور .
عرفه العميد هوريو بأنه : " الخطأ الذي يمكن فصله عن أعمال الوظيفة وواجباتها انفصالا ماديا و معنويا"1 . يمكن تعريف الخطأ الشخصي على أنه : " ذلك الخطأ الذي يرتكبه الموظف العام إخلالا بواجبات قانونية و التزامات يقرها القانون المدني ، فيكون بذلك الخطأ الشخصي للموظف العام خطأ مدني يرتب ويقيم المسؤولية الشخصية وقد يكون الإخلال بالواجبات القانونية و التزامات المقررة و المنظمة بواسطة قواعد القانون الإداري ، فيكون الخطأ المرتكب في هذه الحالة خطأ تأديبيا مقيما للمسؤولية التأديبية للموظف2 .
أما الفقيه لافيير فقد عرفه بأنه : " إن الخطأ يكون شخصيا عندما يصدر فعل ضار من الموظف في تأديته لوظيفته وكان هذا الفعل مطبوعا بطابع شخصي يتميز بعدم الحرص و التبصر ويكشف عن وهن الإنسان و أهوائه عد هذا الخطأ شخصيا ، وبذلك وجب البحث عن نية الموظف أثناء تأدية وظيفته .
ونستطيع أن نستخلص من هذه التعاريف أن الخطأ الشخصي هو ذلك الخطأ الذي يرتكبه الموظف العام تحقيقا لمصلحة شخصية من شأنها أن تحدث ضررا للغير .
وقد تعددت معايير التفرقة بين نوعي الخطأ لان القضاء لا يلتزم بقواعد ثابتة و معايير محددة وإنما يهتم بوضع الحل الملائم لكل حالة على حدى حسب الظروف المحيطة بها ’ وهو ما سنسلط عليه الضوء وفق ثلاثة فروع على الترتيب .
الفرع الأول : الخطأ الخارج عن نطاق الوظيفة
الفرع الثاني : الخطأ العمدي
الفرع الثالث : الخطأ الجسيم
الفرع الأول : الخطأ الخارج عن نطاق الوظيفة
يعتبر الخطأ شخصيا إذا كان الموظف أثناء ارتكابه له يقوم بعمل خارج عن نطاق الأعمال الوظيفية , وعلى ذلك فمتى كان الخطأ أثناء ارتكابه غريبا عن مجال العمل الإداري عد خطأ شخصيا .
أما إذا كان الموظف يقوم بأعمال تدخل في نطاق مهامه الوظيفية بشكل سيء عد مرتكبا لخطأ مرفقي موجب للمسؤولية الإدارية ، وهو ما سبق بيانه في المطلب الثاني .
وعلى هذا الأساس يعتبر خطأ شخصي الأفعال التي تتصل بالحياة الشخصية للموظف العام كلية و الأعمال التي لا تدخل في نطاق مباشرة الوظيفة ، ففي مثل هذه الحالات يسأل الموظف شخصيا عن الفعل الضار بصرف النظر عن نيته أو مدى جسامة الخطأ وينفصل هذا النوع من الخطأ عن الوظيفة ماديا وبالمقابل تنعقد المسؤولية الشخصية للموظف وفقا لقواعد القانون المدني و أمام المحاكم العادية ( المدنية ) وذلك لان الوظيفة العامة لا تستغرق الحياة الخاصة للموظف .
وقد ظهر هذا المعيار في قضية السيدة "ميمور " ، وتتلخص وقائع هذه لقضية التي فصل فيها مجلس الدولة الفرنسي بتاريخ 18/ 07 1947 في أن شاحنة عسكرية حطمت حائطا للسيدة ميمور وثبت من وقائع الحادث ان السائق خرج عن مسلك المرور المحدد له بالمهمة وارتكب هذا الضرر .
وذكر مجلس الدولة الفرنسي في هذا الحكم رغم أن الموظف أخطأ شخصيا عندما لم يحترم المسلك المحدد له وحمل المسؤولية للدولة كون الخطأ المرتكب له علاقة بالمرفق العام وصرح بموجب هذا الحكم بأن الدولة لها حق الرجوع غلى الموظف كون الخطأ المرتكب في الأصل هو خطأ شخصي .
الفرع الثاني : الخطأ العمدي
هذا النوع من الخطأ يبحث فيه القاضي على سوء نية صاحب الخطأ ، فيكون الخطأ شخصيا حتى ولو ارتكبه الموظف بحيث تحركه في هذه الحالة أغراض شخصية كالرغبة في الانتقام و الكيد تحقيقا لمنفعة ذاتية .
الفرع الثالث : الخطأ الجسيم
وفقا لهذا المعيار يعد الخطأ شخصيا حتى ولو استهدف تحقيق المصلحة العامة إذا كان جسيما وتظهر جسامة الخطأ في ثلاثة صور :
1- أن يخطيء الموظف خطا جسيما كما لو قام أحد الأطباء بتطعيم عدد من الأطفال ضد الدفتيريا بدون اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة مما أدى إلى تسمم الأطفال .
2- أن يخطيء الموظف خطأ قانونيا جسيما كما في حالة تجاوز اختصاصه بصورة بشعة كما لو أمر أحد الموظفين بهدم حائط يملكه أحد الأفراد .
3- أن يكون الفعل الصادر من أحد الموظفين مشكلا لجريمة جنائية تخضع لقانون العقوبات.
وقد أيد القضاء الجزائري هذه الفكرة ، حيث أصدرت الغرفة الجزائية حكما بالمجلس القضائي لتيزي وزو بتاريخ 04/03/ 1969 في قضية (د-أ ) ضد ضابط الشرطة القضائية السابق (ب-م) الذي كان ضابطا أثناء حدوث وقائع القضية ، وكان قد استولى على مفاتيح الدكان الذي يملكه (د - أ ) ، و الذي كان محبوسا في مركز الشرطة .
وحكم عليه بالمسؤولية الجنائية و المدنية الشخصية عن الضرر المادي و المعنوي المتولد عن خطئه الجنائي .
وقد لوحظ في هذا النطاق أن مجلس الدولة الفرنسي كان يميل لحماية الموظف العام وهو بصدد تقدير جسامة الخطأ ، فهو لا يعتبر الخطأ شخصيا إلا إذا كان في درجة خاصة استثنائية من الجسامة .
وللتفرقة بين الخطأين نتائجها و المتمثلة في نقاط هي التالية :
1)- تحديد الجهة القضائية المختصة بالفصل في النظم القانونية التي تطبق نظام الازدواجية في القضاء و القانون .
حيث تختص جهات القضاء الإداري بالفصل في دعاوى التعويض في المسؤولية الإدارية المنعقدة على أساس الخطأ المرفقي ، و بالمقابل تختص جهات القضاء العادي بالفصل في دعاوى المسؤولية المدنية و التعويض عندما يكون أساس المسؤولية هو الخطأ الشخصي للموظف العام .
2)- كما أن لهذه التفرقة أهميتها البالغة بالنسبة لحسن سير الوظيفة العامة وانتظامها و تقدمها ، حيث أنها تهيئ الجو اللائق و المناسب للوظيفة العامة ، إذ أن إدراك الموظف العام وهو يباشر مهامه في الوظيفة العامة بعدم مسؤوليته عن الأخطاء المرفقية الوظيفية ، من شأنه أن يخلق له الاطمئنان و الاستقرار النفسي ، مما يدفعه للخلق و الإبداع ، بينما عدم إعمال فكرة هذه التفرقة و مساءلته مدنيا يجعله يلقي بنفسه في أحضان الروتين .
3)- كما ترمي التفرقة إلى تحقيق فكرة العدالة في تحميل المسؤولية و عبء التعويض ، إلا أنه وفي هذا الصدد ينبغي الإشارة إلى أن فكرة العدالة هي فكرة نسبية في الواقع مطلقة في عالم المثل .
و رغم الفروق الجوهرية بين كل من الخطأين فإن العلاقة بينهما تبقى قائمة ، خاصة بعد ظهور فكرة الجمع بين مسؤولية الموظف و الإدارة تحت ظروف معينة .
فبعد أن كان القضاء الإداري ولمدة طويلة إن المسؤولية الإدارية مانعة للمسؤولية الشخصية بحيث لا تقوم مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ المرفقي مما وسع دائرة ضحايا الأخطاء المرتكبة من الموظف العام وفي ظل هذه الوضعية العملية المحرجة بدأت بوادر ظهور نظرية الجمع بين المسؤوليتين في إطار الجمع بين الخطأين .
وتطورت نظرية الجمع بين المسؤولية المرفقة و الشخصية إلى التفريق بين الجمع بين المسؤوليتين في حالة تعدد الأخطاء و الجمع بين المسؤوليتين في حالة الخطأ الواحد وهو الخطأ الشخصي ويتحقق جمع الاخطاء عندما يكون الضرر اللاحق بالضحية كان نتيجة تزاوج خطا شخصي و اخر مرفقي ارتكبهما موظف ما حيث تشترك كل من الوقائع المشكلة للخطا الشخصي وتلك المكونة للخطأ المرفقي وينتج الضرر عن كليهما معا .(1)
وقد سلم مجلس الدولة الفرنسي بهذه القاعدة لأول مرة في حكم له في قضية "انجي " الصادر بتاريخ 03/02/1911 .
حيث دخل المدعي للبريد لقبض حوالة ،وعند خروجه لاحظ أن الباب المخصص لذلك مغلق ، فلجا للباب المخصص للموظفين .
فأمسك به من طرف المستخدمين و القوه خارجا مسببين له كسرا ، وبناءا على دعوى المضرور ارتأى القاضي بان الحادث نتج عن خطأين متميزين هما :
1) - خطا مرفقي أو مصلحي ناتج عن غلق مكتب البريد قبل الوقت المحدد ، وعلى ذلك فالمرفق يسير بشكل سيء ( صورة من صور الخطأ المرفقي ) وهذا مصدر الضرر .
2) - خطأ شخصي لأعوان البريد الذين عاملوا المضرور (المدعي ) بقسوة عوض دعوته للخروج من المكتب بهدوء
و قد أخذت الغرفة الإدارية للمحكمة العليا بهذه النظرية ( نظرية الجمع بين الأخطاء في قضية " بلقاسي " ضد وزير العدل .
ونكون أمام جمع بين المسؤوليتين عند حدوث ضرر عن خطا شخصي ويقرر القاضي الفاصل في المنازعات الإدارية بمسؤولية الإدارة التي ينسب لها الفعل الضار .
وقد ظهرت نظرية الجمع بين المسؤوليتين على مرحلتين :
1/ جمع بين المسؤوليتين عند حدوث خطا شخصي يرتكب داخل المرفق العام
وقد قرر القضاء الفرنسي هذه النظرية لأول مرة في قضية " لومونتي " في قرار مجلس الدولة الصادر بتاريخ 26/07/1918
حيث قرر ان البلدية مسؤولة عن الخطأ الشخصي الذي ارتكبه رئيس البلدية و الذي كان منفصلا عن المرفق العام ، مبررا قراره قائلا : " يمكن للخطأ الشخصي المرتكب أثناء سير المرفق أن ينفصل عنه ، لكن لا ينفصل المرفق عن هذا الخطأ ." وقد تأثر القضاء الجزائري بهذه القاعدة .
2/ جمع بين المسؤوليتين بسبب حدوث خطأ شخصي خارج الخدمة
وتتحقق هذه الحالة عند ارتكاب الموظف لخطأ خارج الخدمة و له صلة بالمرفق العام ’ كما في حالة استخدام الموظفين للسيارات الحكومية التي في عهدتهم لأغراض خاصة فإذا تسببوا في إحداث ضرر للغير بهذه السيارات فقد استوجب القضاء الإداري قيام المسؤولية الإدارية على أساس أن السيارة المتسببة في الضرر تابعة للمرفق العام
وكذا المسؤولية الشخصية للموظف على أساس أنه استخدم السيارة في منفعة خاصة له خارجة عن نطاق مهامه الوظيفية .
وقد طبق القضاء الإداري الجزائري هذه الفكرة ، في قرار لمجلس الدولة صادر بتاريخ 01/02/1999 .
تتلخص وقائع القضية في أن : شرطي (ع .ر ) مهامه الحراسة بلباس مدني بمستودع ميترو الجزائر و كان حائزا لسلاحه الناري الخاص بعمله غير انه أهمل منصب عمله و ذهب إلى ساحة الشهداء ليشتري ( محارق ) واستخدم سلاحه ضد المدعو ( بشاني نور الدين ) و أصابه بجروح خطيرة أدت إلى وفاته
رفعت أرملته دعوى قضائية أمام الغرفة الإدارية لمجلس قضاء الجزائر مطالبة بالتعويض فحكم لها بالتعويض و أولادها .
و عند استئناف القرار الأخير تمام مجلس الدولة من طرف مديرية الأمن طالبة إخراجها من الخصام لان الخطأ كان شخصيا ، و الشرطي لم يكن في خدمته لكونه أهمل منصب عمله .
إلا أن طلبها قوبل بالرفض ، وتم تأييد الحكم المستأنف على أساس أن الحادث وقع بسبب وظيفته، و إن مديرية الأمن مسؤولة عن عمل تابعيها .
أما إذا ارتكب الخطأ خارج الخدمة ولم تستخدم فيه وسائل المرفق العام ، فان الخطأ يعد شخصيا محضا لانفصاله التام عن المرفق العام ماديا ومعنويا لتعقد بذلك المسؤولية الشخصية للموظف وحدها ، وعلى ذلك فان القضاء المختص بالنظر و الفصل في الدعوى في هذه الحالة هو مطلقا القضاء المدني ( العادي) وحده على أساس أن المسؤولية المعقودة في هذه الحالة هي مسؤولية مدنية
وعلى ذلك نستنتج أن نظرية الجمع بين المسؤوليتين هي وليدة نظرية الجمع بين الخطأين المرفقي و الشخصي ، وهو ما سيسمح للمضرور بالمطالبة بحقه وضمانه من الإدارة هذه الأخيرة التي تملك حق الرجوع على الموظف ومعنى ذلك أن الإدارة لا تتحمل المسؤولية الكاملة إلا في الخط المصلحي فقط ، في حين أن مسؤوليتها في حالة اقتران الخطأين الشخصي و المرفقي هي مسؤولية نسبية .
المبحث الرابع : المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر
ستتم معالجة أحاكم النظام القانوني للمسؤولية الإداري على أساس نظرية المخاطر وذلك بواسطة دراسة مدلول المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر وكذا دراسة شروط ومجالات تطبيق نظرية المخاطر كأساس قانوني للمسؤولية الإدارية ، وهذا ما سيأتي بيانه في الآتي وفقا لثلاث مطالب على التوالي :
مطلب الأول : مدلول المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر
مطلب الثاني : شروط المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر.
مطلب الثالث : مجالات تطبيق نظرية المخاطر .
المطلب الأول : مدلول المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر
إن موضوع نظرية المخاطر كأساس لمسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها تعد في الوقت الحالي من أدق الموضوعات في المسؤولية الإدارية ، حيث لا زالت غير واضحة المعالم فهي تدور في حدود السلطة التقديرية للقاضي وبعض التشريعات الجزئية والضئيلة في نطاق التوفيق بين تحقيق فكرة الصالح العام من جهة وبين مقتضيات حماية حقوق الأفراد وحرياتهم من جهة أخرى ، وغموض هذه النظرية يعود إلى حداثتها وجدتها خاصة وأن القضاء الفرنسي والذي أسهم بدور كبير في إنشاء وخلق هذه النظرية لم يكن في بداية الأمر يعلن بشكل صريح وهو بصدد الحكم والقضاء في قضية المسؤولية الإدارية على أساس هذه النظرية ولم يكن يعلن صراحة تبنيه لها واعتناقها كأساس لما يقضي به .
الفرع 01 : ماهية نظرية المخاطر كأساس قانوني للمسؤولية الإدارية
لمعالجة وتحديد مفهوم نظرية المخاطر كأساس قانوني للمسؤولية الإدارة ، يتم التطرق أولا لمعرفة كيفية نشأة وتطور نظرية المخاطر ثم محاولة تحديد أسسها فبيان خصائصها الذاتية .
أولا : نشأة وتطور نظرية المخاطر كأساس قانوني للمسؤولية الإدارية
بعد أن أخذت فكرة الخطأ تضعف شيئا فشيئا حتى كادت تختفي في بعض الحالات فقد تطورت فكرة الخطأ الشخصي المستوجب للمسؤولية والعقاب إلى فكرة الخطأ المفترض فرضا قابلا لإثبات العكس إلى الخطأ المفترض فرضا لا يقبل إثبات العكس ثم الخطأ المجهول في بعض الأحوال ثم نشأت وظهرت عند هذه النقطة نظرية المخاطر أو تحمل التعبئة ، سار القضاء العادي مع الفقه في مجال تطور الخطأ وقد وقف هذا القضاء عند الخطأ المفترض ولم يساير الفقه في تطور أساس المسؤولية التقصيرية ورفض تطبيق نظرية المخاطر1.
·أما فقه القانون الخاص فقد أنشأ وخلق هذه النظرية استجابة للتطور الذي يحصل في هذا الموضوع مستندا في ذلك إلى سببين سبب علمي نظري وهو ما قالت به المدرسة الوضعية الإيطالية بزعامة العلامة فيري من وجوب الاعتماد والتعديل والتركيز على الناحية والجانب الموضوعي في المسؤولية بوجه عام لا على الجانب والناحية الذاتية فيها حتى في شخص الجاني نفسه فإن ميدان تطبيقها الخصب هو القانون المدني .
أما السبب العملي الواقعي فهو ازدياد مخاطر العمل زيادة كبيرة تجعل من العسير على المضرور في أغلب الأحيان أن يثبت الخطأ في جانب من تسبب في إحداث الضرر الذي لحق به حتى يستطيع الرجوع عليه قضائيا بالتعويض فقد كان لتطور الحياة الحديثة بصفة عامة والتطور الذي أصاب جانب الحياة الاقتصادية بصفة خاصة منذ القرن التاسع عشر أثر كبير في تطور المسؤولية التقصيرية بوجه عام من المسؤولية شخصية على مسؤولية موضوعية ، وأساسها القانوني بوجه أخص .
·إذا كان القضاء العادي وخاصة في فرنسا قد رفض التسليم منذ البداية بهذه النظرية التي قال بها فقه القانون الخاص فإن هذا الفقه نفسه قد ارتد وتحول عن تشبثه بنظرية تحمل التبعية أو المخاطر بعد أن أعيته الحيل القانونية والمساعي الفقهية المختلفة التي حاول بها استدراج كل من المشرع و القضاء و إقناعهم بتبني هذه النظرية إلا أن هناك أقلية فقهية ظلت ثابتة في اعتقادها و إيمانها بسلامة هذه النظرية و جدواها . ومنطقيتها ...... بها و في مقدمة هذه الأقلية كل من «جوسران أومديمونج سافاتيه.»
·أما نظرية المخاطرة في القانون العام و خاصة في القانون الإداري فإن القضاء الإداري قد بعث فيها الروح و الحياة القوية من جديد فيعود إليه الفضل في إرساء قواعدها و تثبيت مبادئها في المسؤولية الإدارية التقصيرية . خاصة القضاء الإداري الفرنسي صانع و مطور هذه النظرية . الأمر الذي أدى بالمشرع إلى إصدار مجموعة من التشريعات تنص على قيام المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر مثل المشرع الفرنسي قوانين أسست الإدارة على المخاطر في بعض الحالات مثال ذلك التشريع الفرنسي . الصادر عام 1898 الذي يقضي و يقيم مسؤولية على أساس مخاطر أو تبعات المعرفة . و قانون 1919 و تشريع عام 1921 اللذان يقضيان و يوحيان مسؤولية الدولة إزاء ضحايا الحرب و المصانع الحربية (مصانع الذخيرة الحية) مخاطر الدفاع الوطني ....غير أن النصوص التشريعية التي تدل على اعتناق المشرع الفرنسي و تبنيه لنظرية المخاطر كأساس قانوني لمسؤولية الإدارة العامة دون خطأ تعتبر محدودة النطاق و قصيرة المدى بالنسبة إلى ما ذهب إلى تقرير القضاء الإداري في توسع هائل في تطبيق هذه النظرية الأمر الذي أدى ببعض الفقهاء إلى بيان و إبداء تخوفهم من طغيان هذه النظرية كأساس للمسؤولية على حساب ركن الخطأ الأمر الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى تبديد أموال الخزينة العامة فمجلس الدولة الفرنسي لم يتقيد بتلك الحالات التي أشارت إليها القوانين المذكورة بل قرر المسؤولية و منح التعويض على أساس المخاطر كما اتضح له أن القواعد العامة في المسؤولية على أساس الخطأ تتفانى بشكل ظاهر مع قواعد العدالة .
أما عن نظرية المخاطر كأساس لمسؤولية الإدارة في القانون الإداري الجزائري فهي مقررة جزئيا في التشريع و مطبقة قضاء كما هو الحال في فرنسا .
إذا أن الجزائر كانت إلى وقت قريب جدا أو مازالت نسبيا أو جزئيا تطبق الأحكام و النصوص والقواعد الموضوعية الفرنسية الخاصة بهذه النظرية . بالإضافة إلى أن المشرع الجزائري قد سن أو أصدر مجموعة من التشريعات التي تقرر و تعقد المسؤولية الإدارية عن أعمالها على أساس نظرية المخاطر زيادة إلى مجموعة التطبيقات الفرنسية القضائية .
ثانيا : أسس المخاطر كأساس قانوني للمسؤولية الإدارية
سوف نقتصر في بحث أسس نظرية المخاطر القانونية على التعرض للأسس القانونية التقليدية لها و هي :
مبدأ الغنم بالغرم . و مبدأ التضامن الاجتماعي . و مبدأ المساواة أمام التكاليف و الأعباء العامة و أخيرا مبدأ العدالة المجردة .
أ- مبدأ الغنم بالغرم :
إن قاعدة الغنم بالغرم إي مبدأ الارتباط بين المنافع و الأعباء تقوم أساسا قانونيا لنظرية المخاطر أو تحمل التبعة ، ذلك أن منطق هذه القاعدة تحتم على الجماعة التي تعود عليها المنافع و الفوائد و الغنم ، من الأعمال و النشاطات الإدارية التي تقوم بها السلطة الإدارية العامة تحقيقا و إنجازا لصالح الجماعة و التي سببت أضرار الغير من الأشخاص من الأشخاص و الأفراد تجعل من المحتم تحمل الجماعة العامة في مقابل الغنم و الثمار و الفوائد التي جنتها و عادت عليها من الأعمال و الإدارية الضارة ، يجب عليها في مقابل ذلك أن تتحمل في النهاية عبء دفع التعويض للمضرور و ذلك عن طريق التعويض الذي يجب أن تدفعه الدولة باسم الجماعة من الخزينة التي تتكون من مجموع الضرائب و الرسوم التي يدفعها و يقدمها أفراد هذه الجماعة أي أن الخزينة العامة هي ذمة الجماعة أن تتحمل فيها مسؤولية نتائج مفاتمها
ب- مبدأ التضامن الاجتماعي :
كما أن التضامن الاجتماعي في المجتمع الذي يحركه ويقوده الضمير الجماعي يستوجب ويحتم على هذه الجماعة أن ترفع وتدفع الضرر الاستثنائي الذي يتسبب لأحد أعضائها بتسديده بالتعويض الذي يجب أن تدفعه الدولة من الخزينة العامة المضرور من أعضاء الجماعة العامة على اعتبار أن هذه الدولة ممثلة وأداة لهذه الجماعة وتجسيد لها .
كما أن الصالح العام للجماعة يقضي ويستوجب عقلا أن يرفع الضرر الاستثنائي الذي يلحق بأحد أفراد وأشخاص هذه الجماع لأن فكرة الصالح العام في مفهومها الديناميكي تعني تحقيق العدالة والتقدم فمن مصلحة الجماعة بكل تأكيد أن تعويض الأضرار التي تصيب أفرادها من جراء العمل أو النشاط الإداري تحقيقا للصالح العام بهذه الجماعة حتى يسود الاطمئنان والنظام والعدالة والاستقرار النفسي ليتفرغ أفراد وأعضاء هذه الجماعة كلية وبفاعلية لنشاطاتهم وأعمالهم المثمرة لفائدة الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية للجماعة .
ككل في النهاية ، وإن هذا الالتزام من قبل الدولة أو الجماعة العامة بالتعويض عن الأضرار التي تسببها مخاطر العمل والنشاط الإداري هو التزام قانوني وليس التزاما أدبيا أخلاقيا مبعثه الشفقة والرحمة كما يدعي بعض الفقهاء ذلك أن هذه الجماعة عندما تسأل عن مخاطر ونشاط السلطة الإدارية لأنها أولا قد غنمت واستفادت وكسبت وأثرت من جراء هذه الأضرار وثانيا أن مصلحة هذه الجماعة العام قد طغت في ظل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة الحديثة على حساب حقوق ومصالح الأفراد الخاصة لدرجة أنها حولتها مع التطور إلى مجرد مراكز قانونية ذاتية كما أن أصبح من المسلم به في الدولة الحديثة أنها مسؤولية عن اتخاذ كافة الاحتياطات الوقائية والكافية لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم وأرواحهم .
الأمر الذي يجعل مسؤولية الجماعة ممثلة في السلطة الإدارية العامة التي تعمل لصالحها مسؤولية قانونية بالمعنى الفني الدقيق للمسؤولية وليس التزاما أخلاقيا وأدبيا (مساعدة) فلو كان الذي يتحمل عبء المسؤولية هنا هو شخص عادي لأمكن مشاركة ومشاطرة الفقيه الفرنسي هوريو الرأي والقول بأن المسؤولية هنا هي مسؤولية أخلاقية وليست قانونية ، أما وإن الدولة هي التي تسأل وتتحمل عبء دفع التعويض من الخزينة العامة فيها فمن المغالطة والمصادر للحقيقة القول والتقرير بأن مسؤوليتها في هذه الحالة هي مسؤولية أخلاقية أدبية أساسها الشفقة والرحمة ومضمونها المساعدة ، وأننا نعتقد بأن الذي أغرى الفقيه هوريو فيما ذهب إليه هنا هو فكرة الدولة الحارسة أما وإن الدولة قد أصبحت دولة متدخلة على اختلاف درجات التدخل وصوره فإن رأيه هذا قد أصبح في حاجة إلى إعادة نظر وتصحيح ...هكذا تبرر النظرية التضامنية ضرورة ما يسمى في الوقت الحاضر بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية للأفراد باعتبار أن روابط التضامن الاجتماعي بين الأفراد توجب هذه الحقوق وتسمح بقيامها جنبا إلى جنب مع الحريات الفردية ، ومن ثم توسع النظرية التضامنية من دائرة حقوق الأفراد قبل الدولة .
ومن هذه الحقوق رفع الأضرار التي يسببها عمل ونشاط السلطة الإدارية العامة حتى ولو انعدم خطؤها أو انتفى .
- هذا وقد اعتنق المشرع الفرنسي هذا المبدأ كأساس للمسؤولية على أساس نظرية المخاطر وذلك ديباجة دستور فرنسا لعام 1946 وكذا المشرع الجزائري والذي اعتنق هذه القاعدة أيضا : «تسهم الدولة بموجب الخطر الاجتماعي في رفع النصيب من الإتلاف والأضرار المسببة»
ج ـ مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة :
إذا كان مبدأ المساواة القانونية يعني المساواة في المعاملة بين جميع أفراد الدولة طبقا للقاعدة القانونية العامة دون تمييز أو استثناء ، وتحويل جميع الأفراد قدرا متساويا من الحريات العامة ، معنوية كانت أو مادية وتقرير وفرض في حقهم قدرا متساويا من الأعباء والتكاليف والواجبات العامة وبذلك يكون لمبدأ المساواة وجهان :
·الوجه الأول : يتمثل في المساواة في الحقوق والمنافع التي تتمثل وتتجسد في المساواة أمام القانون والمساواة أمام الوظائف العامة والمساواة أمام خدمات المرافق العامة....
أما الوجه الثاني : لمبدأ المساواة أي المساواة في الأعباء والتكاليف العامة (المساواة في التصفية) بالمفهوم الإداري الخاص (المساواة أمام الضرائب) هو الذي يقوم أساسا لنظرية المخاطر أو تحمل التعبئة كأساس قانوني لمسؤولية السلطة الإدارية دون خطأ من موظفيها فاحترام قدسية هذا المبدأ الهام والأساسي في القانون العام ، مبدأ مساواة الجميع أمام الأعباء والتضحيات العامة ، يحتم قيام وانعقاد مسؤولية الإدارة على أساس المخاطر في حالة حدوث ضرر أو أضرار خاصة واستثنائية لبعض الأفراد ، ذلك أن كل ضرر يصيب فردا أو شخصا ما في الدولة وتجاوز من حيث طبيعته أو أهميته أو مدته ما توجب الحياة العامة والمصلحة العامة تحمله ومن شأنه أن يخل ويهدم مبدأ المساواة أمام التكاليف والأعباء العامة بين المواطنين في الدولة حيث يفرض على البعض من المواطنين (المضرورين) في سبيل المصلحة العامة تكاليف وأعباء وتضحيات تزيد عن تلك التي يتحملها باقي أفراد وأعضاء الجماعة في الدولة فيختل بذلك التوازن في بناء مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة ولاسيما أن المساواة الحقيقية والفعلية عدت في الوقت الحاضر هي المساواة في التضحية والتكاليف والواجبات مما يتوجب ويتحتم عدلا وقانونا وتطبيقا ومع مبادئ وقواعد المواثيق الدستورية والقانونية في الدولة ، إعادة وإصلاح هذا التوازن المختل والمفقود بتشتت خسارة الضرر الناجم بتوزيع عبء التعويض المستحق للمضرور أو المضرورين على أفراد الجماعة العامة الذي تدفعه الدولة من الخزينة العامة التي تتكون من مجموع الضرائب والإيرادات العامة التي يدفعها ويتحمل أعباءها الممولون المواطنون في هذه الدولة ، وهذه الخزينة العامة التي كانت أيضا السبب المباشر الذي حرك النشاط الإداري الضار ، وبذلك توزع قيمة التعويض على جميع أفراد الجماعة الممولين لخزانة الدولة وشتيت الخسارة وتفتيت التضحية ، الأمر الذي يؤدي إلى إعادة بناء مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة ، وبذلك يؤدي هذا المبدأ إلى ضرورة وحتمية قيام نظرية المخاطر أو تحمل التبعة كأساس لمسؤولية الإدارة العامة غير الخطيئة
«هذه النظرية تقرر أهمية بلا خطأ عندما تزول المساواة بين المواطنين بسبب قرار من السلطة السياسية (مسؤولية بسبب قانون أو لائحة أو سبب تصرفات من الإدارة بما لها من امتيازات ، ووسائل استثنائية في مجال الأشغال العمومية) وهي تقرر أيضا امتداد هذه المسؤولية إلى جميع الحالات التي تخلق فيها الإدارة ، بنشاطها كسلطة عامة أو مرفق عام ، خطر خاصا يؤدي إلى زوال المساواة المشار إليها. . »
ولقد أشار المشرع الجزائري إلى مبدأ المساواة أمام الأعباء والتكاليف العامة هذا كأساس لنظرية المخاطر التي توجب وتحتم قيام مسؤولية الإدارة الجزائرية عن الأعمال والنشاطات الضارة ، وقرر ذلك في المادة : 172 من القانون البلدي الجزائري ، إذ نص على أن التعويضات المستحقة والمحكوم بها على البلديات في نطاق مسؤوليتها أما الأفراد عن الأضرار الناجمة عن أعمالها و أعمال موظفيها المشروعة أن هذه التعويضات تدفع من ميزانية البلدية المسؤولة و بالذات من ضرائبها المباشرة للبلدية الواقع على إقليمها الضرر و توزع قيمة التعويض بنسب متساوية على جميع الأشخاص و الأفراد المسجلين و المقيدين في جدول الضرائب المباشرة ما عدا الأشخاص و الأفراد الواقع عليهم الضرر و الذين تمنح لهم التعويضات مع إسهام الدولة عن طريق الميزانية العامة في دفع التعويضات حتى يتحقق مبدأ المساواة في التضحية و التكاليف العامة في الدولة الجزائرية :«إن التعويضات عن الأضرار و النفقات التي تكون البلديات مسئولة عنها من جراء هذه الأضرار توزع بالاستناد إلى جدول خاص بين جميع الأشخاص المقيدين في جدول الضرائب المباشرة باستثناء ضحايا الحوادث الذين قد تمنح تعويضات لهم ، وذلك بنسبة مئوية للمبلغ الأصلي المتعلق بجميع الضرائب المباشرة . »
·فهكذا ترى أن المشرع الجزائري ، قد جسد قانونا و عملا مبدأ المساواة أمام الأعباء و التكاليف العامة في الدولة الجزائرية كأساس لمسؤوليتها عن أعمالها الضارة قبل الأفراد و الأشخاص .
د - مبدأ العدالة :
كما أن مبدأ العدالة المجردة يقضي و تحتم رفع عن صاحبه المسؤولية مهما كان مصدره مشروعا حتى يستطيع الشخص المضرور استئناف حياته و مبدأ العدالة يقضي بذلك منطقا، لأن الأخلاق الإنسانية ترفض أن يلحق بالغير من الأفراد أضرار دون تعويض و لاسيما إذا كانت هذه الأضرار صادرة من أعمال و نشاطات المسئول على تحقيق وظيفة العدالة في المجتمع .و قانونا إن الفعل الضار هو مصدر من مصادر الالتزام سيما الالتزام بالمسؤولية و التعويض عن الضرر إذا ما تسبب لأحد الأشخاص . و منطقا أن مبدأ العدالة هو الغاية المترجمة و المجسدة في فكرة الصالح العام المشترك الذي يمرر وجود السلطة العامة و يحرك أعمالها و إجراءاتها و أساليبها التي قد تكون مصدر أضرار و أخطار خاصة و استثنائية لبعض الأفراد في المجتمع الأمر الذي يحم عدالة على الدولة أن تتحمل المسؤولية عن نتائج أعمالها الضارة و التي قد تكون مشروعة استثنائية (غير طبيعية) و التي سبب للأفراد و الأشخاص أضرار خاصة و استثنائية لهم ذلك على أساس نظرية المخاطر التي تحقق في هذا المجال ذلك التوفيق و التوازن الضروري و الحقيقي و الحتمي بين اعتباري مبدأ العدالة المتمثل في رفع الأضرار عن الأفراد و حماية حقوقهم و أرواحهم من جهة و اعتبار فكرة الصالح المشترك للجماعة المتمثل هنا في ضرورة سير المرافق العامة بانتظام و اطراد ، و ما يقتضيه في الحفاظ على أموال الخزينة العامة للدولة عن الإسراف و التبذير في نواحي شتى منها التعويضات التي قد يكون مبالغا و تقديرها للمضرورين من أعمال السلطة الإدارية .
فرع 2 : خصائص نظرية المخاطر القانوني الإداري
تتميز نظرية المخاطر كأساس لمسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها بمجموعة من خصائص تحدد ماهيتها و مكانتها من أساس المسؤولية الإدارية ، و تحدد و تبين مداها و نطاقها و حدودها من هذه الخصائص : إنها في نطاق القانون الإداري نظرية قضائية ، كما أنه لا يشترط في شأنها ضرورة صدور قرار إداري وأنها ذات صفة و مكانة تكميلية ثانوية بالنسبة إلى أساس القانوني الأصيل للمسؤولية الإدارية و هو الخطأ المرفقي أو الوظيفي ، كما تتصف بأنها ليست مطلقة فهي تتحرك و تقوم في نطاق محدود في محيط دائرة الاعتبارات ة الظروف المختلفة اقتصاديا (ماليا) و دستوريا و سياسيا و التي تحيط بها زمانا و مكانا و أخيرا تتصف و تتميز بأنه يترتب عليها دائما الحكم بالتعويض و أننا نحاول بإيجاز إبراز جوانب و حقيقة هذه الخصائص تباعا فيما يلي :
أ - أولا : نظرية المخاطر نظرية قضائية في عمومها :
لقد سبق القول و التقرير أن لنظرية المخاطر في القانون الإداري يعود الفضل في وجودها وإبرازها وتطبيقها إلى القضاء الإداري وخاصة القضاء الإداري الفرنسي الذي توسع فيها كثيرا قواعدها وأسسها وحدد شروطها ومجالات تطبيقاتها ، أما دور المشرع فيها فهو دور ضعيف حيث أن المشرع قد قرر هذه النظرية في نطاق محدود جدا بغير تحديد شامل لجوانبها وطبيعتها .
فنظرية المخاطر في القانون الإداري هي نظرية قضائية في جملتها وسنوضح ذلك بالتأكيد في موضوع تطبيقات هذه النظرية .
ب - ثانيا : لا يشترط فيها صدور قرار إداري :
إذا كان نشاط السلطة الإدارية وأعمالها تتكون وتشمل الأعمال والتصرفات القانونية التي تجربها وتقوم بها ومنها القرارات الإدارية والأعمال المادية التي تأتيها ، فإنه لا يشترط في تطبيق هذه النظرية بصدور قرار إداري حتى يحكم بالمسؤولية الإدارية على أساسها ، وهي بذلك تختلف وتتميز عن كل من نظريتي الانحراف بالسلطة الإدارية والتعسف في استعمال الحقوق الإدارية ، اللتان يشترطا فيها صدور قرار إداري فنظرية المخاطر تقوم أساسا لمسؤولية السلطة الإدارية عن أعمال موظفيها في حالة الضرر الناشئ عن القرارات السليمة من العيوب المعروفة التي قد تشوب أركانها بحيث لا تصبح تشكل خطأ مرفقيها أو وظيفيا على النحو السابق بيانه ، كما أنها تقوم أساسا للمسؤولية الناجمة عن الأعمال والأفعال الإدارية المادية التي يصبح الخطأ المرفقي أو المصلحي فيها معدوما أو مجهولا على الوجه السابق توضيحه ، وبحيث يصبح تطلب قيامه وإثباته للحكم بالتعويض متعارضا ومتناقضا مع أبسط قواعد العدالة وروحها .
جـ- نظرية المخاطر نظرية تكميلية استثنائية :
أن الأساس القانوني الأصيل والطبيعي للمسؤولية بصفة عامة ومسؤولية الإدارة بصفة خاصة وهو الخطأ ، ولكن قد تبين لنا فيما سبق أن العمل أو النشاط الإداري الضار قد لابسه ملابسات وتحيط به ظروف تجعل الخطأ معدوما أو مجهولا لا يتطلب القضاء إثباته للحكم بالتعويض للمضرور قبل الإدارة العامة ويحكم بذلك على أساس المخاطر فكانت بذلك هذه النظري أساسا قانونيا ذي صفة ومكانة ثانوية تكميلية استثنائية ، بالنسبة إلى الأساس الطبيعي والأصيل في المسؤولية لأي الخطأ (الخطأ الوظيفي) ... فهي أساس قانوني استثنائي قرره القضاء الإداري كصمام أمان وصيغة قانونية تحقق التوازن بين الحقوق والامتيازات المقررة للإدارة من حيث إعفائها في بعض الحالات من الخطأ وإصباغ أعمالها وأفعالها الضار بصفة المشروعية .
د- نظرية المخاطر ليست مطلقة في مداها :
سبق القول بأن نظرية المخاطر ليست الأساس العام والأصيل للمسؤولية الإدارة بل هي أساس قانوني استثنائي لهذه المسؤولية كوسيلة للإسعاف والتلطيف كلما تعارضت القواعد العامة للمسؤولية مع قواعد العدالة تعارضا صارخا ، فهي أيضا لقيت مطلقة في مداها وأبعادها أي القضاء لا يلجأ إليها دائما ، كلما انتقى الخطأ أو استحال إثباته لأن القضاء محكوم ومقيد في إطار النظر والفصل في مسؤولية السلطة الإدارية دون خطأ بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الدولة والاعتبارات المالية لخزينتها العامة ، فإذا كان القضاء الإداري قد أسى ووطد قواعد هذه النظرية حماية وتأمينا لحقوق الأفراد ومصالحهم في مواجهة أعمال ونشاطات السلطة الإدارية المستمرة و المطردة في التزايد و التوسع مع مرور الوقت لمخاطرها الكثيرة من جهة و تأمينا لحرية الحركة للسلطة الإدارية ، و العمل على تحقيق الصالح العام المشترك من جهة أخرى ، فإن على هذا القضاء دائما أن يراعي مقدرة الدولة المالية و إمكانياتها المادية ، فلا يجب أن يثقل كاهلها بالإسراف في مكمة بمسؤولية الإدارة على أساس المخاطر أو تحمل التبعة ، و من ثم فإن نظرية المخاطر هذه غير مطلقة بل مقيدة و محكومة بأوضاع الدولة و ظروفها الاقتصادية و قدرتها المالية ، وهذه الخاصية أو الميزة جعلت عملية تدخل المشرع لتحديد نطاق و حدود نظرية كأساس للمسؤولية الإدارية أمرا حتى لا يتوسع كثيرا لدرجة أن تصح عامل إرهاق و إثقال الدولة ماليا و اقتصاديا فتعقدها عن الحركة و التقدم في سبيل التنمية الوطنية أو الإنعاش الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي في المجتمع .
هذا و لقد حاول المشرع في كثير من الدول أن يجعل من هذه النظرية عملية تشريعية بحتة لا يجب الحكم بالمسؤولية على أساسها ، إلا إذا نص القانون على ذلك كما هو الحال في جمهورية مصر العربية ، بينما اكتفى المشرع الفرنسي بتتبع خطوات مجلس الدولة الفرنسي في هذا الصدد بإصدار تشريعات لاحقة غالبا ما تأتي جزئية و متأخرة بالنسبة لما كان يقضي به مجلس الدولة على أساس هذه النظرية من مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها ، أما محاولات القضاء الإداري في نطاق تحديد مجال حالات المسؤولية على أساس المخاطر تتجلى في الشروط الخاصة التي وضعها و تطلبها في الضرر الناجم عن العمل أو النشاط الإداري حتى بالمسؤولية و ذلك لدرء إطلاقيتها و عموميتها فقد اشترط القضاء الإداري في الضرر و الناشئ بالإضافة إلى الشروط العامة شروطا خاصة حتى يحكم بالتعويض على أساسها
هـ - الجزاء على أساسها يكون دائما التعويض :
إن تطبيق نظرية المخاطر يؤدي إلى حكم بالتعويض حيث أن هذه النظرية لا علاقة لها إطلاقا بقضاء الإلغاء ، فهي بذلك تختلف عن نظرية الانحراف بالسلطة و تلتقي مع نظرية و التعسف في استعمال الحقوق الإدارية إذ يحكم فيها دائما هي أيضا بالتعويض بالإلغاء لأن القرار الإداري فيها سلمت جميع أركانها من عيوب المشروعية المعروفة ، و بالتالي لم يعد معه التصرف القانوني منطويا على خطأ مرفقي «مصلحي» أو شخصي فلا يجوز الطعن بإلغاء في القرار الإداري السليم و إنما يمكن أن يحكم بالتعويض لأمل على أساس نظرية المخاطر أو على أساس نظرية التعسف في استعمال الحقوق الإدارية ، فنظرية المخاطر على أساسها دائما التعويض لا الإلغاء .