الفرع الثالث : حتمية التدخل الجنائى فى مجال الشركات
رغم الاعتراف من جانبنا بكل ما قيل حول عدم الفاعلية التى أصابت التدخل الجنائى فى مجال إدارة الشركات فإننا مع ذلك لا نقر أبدا بفكرة عدم لزوم الدور الجنائى فى هذا المجال. فكما أكد أحد الفقهاء إننا لا يمكن القول بعدم جدوى القانون بمجرد أن جريمة ما لم تجد محلا للتطبيق. فمجرد وجودها يردع كثيرين عن مخالفتها Le fait qu’aucune infraction n’ait été relevée n’implique pas l’inutilité de la loi. Sa seule présence dissuade un grande nombre de citoyens de la transgresser . هذه الوجهة من النظر يجب تأييدها حيث تؤكد الشواهد أن حالات الانحراف بإدارة الشركة فى تزايد مستمر وكما يؤكد المنشور الوزارى الصادر فى 20 أكتوبر 1981 عن وزارة العدل الفرنسية فإن اللجوء لنصوص جنائية صارمة هو أمر لا مفر منة من أجل مناهضة الانحرافات المالية داخل الشركات. بل ويدعو وزير العدل فى هذا المنشور القاضى الجنائى إلى التصرف بحزم تجاه إجرام رجال الأعمال حيث يمثل الانحراف اعتداء ليس فقط على المصالح المالية للمساهمين بل على المصالح الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع ككل حيث يهتز الهيكل الاقتصادى والمالى للدولة ذاتها ويهز بالتالى ثقة الجمهور فى سياستها الاقتصادية مما يخش معه هرب رأس المال الوطنى والأجنبى وإحجامه عن الاستثمار فيها.
والواقع أن النظرة الحمائية للمساهمين, خاصة ممن لا يشتركون فى الإدارة ذاتها, وحماية الادخار العام والغير المتعاملين مع الشركة هو الذى شجع على إلباس قانون الشركات الفرنسى طابعة الجنائى حيث فشلت الجزاءات المدنية والتجارية (البطلان والتعويض) فى تحجيم الانحرافات فى الإدارة. ويقول أحد الفقهاء فى ذلك "أنه من أجل حماية الشركاء ودائنى الشركة ضد الأساليب المنحرفة وغير الأمنية للقائمين على إدارتها فإنه لا يكفى التسليم بالمسئولية المدنية والجزاءات المهنية. فإننا فى الواقع لم نجد علاجا ناجعا وأكثر فاعليه من التهديد بالعقوبات الجنائية الصارمة" .
هذه الحقيقة يؤكدها الشعور الدائم للمواطن العادى بأنه لا يعتبر خارجا عن القانون إلا من ينتهك النصوص الجنائية ويعتبر من قبيل الذكاء ودعوة للفخر وأمرا غير مشين التحايل على قواعد القانون المدنى أو التجارى وما يشابهها. من هنا جاء تفضيل الجزاء الجنائى دائما على الأنواع الأخرى من الجزاءات. فالمشرع لدية الاعتقاد أن هذا المنحى يضمن التطبيق الفعال لنصوص القانون بأفضل مما لو ترك الأمر لجزاءات من نوع أخر.
وتنكشف لنا أهمية اللجوء للجزاء الجنائى عندما نحلل البطلانLa nullité مثلا كجزاء مدنى وتجارى طبيعى ومنطقى لأى تصرف تم بالمخالفة للنصوص الآمرة التى تحكم الشركات. فهذا الجزاء يبدو لنا فى هذا المجال, خاصة بعد عدة سنوات من حياة الشركة, كارثة وإجراء غير عادل فى أثاره ويخلق نوعا من عدم الاستقرار فى العلاقات القانونية. فهذا الجزاء له نتائج أكثر خطورة فى مجال الشركات منه فى أى عقد أخر، حيث أن نشاط الشركة يهم طائفة كبيرة من الأشخاص من المساهمين والغير حسنى النية ممن تعاملوا مع الشركة كالعمال بها والموردين وغيرهم ممن يكون رجوعهم على مؤسسى الشركة عند القضاء بالبطلان بحقوقهم أمر تكتنفه الكثير من الصعوبات ويصبح أمرا مشكوكا فيه. بل إن خطورة هذا الجزاء تظهر حينما يمتد البطلان ليس فقط إلى تصرف من تصرفات الشركة ولكن إلى عقد الشركة ذاتها.
ويكفينا دليلا على ضرورة الاستعانة بالجزاء الجنائى فى هذا المجال أنه مع بداية الثلاثينيات من القرن الماضى، حينما بدأ المشرع الفرنسى فى الأخذ بفكرة التدخل الجنائى فى محيط الشركات عن طريق جرائم خاصة بعيدا عن القواعد التقليدية المتعلقة بجرائم الأموال، بدأ عدد المنازعات والانحرافات الخاصة بإدارة الشركة فى التناقص ولا يمكن إسناد هذه الظاهرة إلا للخوف من هذا الحارس الجديد المسمى بالقاضى الجنائى La peur de ce gendarme qu’est le juge pénal.
أيا ما كان الأمر فإن التدخل الجنائى فى محيط الشركات التجارية أصبح حقيقة واقعه فى القانون الفرنسى الصادر فى 24 يوليو 1966 ولنا أن نقرر بأن هذا التدخل إنما تبرره ثلاثة أمور:
1- الحاجة لإعادة التوازن بين السلطات داخل الشركة
2- حماية المصلحة العامة ضد احتمالات الانحراف من قبل القائمين على الإدارة
3- حماية روح المبادأة اللازمة لنجاح الإدارة داخل الشركة
وسنوالى شرح هذه العناصر على النحو التالى:
1- إعادة التوازن بين السلطات داخل الشركةLe rééquilibrage des pouvoirs sociaux
إن تنظيم إدارة الشركات, وفق قانون 24 يوليو 1966, قد يبدو أنه يتصف بالطابع الديمقراطى الذى يظهر فيه المساهمين وكأن لهم اليد العليا داخل الشركة. فمن خلال تجمعهم فى إطار الجمعية العمومية فإن لهم حق اتخاذ القرارات الهامة فى حياة الشركة، ومنها تعيين وعزل القائمين علي الإدارة ورقابة الأداء والتصديق والأذن ببعض التصرفات، بينما يظهر القائمين على الإدارة فى وضع التابعين.
غير أن هذا المنظور الديمقراطى قد صادفه الفشل. فالتجربة العملية ومنطق حياة الأعمال قد أثبتت أن هناك تناقضا بين ما تضعه النصوص القانونية وبين حقائق التطبيق الواقعى والذى يخفى وراء هذا الشكل الديمقراطى نمطا من حكم الأقلية يتسيد فيه القائمين على الإدارة على قلتهم. فأولئك عمليا يمارسون سلطات واسعة يديرون بها دفة الأمور ويبدو وكأن المساهمين أو الشركاء وقد قد عبروا عن رضاء سلبى أو ضمنى بالتنازل عن السلطة. ويبدون كما عبر الفقيه Ripert بأنهم أصبحوا كقطيع بين يدى القائمين عن الإدارة .
هذا الخلل فى علاقات السلطة داخل الشركة، الذى يبرره فى رأينا فكرة سلبية المساهمينPassivité des actionnaires داخل الجمعيات العمومية ، استوجب الاعتماد على التدخل الجنائى من أجل حماية المساهمين من عسف التصرفات غير المشروعة أو غير الأمينة من قبل القائمين على الإدارة ولإعادة التوازن بين الحكام والمحكومين، على حد قول أحد الفقهاء ، عجزت عن تحقيقه نصوص القانون المدنى والتجارى بل وعجزت أيضا عن تحقيقه الجرائم العامة الواردة فى قانون العقوبات .
فهاهو العميد Hamel فى تقديمه لمؤلف القانون الجنائى الخاص لشركات المساهمةDroit pénal spécial des sociétés anonymes يتسآل هل من الضرورى أن يتدخل المشرع الجنائى فى حياة الشركة ؟ ويجيب على هذا التساؤل إيجابا بقوله : أنه إذا كان صحيحا أن القانون التجارى أو قانون الأعمال هو قانون يتعين أن يدافع من يطبق عليهم عن مصالحه الشخصية بالأسلحة التى يعرفها عالم الأعمال (الوسائل التى يكفلها القانون المدنى والتجارى للاقتضاء الحقوق) دون الحاجة إلى اللجوء إلى السلاح المرعب المتمثل فى القانون الجنائى الذى يجب أن يقف بعيدا عن هذا التناحر, غير أن هذا مشروط بتكافؤ الأسلحة بين الطرفين, بحيث لا يسمح معه لطرف أن يوجه لخصمه ضربة محظورة. وتفحص واقع الحياة داخل الشركة يكشف لنا عن الهوة التى تفصل المساهمين عن القائمين عن الإدارة وعن عدم تكافؤ بين الطرفين ومن هنا كانت الحاجة للجزاءات الجنائية .
غير أن هذا الفقيه قد ارتأى أن الجزاء الجنائى يجب ألا يطبق إلا على رجال الأعمال الذين يتصرفون بقصد الغش. فهذا الأخير يجب أن يكون الأساس للردع الجنائى فى هذا المجال بحيث يترك للجزاءات المدنية الساحة فى حالة التقصير أو الإهمال فى الإدارة.
ويكشف أيضا الفقيه Chavanne هذه الحقيقة حول ضرورة التدخل الجنائى لإعادة التوازن فى السلطة داخل الشركة بقوله: قد يبدو التدخل الجنائى فى حياة الأعمال أمر غير مرغوب فيه كى لا يعرقل روح المبادأة للقائمين على التجارة ويجعلهم يجبنوا عن تحمل المخاطر رغم أن روح المغامرة من بين شروط العمل التجارى والاقتصادى. وقد يبدو هنا كفاية النصوص المدنية، غير أن هذا إذا صح بالنسبة للحياة التجارية العادية حيث يكون التجار جميعا على قدم المساواة فإنه لا يصح بالنسبة لحياة الشركات. فالشركة هى أداة رائعةMerveilleux instrument للنصب على الأشخاص ولارتكاب الانحرافات المالية، ويبدو فيها الشركاء أو المساهمين وكأنهم فى قبضة القائمين على الإدارة مما يوقعهم فى وضع غير متكافئ يوجب اللجوء للردع الجنائى .
ونحن من جانبنا نؤكد صلاحية هذا المبرر لقبول تدخل القانون الجنائى فى مجال إدارة الشركات وبنصوص خاصة تناسب هذا المجال خاصة مع التزايد الكبير فى حجم إجرام ذوى الياقات البيضاء ورجال الأعمال بحيث لا يجب ترك هذا دون رادع فعال. فالحرية التجارية والاقتصادية، التى ينميها حاليا الشعور العام فى العالم بأثره، يجب أن يقابلها قدر من المسئولية، ولا يمكن فى رأينا القول بأن هذا القدر من المسئولية قد تم الأخذ به إلا إذا كان مصحوبا بدعم من النصوص الجنائية .
2- حماية المصلحة العامة La protection de l’intérêt général
بالإضافة إلى هذه الرغبة فى إعادة التوازن بين السلطات داخل الشركة أو بمعنى أخر الرغبة فى رسم حدود معينة لسلطة القائمين على الإدارة فإننا نلمح للتدخل الجنائى فى مجال إدارة الشركات دورا أكثر خطورة ألا وهو حماية المصلحة العامة أو بمعنى أخر الادخار العام فى الدولة من ناحية والغير المتعاقدين مع الشركة من ناحية أخرى.
وتبرر حماية الادخار العام فى محيط الشركات، فى شق كبير منها، نشأة القانون الجنائى للشركات، بل هو المبرر الأساسى إذا تحدثنا عن الشركات بالأسهمSociétés par actions . فالقانون الجنائى فى محيط الشركات يهدف أولا إلى بث الثقة فى الادخار العام كى ينمو ويتطور بل إن تحقيق هذا الهدف يمثل واجب قومىDevoir national حيث يعتبر الادخار أحد القوى المحركة للحياة الاقتصادية ويمثل عصب نموها وهو ما يوجب أن يحس الادخار العام فى الدولة أنه قد توافرت له حماية ملائمة.
ولقد سبق القول بأن التجريمات العامة المبنية على خيانة الأمانة لا تكفى لدعم الثقة وحماية الادخار العام وفشل هذا التجريم كما سبق القول إلى ضيق فكرة المحل الذى يرد عليه النشاط الإجرامى أو إلى طبيعة النشاط ذاته والذى يجب أن ينصرف إلى تغيير فى طبيعة الحيازةIntervention de la possession وانتقالها من حيازة ناقصة إلى حيازة بغرض التملك. غير أن الواقع العملى قد كشف عن أن هناك من الاعتداءات مالا ينصب على مال معين من أموال الشركة بل يصيب أو يضرر بإدارة الشركة ككل لا يتجزأ، ويكفينا مثالا على ذلك الاتفاقيات المعقودة بين مجموعة شركات لتفضيل شركة معينة بعروض إضرار بشركة أخرى دون أن يكون هناك بالضرورة تحريكا لجزء من رأس المال أو أرباح فى صورة ائتمان أو الأضرار التى تنشأ من جانب القائمين على الإدارة نتيجة الإهمال أو الامتناع كالتأخير فى تحصيل حق أو مال معين للشركة لدى الغير.
وتكشف هذه الأمثلة وغيرها، كما يذكر أحد الفقهاء ، عن النقص الذى يعتور التقنينات اللاتينيةCodes pénaux de type latin والتى لا تحتوى على جريمة خاصة "بالإدارة غير الأمنية" Délit de gestion déloyale والتى تعاقب "كل من يقع عليه التزام قانونى أو تعاقدى بأن يسهر على حماية المصالح المالية للغير إذا ما أخل بهذا الالتزام". هذا الفشل استوجب بالتالى التدخل بنصوص جنائية خاصة تتناسب مع حياة الشركة وتتناسب مع الأهمية التى يعنيها المشرع بالادخار العام فى المجتمع.
والادخار العام، الذى ينصرف أول ما ينصرف إلى الأشخاص الذين أصبحوا من حملة الأسهمActions أو السنداتObligations ، يستوجب عدد من العناصر أولها أن يتوافر عنصر نفسى جماعى نحو الاستهلاك الحذر أو الإنفاق المحسوب مما يؤدى فى النهاية إلى تراكم فى رأس المال من قبل الأفراد وثانيها أن يتوافر عنصر إيجابى يتمثل فى أن يجد المدخرينEconomiseurs بعض المصالح أو الأهداف التى ينون تحقيقها عن طريق الاستثمار بمدخراتهم لدى الغير والعنصر الأخير هو أن يتوافر عنصر الثقة والأمان خاصة على الجانب القانونى .
وهنا منشأ الخطورة من ترك الانحراف بإدارة الشركة دون ردع حيث يبدأ انعدام الثقة من قبل المستثمرين أو مالكى رأس المال. فبعض خربى الذمة قد يتوسلون من أجل تحقيق مأربهم باستعمال بعض الحيل من أجل جذب رؤوس الأموال ومنها إنشاء الشركات الوهمية أو التى تمثل واجهةSociétés de façade دون نشاط حقيقى, مع استخدام حسابات مزوره وميزانيات لا تعبر عن واقع الشركة مع توزيع أرباح عالية ووهمية تمثل فى حقيقتها جزء من رأس المال من أجل بث الثقة فى الجمهور. ومن قبيل ذلك أيضا إنشاء شركات وليدةFiliales يكون هدفها امتصاص الأرباح التى تحققها الشركة الأمSociété mère .
وإزاء هذه الخطورة كان لزوم التدخل الجنائى على نسق ما قرره المشرع الفرنسى فى القانون الخاص بالشركات التجارية. فإذا كان الفعل الذى يحدثه القتل يصيب فرد أو عائلة ما فإن فضيحة مالية واحدة قد تؤدى إلى انهيار فى الاقتصاد العام على أثر ما يتولد عنها من تصرفات غير محسوبة خاصة من صغار المدخرين أو على الأقل قد تؤدى برأس المال, الذى يعرف بجبنه، إلى الانتقال من قطاع اقتصادى معين إلى قطاع أخر اللهم إلا إذا أدى الأمر فى النهاية إلى هروبه كاملا إلى خارج البلاد.
وكما ينصرف هدف التدخل الجنائى فى إدارة الشركات إلى حماية الادخار العام المتمثل فى حاملى الأسهم والسندات فإن حماية الغير المتعاملين مع الشركة يمثلا هدفا أخر لهذا التدخل، حيث يتعاظم فى الآونة الأخيرة، كما سبق القول، طرق التحايل المتخذة شكل تكوين شركات وهمية التى لا يكون لها نشاط حقيقى. فإذا كان الاقتصاديين المعاصرين لم يترددوا فى القول بأن الرأسمالية المعاصرة لم يكن لها أى تطور بدون الشركات، خاصة الشركات بالأسهم، فإن لنا أن نقول بأن النصب لم يكن ليأخذ أبعادا حديثة دون الشركات أيضا خاصة شركات الأموال. فيعجز رجل الأعمال بمفردة، مهما تيسرت له وسائل، أن يخدع الغير فى حين يصبح طريقه أكثر سهولة عند ظهوره على رأس إحدى الشركات. فميكانيزم الشركة يعطى خربى الذمة الأداة التى يمكن أن تنصب الفخاخ للجمهور وحائزى رأس المال . فتأسيس شركات الأموال التى تدعو للاكتتاب العام كانت هى أسهل السبل لتجميع الأموال من الجمهور حيث لا يهدف هذا التأسيس إلى الاستفادة بالشخصية المعنوية لتحقيق مصالح الجميع ولكن لتحقيق رغبات قلة من الغامرين الذين يختفون خلف الشركة.
والتكتيك المستخدم لكسب ثقة الجمهور لدفعه إلى إيداع الأموال يبدأ عادة باتخاذ اسم رنان للشركة الوليدة "مثلا البنك الأمريكى الأوربى, أو الشركة الإسلامية ...الخ". بعد ذلك يتشكل مجلس إدارة توضع فيه أسماء عديد من الشخصيات العامة المشهورة وغالبا ما يكونوا من رجال الدين الذين ينالون الاحترام مثل ما عليه الحال فى مجتمعنا المصرى، ثم بعد ذلك يتم تجنيد عدد من المندوبين الماليين يقومون بترويج بيع الأسهم، حتى عن طريق المرور على منازل كبار المدخرين ، وما أن يتم تصريف العدد الكافى من الأسهم حتى يختفى المؤسسون بالأموال المجمعة تاركين وراءهم ألاف الأفراد مع قصاصات أوراق تمثل كوبونات الأسهم التى لم يعد لها قيمة.
كل هذا دعى إلى الاستعانة بجزاءات صارمة ورادعة تكفل الحماية لهؤلاء المتعاملين وتكفل هامش من الأمان والذى بدونه لا يتشجع هؤلاء للتعامل مع الشركة الوليدة. هذا الأسلوب هو ما اتبعه المشرع الفرنسى حيث استبان له عجز جريمة النصب عن كفالة هذه الحماية التى تفترض وفق المادة 313/1 استخدام الجانى, كى يدفع الغير إلى تسليم أمواله إلى استخدام وسائل احتيالية معينة لا يكفى معها مجرد الكذب أو ما يسمى بالكذب العارى. لذا فقد تدخل المشرع بتجريمات خاصة يكتفى فيها بمجرد وأحيانا بمجرد الامتناع الذى قد يخدع الغير حول حقيقة المشروع حتى ولو لم يصاحبه أفعال خارجية مؤيدة وباعثة على الاعتقاد بصدق الجانى.
3- حماية روح المبادأة La protection de l’esprit de l’initiative
حينما يتدخل المشرع الجنائى فى مجال الشركات فإن عليه أن يأخذ فى اعتباره أمرين هامين أولهما أن يضمن مناخا من الأمن لتشجيع الادخار العام، وثانيها ألا يعطى انطباعا بأنه استهدف بالنصوص الجنائية أن يخلق "بعبعا"Epouvantail لإخافة القائمين على الإدارة، الأمر الذى يشعرهم أنهم تحت رقابة دائمة تحجمهم بالتالى عن المخاطرة التجارية المطلوبة من أجل النهوض بالمشروع التجارى.
هذا الأمر هو الذى دفع البعض من رجال العمال إلى التأكيد على أن اللجوء إلى الوسائل الجنائية لا يترك لهم حرية العمل مما يدعوهم دائما إلى طلب التدخل لتعديل النصوص الحالية الخاصة لحماية أموال وائتمان الشركات الواردة فى المواد 420 و437 من قانون الشركات الفرنسى
ثانيا: طبيعة نظام عمل الشركات Régime fonctionnel des sociétés
يتميز القرن العشرين بأنه عصر التكتلات الاقتصادية بين الشركات الأمر الذي أدى لظهور فكرة مجموعات الشركات والتي تتعدى أنشطتها حدود الدولة الواحدة. هذا التغير الذي شهدته الشركات أدى إلى تمتع القائمين على إدارة هذه المشروعات بسلطات واسعة تدفعها إلى الانحراف المالي مما يوجب التدخل الجنائى من هنا كان ظهور الجرائم الخاصة بحماية المساهمين من عسف الانحراف بالسلطة من قبل القائمين على الإدارة، وكانت الجرائم الخاصة بردع الإساءة في إدارة أموال وائتمان الشركة.
إلى جانب كل ذلك فإننا قد لاحظنا وجود عدم توازن في السلطة داخل الشركات، خاصة شركات المساهمة، ناشئة كما قلنا عن السلبية التي يبديها المساهمين تجاه أنشطة الشركة. هذه الظاهرة ساعدت على ظهور نصوص جنائية تكفل للمساهمين ممارسة تأثير فعال داخل الجمعيات العمومية، ومنها الجرائم الخاصة بممارسة حق التصويت والدعوة لحضور الجمعية العمومية وكذلك الجرائم الخاصة بانعقاد وسير هذه الجمعيات.
ولضمان رقابة فعالة من قبل المساهمين فإنه كان يجب التغلب على ما أظهره الواقع العملى من قصور نظام الإعلام الموجة للمساهمين عن نشاط الشركة ووضعها المالي و التجاري. من هنا كان ظهور نصوص جنائية أخرى لحماية حق المساهمين في الإعلامDroit à l’information ولعقاب الإخلال في إجراءات الدعاية المفروضة على المؤسسين والقائمين على الإدارة.
ثالثا: تحول دور الدولة Transformation du rôle de l’Etat
أخر العوامل التي ساهمت في نمو وتطور القانون الجنائي للشركات هو التحول الذي طرأ على دور الدولة في الحياة الاقتصادية. فكما يكشف البعض، أنه فى خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر كان المبدأ هو الحرية التعاقدية بحيث كان دور الدولة ضئيلا في تنظيم النشاط الاقتصادي والتجاري في ظلها. ومع بدايات القرن العشرين فإن نظرة جديدة للدولة ودورها بدأت تتشكل وذلك على أثر الحرب العالمية الأولى مصحوبة بالأزمة الاقتصادية في عام 1929 و العديد من الفضائح المالية للعديد من رجال الأعمال. في هذه الفترة ظهرت الحاجة ملحة إلى ضرورة التدخل لحماية بعض الأنشطة الاقتصادية خاصة في مجال الأسعار والمنافسة. وكان على الدولة ضمان القيام بهذا الدور بحيث بدأنا الدخول في عصر تدخل الدولةL’interventionnisme étatique بعد أن ساد مبدأ الحرية الاقتصادية و الحرية القانونية.
وفي مجال الشركات فإن المرسوم بقانون الصادر في 8 أغسطس 1935 حول الشركات التجارية الذي أنشأ تجريمات جديدة خاصة بتأسيس وإدارة و رقابة الشركات هو أحد مظاهر هذا التدخل من قبل الدولة. هذه المهمة الجديدة أدت على المستوى القانوني إلى ظهور أفرع قانونية جديدة منها القانون الجنائي الاقتصادي، الذي يمثل أحد الظواهر القانونية الأكثر وضوحا خاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية والذي يكشف بوضوح عن هذا المفهوم الجديد لدور الدولة في الحياة الاقتصادية.
ولقد كان القانون 24 يوليه 1966 تعبيراً أخر عن هذا التغيير فى دور الدولة، بل وهو نتيجة لظهور فكرة القانون الجنائى الاقتصادى وذلك على الرغم من أن التعريف الحالي لهذا الأخير، كمجموعة من القواعد الجنائية الموضوعية والإجرائية التي تهدف إلى ضمان أداء الدولة لسياستها في مجال الإنتاج وتوزيع الأموال وكذلك ضمان أداء دورها في استخدام هذه الأموال وتوزيع الخدمات ، لا يمكننا من تصنيف القانون الجنائي للشركات كأحد أفرع القانون الجنائي الاقتصادي، غير أن هذين الفرعين يشتركان رغم ذلك في هدف واحد ، خاصة بالنسبة للشركات التي تدعو للاكتتاب العامFaisant publiquement appel à l’épargne وهو حماية المصالح الاقتصادية القومية.
أيا ما كان الأمر فإن التدخل الجنائي في مجال الشركات أصبح حقيقة وأمر واقع خاصة في القانون الفرنسي الصادر فى 24 يوليه 1966 وعلى نحو أقل في القانون المصري رقم 159 لسنة 1981، وبالطبع لا يمكن أن تنصب الدراسة على كل النصوص الجنائية الواردة فى هذين القانونين لذا فقد تخيرنا فقط السياسة الجنائية التى تبناها المشرع والقضاء الفرنسى فى مجال إدارة أموال وائتمان الشركات خاصة إذا ما علمنا أن التشريع المصرى فى هذه النقطة يعتريه النقص تاركا الأمر للقواعد العامة التقليدية فى قانون العقوبات.
ويتصف النموذج الفرنسى فى مجال حماية أموال وائتمان الشركات بصفة المرونة على المستوى التشريعى ووجود إسهام خلاق على المستوى القضائى. ولكل من المستويين سوف نخصص الفصل الثانى والثالث من الدراسة.
الفصل الثانى : المرونة التشريعية فى مجال حماية الذمة المالية للشركة
تمثل حماية الذمة المالية للشركة أحد المشكلات الهامة فى القانون الجنائى للشركات، حيث تمثل هذه المشكلة الكثرة الغالبة من القضايا المعروضة أمام مختلف المحاكم ويبرر ذلك، كما سبق القول، هو السلطة الواسعة التى يتمتع بها القائمون على إدارة الشركات فى توجيه نشاطها وعناصرها المالية بما يسمح بالتالى فى نشوء العديد من الانحرافات.
ولقد كشفت التجربة عن أن مديرى الشركة غالبا ما لا يستشعرون التفرقة بين أموالهم الشخصية وأموال الشركة ذاتها، فيتصرفون وكأن هذه الأخيرة هى من قبل ما يملكون ويوجهونها لأغراض شخصية، كل ذلك على حساب المشروع ذاته الذى عهد إليهم بإدارته. وتكشف طول قائمة الفضائح المالية التى شهدتها فرنسا ومصر فى السنوات العشر الأخيرة عن الخطر الفادح الذى يحيق بالشخص المعنوى عندما يدار من قبل هذا النمط من المديرين.
ولا يمكننا من أجل الحد من هذه الانحرافات القول بتحجيم سلطات القائمين على الإدارة حيث أن متطلبات حياة الأعمال وحسن إدارة الشركة ذاتها يستوجبان أن يترك لهؤلاء حرية القيام بأعمال الإدارة, دون الإكثار من القيود والشكليات . من أجل ذلك كان اللجوء إلى نظام تجريمي خاص, دون المساس بالسير الطبيعى للمشروع, للعقاب على أعمال الإثراء الشخصى والتى تعارض المصلحة العامة للشركة. L’intérêt social هذا النظام التجريمى الخاص هو ما يعرف بجريمة إساءة أموال وائتمان الشركات التى أنشأها المشرع الفرنسى بالمرسوم بقانون 8 أغسطس سنة 1935. فلقد أضاف هذا المرسوم إلى المادة 15 من القانون 24 يوليو 1867 فقرة سادسة لكى يعاقب "كل مدير لشركة توصية بالأسهم استعمل عمدا أموال أو ائتمان الشركة فى غير الغرض الذى أنشئت من أجلة". وتقرر المادة 45 من ذات القانون تطبيق هذا النص على مديرى شركات المساهمة ثم أتى المرسوم الصادر فى 30 أكتوبر 1935 ليطبق ذات النص فى مجال الشركات ذات المسئولية المحدودة . هذه النصوص تم تبنيها، بعد إجراءات تعديلات أخرى فى الصياغة، بموجب القانون الجديد 24 يوليو 1966 الخاص بالشركات التجارية والمعمول به حتى الآن فى فرنسا.
وبتقرير التدخل التشريعى على هذا النحو فإن المشرع الفرنسى أراد تحقيق هدفين: أولهما هدف الإدارة الأمينةGestion loyale للذمة المالية للشركة Patrimoine social والتى تمثل بشكل غير مباشر حماية للأموال المشتركة للمساهمين والشركاء أنفسهم. والرغبة فى تحقيق هذا الهدف يجعل من جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات جريمة ذات غرض حمائىInfraction protectrice للأقلية من الشركاء Associés minoritaires ضد تعسف الأغلبية وضد السلطة شبة المطلقة التى يتمتع بها القائمين على الإدارة.
وحيث أن الذمة المالية للشركة إنما تمثل الضمان العام للدائنينGage général des créanciers , فإن هدفا أخر أراد المشرع تحقيقه من وراء إنشاء هذه الجريمة وهو ضمان التكامل المالى للذمة المالية للشركةL’intégrité du patrimoine حتى يضمن للدائنين الحد الأقصى من الائتمان. فمن مصلحة هؤلاء هو الحد من التصرفات غير المشروعة للمديرين التى تضعف من هذا الضمان أو تؤدى إلى فقدانه كاملا . وجملة القول هو أن هذا الخلق التشريعى يتعلق, كما يقول الفقه الأنجلوسكسونى, بتجريم لحماية الثقة والأمانةIncrimination fiduciaire والذى يهدف إلى عقاب الإخلال بواجب الأمانةDevoir de fidélité الواقع على عاتق المدير تجاه الشركة التى يديرها .
وفى إطار القانون الفرنسى الحالى للشركات التجارية لسنة 1966 فإن تجريم إساءة أموال وائتمان الشركات يندرج فى المواد 437-3 فيما يتعلق بالشركات المساهمة و 425–4 فيما يتعلق بالشركات ذات المسئولية المحدودة. يضاف إلى ذلك المادة 460 والتى تقضى بتطبيق هذه الجريمة فيما يتعلق بشركات التوصية بالأسهم. هذه المواد, والتى تتطابق فى ألفاظها, تعاقب : كل مدير استعمل بسوء نية أموال وائتمان الشركة مع علمه بأن هذا الاستعمال يتعارض مع مصلحة الشركة ويستهدف تحقيق أغراض شخصية أو تفضيل شركة أو مشرع أخر له فيه مصلحة مباشرة أو غير مباشرة.
Les dirigeants qui, de mauvaise foi, ont fait des biens ou u crédit de la société un usage qu’ils savaient contraire à l’intérêt de celle-ci, à des fins personnelles ou pour favoriser une autre société ou entreprise dans laquelle ils étaient intéressés directement ou indirectement.
وباستقراء هذا النص يتبين لنا أن المشرع الفرنسى قد استعمل ألفاظا يشوبها الغموض وعدم الوضوح ضاربا بذلك بأحد أركان الشرعية الجنائية. غير أن هذا الأمر مقصود لتحقيق مرونة تشريعية تستهدف الردع الفعال للأى شكل من أشكال الانحراف المالى خاصة مما لا ينطبق عليه النصوص التقليدية فى جرائم الأموال. وتتعلق هذه المرونة التشريعية سواء بماديات الجريمة، وهى كما يظهر من النص عنصرين أولهما استعمال أموال وائتمان الشركة وثانيها تعارض هذا الاستعمال مع مصلحة الشركة, وسواء بالعناصر المعنوية أو النفسية الخاصة بالجانى والتى لا تتعلق بمجرد خطأ فى الإدارةFaute de gestion ناشئ عن عدم يقظة أو تبصر أو قلة الكفاءة من قبل المدير، والذى لا يدخل تحت طائلة العقاب الجنائى وإنما يمكن أن يثير فقط المسئولية المدنية للمدير, ولكنها تتعلق بعنصر نفسى مبنى على سوء النية وتحقيق المصلحة الشخصية.
ولأغراض الدراسة هذا العام بدبلوم العلوم الجنائية فسوف نركز فقط على المظهر الأول من مظاهر المرونة المتعلق بماديات الجريمة محاولين استظهار المقصود بالاستعمال والمقصود بالاستعمال المتعارض وتحديد فكرة مصلحة الشركة. فمن المعلوم أنه على الخلاف من التجريم الخاص بخيانة الأمانة، الذى يستوجب، وفقا للمبادئ التقليدية، الاختلاس أو التبديد Détournement ou dissipation فإن ماديات جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات لا ينصرف إلا لمجرد الاستعمال البسيط والمجرد للأموال أو الائتمان والذى يكشف بمفرده عن عدم الأمانة فى إدارة الشركة ويكفى كى يعد استعمالا تعسفيا على نحو ما تصفه المحاكم (مبحث أول). غير أن هذا الاستعمال وحده لا يكفى لترتيب النتائج الجنائية ولا يقع تحت طائلة العقاب إلا حيث يكون استعمالا مضادا لمصلحة الشركةUsage contraire à l’intérêt social فما المقصود بهذا التضاد أو التعارض وما المقصود بمصلحة الشركة ؟ (مبحث ثان).
المبحث الأول :الاستعمال التعسفى للذمة المالية للشركة
إن استخدام لفظ استعمال من قبل المشرع الفرنسى إنما استهدف به سد النقص الذى ظهر فى تطبيق جريمة خيانة الأمانة فى مجال الشركات التجارية، وهذا يدعونا إلى البحث أولا فى مظاهر هذا النقص قبل أن نحدد فى فرع ثان مضمون هذا الاستعمال التعسفى والمحل الذى يرد عليه.
الفرع الأول :خيانة الأمانة وحماية الذمة المالية للشركة
على الرغم من أن ظهور تجريم خاص بحماية الذمة المالية للشركة, والتى تتمثل فى أموالها وائتمانها, لم يتحدد إلا فى عام 1930، إلا أنه لا يجب الاعتقاد بأنه قبل هذا التاريخ لم تكن هذه الذمة مشمولة بالحماية الجنائية. فقبل هذا التاريخ بذل القضاء الفرنسى جهدا كبيرا كى يتعقب الانحرافات المالية فى مجال الشركات بمحاولة إخضاعها للنصوص الخاصة بخيانة الأمانة (المادة 408 عقوبات فرنسى قديم وحاليا المادة 314 عقوبات فرنسى جديد).
غير أن وضع هذا التجريم محل التطبيق فى مجال الشركات قد صادفته عقبات كثيرة ناشئة عن أن المادة 408 عقوبات لا تجرم إلا أفعال الاختلاس والتبديد الأمر الذى يندر حدوثه وارتكابه من قبل القائمين على الإدارة، الأمر الذى يبرر ظهور التجريم الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات والذى يعد وفقا للشراح الابن أو النص المدللTexte gâté لخيانة الأمانة . وإذا كان الأمر كذلك فيما يتعلق بخيانة الأمانة فى صياغتها القديمة الواردة فى المادة 408 عقوبات فرنسى فإن التساؤل يثور عن مدى الحاجة إلى تجريم خاص بحماية أموال وائتمان الشركات فى ضوء التعديل الذى أوردة المشرع الفرنسى على خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة الواردة بالمادة 314/1 عقوبات فرنسى جديد.
أولا: دور خيانة الأمانة فى صياغتها القديمة فى حماية الذمة المالية للشركة
كما سبق القول فإنه قبل عام 1935 استخدم القضاء الفرنسى، من أجل ردع الانحرافات المالية الخاصة بأموال وائتمان الشركات, نص المادة 408 الخاص بخيانة الأمانة, ولقد كانت نقطة البداية عنده هى تبنى الفكرة المعروفة بنظرية "الوكالة عن الشركاء"Mandat social , والتى وفقا لها فإن فى كل شركة توجد بين الشركاء والقائمين على الإدارة رابطة وكالة يعهد بمقتضاها لهؤلاء بإدارة الذمة المالية للشركة فيما تقتضيه مصلحتها. غير أن تطبيق هذه النظرية سرعان ما صادفته الصعوبات الأمر الذى استوجب من القضاء أحيانا التوسع فى تفسير نص المادة 408 فى غير الحالات التى يقتضيه التطبيق التقليدى للنص والمعنى الضيق لخيانة الأمانة المبنى على عنصرى الاختلاس والتبديد.
1- نظرية الوكالة عن الشركاء La théorie du mandat social
إن عدم وجود نص خاص ينطبق على الأفعال الماسة بالذمة المالية للشركة ألزم القضاء بتحويل دور جريمة خيانة الأمانة, الذى ينصرف إلى حماية الملكية الفردية فى العلاقات بين الأفراد الطبيعيين بعضهم البعضRapports d’individu à individu ، إلى دور يهدف إلى حماية هيكل مستقل ومنظم من قبل القانون آلا هو الشركة ذاتها. ولقد كان باب هذا التحول هو خلق ما يعرف بنظرية الوكالة بين الشركاء . والتخريج القضائى لهذه النظرية مؤداه الأتى: حيث أن عقد الشركة ذاته لا يرد ضمن العقود المحددة بنص المادة 408 وحيث أن القانون 28 أبريل 1832 كان قد أضاف عقد الوكالة, الذى يعرف بأنه العقد الذى بموجبة يعهد الشخص إلى شخص أخر بسلطة القيام بعمل لحسابه وبإسمه (المادة 1984 مدنى فرنسى و 699 مدنى مصرى), إلى جملة العقود التى حال مخالفتها يقع الشخص تحت طائلة العقاب عن خيانة الأمانة, فإنه يمكن اعتبار المديرين بناء على هذا التعريف المدنى وكلاء Mandataires عن المساهمين ، ويتعين عليهم عندئذ الالتزام بإدارة أموال الشركة لمصلحة هذه الأخيرة ويخضعون عند الإخلال بهذا الالتزام إلى نصوص خيانة الأمانة وخاصة إذا ما تضمن الإخلال اختلاسا أو تبديدا لأموال الشركة .
ولقد كانت بداية نشأه نظرية الوكالة بين المديرين والشركاء الحكم الصادر فى 18 مارس 1842 عن محكمة استئناف روان .Rouen وفى إجابة الحكم على التساؤل عما إذا كان فعل الاختلاس الذى ارتكبه أحد مديرى شركة التوصيةSociété en commandite مما ينطبق عليه نص خيانة القانون الوارد فى المادة 408 عقوبات قالت المحكمة إنه من المهم البحث عن الرابطة بين مدير شركة التوصية وبين بقية الشركاء. وبالبحث فإن هؤلاء ليسوا مجرد مقرضو أموالBailleurs de fonds لكنهم فى حقيقة الأمر شركاء حقيقيين ولهم الحق, بمقتضى الثقة التى أولوه إياها فى إدارة الشركة, مطالبته بالحسابات التى تعكس نشاط الشركة. وحيث أنه ليس من المقبول القول بأن هذا المدير لا يمارس سلطات بموجب وكالة عنهم, وحيث أن المدير ما هو إلا وكيل عن بقية الشركاء وأنه تلقى عنهم مهمة إدارة الشركة فيما فيه المصلحة العامة لبقية الشركاء, وحيث أنه لم يكن أمينا حيال ما يقع عليه من التزامات وأنه قد انتهك الوكالة الملقاة علية باختلاسه أموال الشركة فإن يرتكب عندئذ جريمة خيانة الأمانة.
هذا القضاء ذاته كان قد تأكد بعد عدة سنوات فى حكم لمحكمة النقض صادر فى 5 أغسطس 1845 أيدت فيه المحكمة تطبيق المادة 408 عقوبات على مديرى شركة التوصية بقولها : إنه من المقرر قانونا أن عقد الشركة لا يستبعد تواجد رابطة الوكالة بين الشركاء وبين القائمين على الإدارة. فذات العقد الذى تنشأ به الشركة ويحدد حقوق الشركاء يمكن أن يتضمن بيان السلطات الممنوحة إلى أحد المتعاقدين لإدارة الشركة فيما فيه مصلحة بقية الشركاء. وعلى الرغم من اندماج هذه الوكالة فى ذات عقد الشركة, فإن هذا لا يغير من حقيقتها ويستوجب إعمال كافة أثارها ومنها التزام الوكيل بالعمل فى حدود وكالته ومكنة عزله ومكنة مجازاته حال ارتكاب خطأ أو غش يتعلق بما يقوم به من أعمال بمقتضى هذه الوكالة.
وفى أعقاب هذا الحكم توالت العديد من الأحكام التى تؤكد فيها محكمة النقض قضائها سالف الذكر .
غير أنه إذا كان من السهل الاعتراف بفكرة الوكالة فى الشركات التى مازال يظهر فيها أثرا للمفهوم العقدى للشركةConception contractuelle ، وهى شركات الأشخاص ( التضامن والتوصية البسيطة والمحاصة)، فإن الاعتراف بهذه الفكرة فى مجال شركات الأموال، خاصة شركات المساهمة، والتى يسودها المفهوم النظامى أو القانونى للشركةConception institutionnelle يعد أمرا محل شك. ففى هذا النوع من الشركات تتوقف حدود الإرادة على مجرد الاتفاق على تكوين أو الدخول فى الشركة بينما ينظم القانون ذاته هذا الشخص القانونى من حيث كيفية تأسيسه وإدارته وكيفية انقضائه، مبينا خلال ذلك حقوق وواجبات المساهمين وحقوق وواجبات القائمين على الإدارة، مما يصعب معه القول بوجود هذه الوكالة حيث يضعف دور الإرادة فى هذه الشركات.
وللتغلب على هذه المشكلة ذهب الفقه إلى القول بأن الوكالة فى مجال الشركات التجارية لم تعد ذلك المفهوم المدنى المبنى على السلطة المخولة من شخص إلى أخر للقيام بعمل لمصلحته ولحسابه الشخصى ولكنة مفهوم أكثر رحابة يتعلق بالرابطة بين الشخص المعنوى ذاته وبين الأشخاص الطبيعيين والتى بمقتضاها يمنح الشخص المعنوى هذا الأخير السلطات الضرورية التى تمكنه من القيام بأعمال الإدارة لما فيه مصلحة الشخص المعنوى ذاته .
وفى ضوء هذا التفسير فإنه يمكن تطبيق نصوص خيانة الأمانة على جميع أشكال الشركات التجارية والمدنية وحتى على الجمعيات وشركات الواقع Sociétés de fait وحتى على النقابات. وهو ذات الأمر فى شركات المحاصةSociété en participation حيث يمكن لأحد الشركاء, فى علاقته ببقية الشركاء أن يكون وكيلا بما يرتبه هذا التكييف من نتائج على المستوى الجنائى .
فى كل هذه الأنواع من الشركات توجد بين القائمين على الإدارة وبقية الشركاء نوع من الوكالة العامة Mandat général، ولا يهم بعد ذلك طبيعة هذه الوكالة، فيمكنها أن تكون وكالة مكتوبة أو شفاهية, مجانية أو بأجر، بل ويمكن للوكالة أن تكون ضمنيةTacite . ويكفى فى جميع الأحوال بالقول بوجود هذه الوكالة بين الشركة والقائم على إدارتها هو قبول مهمة القيام بالإدارة، حيث تقع عندئذ على عاتق هذا الأخير ممارسة سلطات الإدارة فيما فيه المصلحة المطلقة للشركة.
وتطبيقا لهذا فإنه يعد مرتكبا لجريمة خيانة الأمانة رئس مجلس إدارة شركة المساهمة الذى يستمر رغم قرار مجلس الإدارة فى الحصول على بدل تمثيل, أو يستعمل - ولو فى مصلحة الشركة - عائد الاكتتاب فى الأسهم قبل غلق باب الاكتتاب Clôture de la sou**ion. ولا ينفى الإخلال بالوكالة القائمة وجود ترخيص سابقAutorisation préalable أو تصديق لاحقApprobation من مجلس الإدارة أو الجمعية العمومية للمساهمين، بل على العكس يمكن لهذا الترخيص، حسب الظروف، أن يعد نوعا من الاشتراك فى خيانة الأمانة. كما لا ينفى هذه الوكالة, وبالتالى خيانة الأمانة، أن يكون القائم على الإدارة يملك أغلبية الأسهم أو رأس المال .
2- التفسير الموسع من قبل القضاء للمادة 408 عقوبات
إذا كان تطبيق نظرية الوكالة عن الشركاء قد يبدو واضحا إلا أن النتيجة التى توصلت إليها هذه النظرية، آلا وهى تطبيق جريمة خيانة الأمانة، أمر يصعب التسليم به علي إطلاقه، فقد لا ينصرف فعل المدير إلى ارتكاب احد عناصر السلوك الإجرامى لخيانة الأمانة في صورة الاختلاس أو التبديد المباشر للأموال الشركة المعهود إليه بإدارتها. فغالبا ما يسمح هذا الهيكل القانونى بارتكاب أعمال وحيل تخرج عن التفسير الضيق لهاتين الفكرتين.
من هنا جاء دور القضاء في التوسع في تفسير المادة 408 عقوبات وخاصة فيما يتعلق بالسلوك الذي تتم به خيانة الأمانة. وعلي هذا اتجه القضاء تطبيقا لذلك باعتبار اختلاسا مكونا للسلوك المادى لخيانة الأمانة مجرد الاستعمال للأموال الشركة لتمويل صفقات غير رابحة وتوزيع مكافآت ومزايا تعسفية نظرا لتوزيعها خفية علي أعضاء مجلس الإدارة أو لأن مبالغها مبالغ فيها Montant excessif. واعتبر من قبيل خيانة الأمانة أيضا سلوك مدير الشركة الذي يظهر تحقيق أرباح في السنة المالية التي يباشر فيه عملة كى يقنع مجلس الإدارة بالموافقة على منح قروض أو سلف يزعم قابليها للاسترداد إلى شركة أخرى Des avances prétendument remboursables . وفعل المدير الذي يقبل بإسم الشركة ولمصلحة الغير كمبيالات مجاملة Effets de complaisance بحيث يتم إبراء الدين من خلال أموال الشركة ذاتها.
كذلك طبق القضاء نص المادة 408 في حالة استعمال أموال الشركة في غير الغرض الذي أنشئت من أجله الشركةFins étrangères à l’objet social سواء أكان ذلك بهدف المضاربة في سوق معين أو بهدف تحقيق أرباح سريعة أو كان ذلك بهدف تحريك الأموال من مشروع إلي مشروع أخر يكون للقائمين على الإدارة في هذا الأخير مصلحة شخصية.
ورغم هذه التطبيقات, التي تكشف عن قضاء جرئ ومجامل, فإن هذا التوسع مازال لا يفي بتحقيق سياسة الردع في مجال أموال وائتمان الشركات. فمازال هناك من الأفعال غير المشروعة التي تمس بهذه الأخيرة ولكنها تندرج تحت وصف خيانة الأمانة سواء لأنه من الصعب إدراج الأفعال المرتكبة تحت وصف الاختلاس أو التبديد بالمعني الضيق لهما أو سواء كان السلوك الإجرامي لا يمثل إلا مجرد امتناع أو إهمال أو لأن الشيئ الذي ورد عليه فعل الاختلاس لا يرد ضمن الأشياء المحصورة فى المادة 408 عقوبات (كمبيالات – بضائع - إيصالات - تذاكر...).
ولنا أن نتسآل كيف يمكن أن نطبق نص خيانة الأمانة على أحد المديرين الذي لا يتوافر في حقه إلا أنه أمر بإبرام صفقه تبدو غير مربحة بالنسبة للشركة ولكنة يمكن أن يجنى هو ذاته منها ربح شخصي ؟ وكيف يمكن تطبيق النص على الفعل الضار بائتمان الشركة المتمثل فى تقديم توقيع الشركة لضمان ديون أو كمبيالات شخصية ؟ من المتعذر إدخال مثل هذه الفروض وغيرها في مفهوم الاختلاس والتبديد. يضاف إلي ذلك أن خيانة الأمانة لا تتعلق إلا بالمنقولات بما لا يسمح بتعقب أفعال الاختلاس الواردة علي العقارات رغم أنها تمثل جزا هاما من الذمة المالية للشركة .
لكل هذا كان يلزم التدخل بإنشاء جريمة خاصة تناسب حقيقة الواقع داخل الشركات ولكى يتوافق القانون الجنائى مع واقع الإدارة. وهذا التدخل تستوجبه طبيعة الحياة الاقتصادية والتجارية والتي لا يمكنها التوافق أو التلائم مع قضاء مضطرب لا يحكمه تشريع ، وهو الأمر الذي تجنبه المشرع الفرنسي بالمرسوم بقانون 8 أغسطس 1935 ومن بعده قانون الشركات الفرنسي الحالي الصادر في 24 يوليه 1966.
ورغم التدخل التشريعى بجريمة خاصة تتعلق بحماية أموال وائتمان الشركات إلا أن تجريم خيانة الأمانة عاد من جديد يطل برأسه مع صدور قانون العقوبات الفرنسى الجديد والذى تبنى فى المادة 314/1 صياغة جديدة ومرنة لخيانة الأمانة تخالف نص المادة 408 من قانون العقوبات القديم. هذا النص الجديد يعرف خيانة الأمانة بأنها "اختلاس أصول Fonds أو قيم Valeurs أو أموال Biens أيا ما كانت إضرار بالغير إذا سلمت إليه مع قبوله ردها أو عرضها أو أن يستعملها استعمالا معينا".
ويقرر الفقه أن المشرع الفرنسى بهذه الصياغة الجديدة، التى تجرى تعديلات جوهرية بالمقارنة بالمادة 408، قد فتح من جديد باب الجدل حول ضرورة الاحتفاظ بتجريم خاص لأموال وائتمان الشركات قائلين بأنه يكفى بالتالى تطبيق هذا النص الخاص بخيانة الأمانة. ثانيا:اء المنافسة من جديد بين التجريمين يتعين أن نطرح التساؤل التالى: هل يمكن أن تكفل خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة الحماية الكافية لأموال وائتمان الشركات ؟
ثانيا : دور خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة فى حماية الذمة المالية للشركة
أحد الأسئلة التى ألحت على الفقه عند صدور قانون العقوبات الفرنسى الجديد هو إذا ما كان نص المادة 314/1 الخاص بتعريف خيانة الأمانة يمكن أن يستوعب حالات إساءة أموال وائتمان الشركات الواردة بالمواد 425/4 و437/3 من قانون الشركات خاصة بعد الانتقادات الشديدة التى بدأ يوجهها الفقه الفرنسى فى الفترة الأخيرة لهذا التجريم الأخير بحيث يمكن الاستغناء عن هذا التجريم لصالح النص العام ذلك لأن هذا التجريم الخاص بإساءة الأموال ما هو إلا شكل من أشكال خيانة الأمانة يتوائم مع طبيعة ونمط حياة الشركة. وبمعنى أخر آلا يفى النص الجديد لخيانة الأمانة بمتطلبات الحماية والردع الجنائيين فى مجال الشركات التجارية ؟
للإجابة على هذا التساؤل نبين أولا موقف الفقه المؤيد لهذا الحل طارحا بالتالى النظرية التى أطلقنا عليها نظرية الامتصاص أو الاستيعاب Théorie de l’absorption - بمعنى استيعاب النص العام الجديد للنص الخاص بقانون الشركات - قبل أن نبين رأينا فى الموضوع.
1- مضمون نظرية الاستيعاب أو الامتصاص
يعبر جانب من الفقه عن أسفه للاحتفاظ بالتجريم الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات, رغم ما يثيره من مشكلات على الصعيد القانونى والقضائى فى السنوات العشر الأخيرة , رغم أن هذا التجريم لم يعد ليضيف جديدا فى أعقاب التعديل الذى أجراه المشرع على صياغة خيانة الأمانة بالمادة 314/1 عقوبات. ويؤيد هذا الرأى منطقة بنوعين من الحجج أولهما يبنى على مرونة الصياغة الجديدة لخيانة الأمانة وثانيهما يبنى على المزايا التى تمنحها الصياغة الجديدة لمديرى الشركات.
أ- مرونة الصياغة الجديدة لخيانة الأمانة
أحد الأسباب التى اضطلع الفقه بترديدها لبيان عدم الحاجة لتجريم خاص بحماية أموال وائتمان الشركات هو أن النص الجديد لخيانة الأمانة يتميز بالمرونة والرحابة التى تستوعب كل الحالات التى كان النص الخاص قد جاء لتغطيتها.
فنص المادة 314/1 بالمقارنة بنص المادة 408 عقوبات قد ألغى القائمة المحددة للعقود الستة التى كان يتعين توافر إحداها لقيام خيانة الأمانة. هذا الهجر لفكرة العقود كشرط مفترض يهدف إلى تبسيط وتحسين الردع الجنائى بالتخفيف عن القاضى عبئ الالتزام بالتكييف بما مؤداه أن أى رابطة عقدية أو غير عقدية Extracontractuelle لم تعد شرطا لقيام خيانة الأمانة وأن غيابها لا ينفى قيام الجريمة . وعلى ذلك فمديرى الشركات شأنهم كشأن المستأجر أو المودع لدية أو الوكيل أو المقرض أو العامل ... الخ لم يصبحوا بمنأى عن الملاحقة الجنائية على أساس خيانة الأمانة.
وعلى أساس هذه الصياغة المرنة , فإنه يمكن توجيه الاتهام - على أساس خيانة الأمانة - من التصرفات أو القرارات الصادرة من جانب واحد Unilatérales ومنها التصرفات التى تقرر السحب من خزانة الشركة لصالح الدائنين الشخصيين للمدير ذاته أو لصالح أحد أفراد أسرته أو لصالح شركة أخرى. ومن ذلك أيضا التصرفات التى تهدف إلى تحميل الشركة نفقات شخصية للمدير أو تقرير مكافأة شخصية له Auto rémunération أو تقديم ما يثبت تعهد الشركة بضمان الالتزامات القانونية لشخص أو لشركة أخرى .
وقد أضاف هذا الجانب من الفقه أيضا أنه مع بعض المرونة فى تفسير أركان خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة فإننا يمكن أن نصل إلى فكرة الاستيعاب أو الامتصاص. فمثلا التسليم Remise كركن فى خيانة الأمانة يمكننا أن نعطيه تعريفا يتطابق مع الطريقة التى يتلقى بها المدير فى الشركة الأهلية للإدارة والتصرف فى أموال الشركة بحيث يصبح هذا المفهوم ليس فقط التسليم كعمل مادى محض Acte purement matériel ينتقل به المال من أحد الأشخاص إلى شخص أخر ولكن يفهم على أنه تسليم بالمعنى القانونى أو كعمل قانونى ناشئ عن القرار الصادر بتعينهم سواء من مجلس الإدارة أو الجمعية العمومية أو مجلس المراقبة. ويبدو أن محكمة النقض الفرنسية مالت لهذا الاتجاه عندما قضت بأنه يعد تسليما فى معنى خيانة الأمانة انتقال الأموال بموجب تحويل من حساب إلى أخر .
من ناحية أخرى فإنه إذا كان النص الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات يستوجب أن يتم استعمال المال ضد مصلحة الشركة أو فيما يخالف مصلحتها فإن النص الجديد يصل إلى ذات الحقيقة ويحقق ذات الهدف حينما أدخل فى مفهوم خيانة الأمانة التسليم الذى يستهدف من بين ما يستهدف أن يجرى استعمال المال استعمالا معينا Usagé déterminé وهو ما يعنى إمكانية القول بأنه الاستعمال المخالف لمصلحة الشركة عند تطبيق هذا النص فى مجال الشركات. وهو ما يعنى الوحدة بين النصين مما يستوجب الإبقاء على النص العام وحده.
ويختم هذا الجانب من الفقه الجزء الأول من الحجج بقوله أن ورود عبارة أى مال Bien quelconque يفسح المجال لتطبيقات قضائية لخيانة الأمانة فى غير حالات الأموال المنقولة بحيث يمكن أن يمتد التطبيق لأى شكل من الأموال يدخل ضمان عناصر الذمة المالية للشركة. ويدلل الفقه على ذلك بالحكم الذى أصدرته محكمة النقض الفرنسية عندما أكدت أن التسجيل فى الحسابات للقيم المنقولة غير المادية Incorporelle تمثل مالا فى معنى خيانة الأمانة سواء فى صياغتها القديمة أو الجديدة . وعلى ذلك فالسماح بتطبيق النص على الأموال غير المادية قد يشجع القضاء فى بسط التطبيق فى حالات أخرى ومنها العقارات.
ب- المزايا التى تمنحها الصياغة الجديدة لخيانة الأمانة
أبدى بعض الفقه من اجل تأييد نظرية الاستيعاب أو الامتصاص حجج أخرى قائمة علي المزايا التي يمنحها التجريم الجديد لخيانة الأمانة لمديري الشركة بالمقارنة بالتجريم الخاص المتعلق بجريمة إساءة أموال وائتمان الشركة.
فوفقا لهذا الاتجاه فإن التجريم العام - خيانة الأمانة – فى ثوبه الجديد يمكن أن يكون علاجا للعيوب التي أظهرها التجريم الخاص علي المستوي القضائي الناشئ عن طبيعة الصياغة القانونية المرنة التي سمحت للقضاء بالوصول إلي تفسيرات شديدة التوسع تتعارض مع مبادئ الشرعية الجنائية وتهدد طبيعة الحرية التي يجب أن يتمتع بها مديري الشركة في سير النشاط التجاري والاقتصادي لهذه الأخيرة، الأمر الذي جعل الكثيرين من الفقهاء يطالبون بالتدخل التشريعي لتعديل هذا التجريم الخاص.
علاوة علي ذلك فإن التجريم العام في صياغته الجديدة, أو حتى في ظل الصياغة القديمة, يوفر حماية أكبر لمديري الشركات. فمثلا فقد قضي بأن التأخير في رد الشيئ المسلم لا يمكن أن يكون من حيث المبدأ اختلاسا إذ يمكن أن يبرر هذا التأخير بدافع الإهمال فقط الأمر الذي يعني أن الإهمال لا يكفي لتكوين القصد الجنائى المتمثل في نية تغير الحيازة وهو ما لا يسمح به التجريم الخاص بإساءة أموال الشركة والذي اكتفي القضاء في قيامها بمجرد الامتناع أو الإهمال وهو ما يتعارض مع المبادئ العامة في قانون العقوبات التي لا تعاقب علي الامتناع إلا بنص خاص الأمر الذى لا يتوافر في المواد 425/4 و 437/3 الخاصة بإساءة أموال الشركة.
ويكشف التطبيق القضائى أيضا عن أن القضاء يرفض تطبيق نص خيانة الأمانة لمجرد تحقيق الشركة لخسائر ما لم يثبت وجود قصد الانحراف Malversation من قبل القائم عل الإدارة. فالقضاء يتشدد في إثبات قصد الاختلاس ولا يكفي في ثبوت وجوده أفعال أو أعمال تنم عن سوء في الإدارة وهو ما يختلف عن موقف القضاء من جريمة إساءة أموال الشركة حيث قضي بتطبيق هذه الجريمة في حالة تجاوز حدود عمل من أعمال الإدارة أدي لخسائر متى تبين أن هذا العمل يمثل مخاطرة مبالغ فيها Prise de risque excessive وما كان يجب أن يتم .
كما يتجه القضاء لإثبات ركن الاستعمال لغرض شخصي لأموال الشركة في حق مدير الشركة كركن من أركان جريمة إساءة أموال وائتمان الشركة بالاكتفاء في بعض الأحوال بوجود قرائن دالة على ذلك. ومن ذلك اعتباره السحب الذي يتم خفية Prélèvement de manière occulte لمبالغ مالية من خزانة الشركة قرينة علي أن الاستعمال تم لغرض شخصي ، وهو ما لا يوجد بشان خيانة الأمانة إذ يتشدد القضاء ويجري تحليلا دقيقا لكل حالة علي حدة لإثبات الجريمة في كافة عناصرها المادية والمعنوية. ففى إحدى الدعاوى أكدت محكمة النقض أن ملاحظة وجود تقصير في تحصيل أموال لصالح الشركة لا يكفي لإثبات قصد الاختلاس .
علي ذات المنوال فإن التجريم العام لخيانة الأمانة أكثر ميزة لمديري الشركات من التجريم الخاص فيما يتعلق بالتقادم Pre**ion. فقد استقر القضاء على أن نقطة بداية التقادم بخصوص التجريم الخاص يبدأ في وقت لاحق علي ارتكاب الجريمة - آلا وهو من وقت علم المجني عليه وقدرته على ممارسة الدعوى العمومية – خروجا على المبدأ العام فيما يتعلق بالجرائم الوقتية . أما فيما يتعلق بخيانة الأمانة فإن القضاء, رغم خروجه أيضا علي القواعد العامة في التقادم في الجرائم الوقتية, فإنه اكتفي باعتبار التقادم ساريا من وقت ظهور الجريمة والقدرة على اكتشافها وهو الوضع الأفضل لمديري الشركة حيث يبدأ التقادم في جميع الأحوال من وقت اكتشاف الجريمة مما يمنع المجني عليه من الاستفادة من إهماله عندما لا يسعى لاكتشافها .
ولا يمثل اللجوء إلي تجريم خيانة الأمانة حماية لمديري الشركة بل يمثل أيضا حماية للغير. فبينما لا تعد جريمة إساءة أموال الشركة من بين الجرائم التي يمكن أن تعقد مسئولية الشخص المعنوي جنائيا فإن خيانة الأمانة تسمح بذلك بحيث تنعقد مسئولية الشركة ذاتها كشخص معنوي عن هذه الجريمة إلي جانب مسئولية الشخص الطبيعي وفقا للشروط المنصوص عليها في المادة 121/2 عقوبات فرنسي جديد. كذلك فإن قبول الادعاء المدني في إساءة أموال الشركة, وفقا لما استقر عليه القضاء , يقتصر علي الشخص المعنوى ذاته عن طريق ممثليه وعلى الشركاء مع استبعاد الدائنين والعمال ومراقبو الحساب على أساس أن ضرر هؤلاء ليس إلا ضررا غير مباشر، وهو ما يراه البعض متعارضا مع المصالح التى أتى هذا التجريم لتحقيقها .
هذا التعارض لا أثر له عند تطبيق جريمة خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة والتى تهدف إلى حماية مصالح الغير بما يمنع الخلاف حول المصالح التى يهدف إلى حمايتها هذا التجريم. وتطبيقاً لذلك فإن لكل من يدعى ضرراً شخصياً ومباشراً أن يباشر دعواه عن خيانة الأمانة. فمثلا تقبل دعوى المورد ضد مدير الشركة الذى يختلس البضائع التى سلمت للشركة وكذلك دعوى مساهمو الشركة الوليدة Filiale ضد مديرى الشركة الأم Société mère عن الاستعمال التعسفى لبعض عناصر الذمة المالية للشركة الوليدة . وجمله القول أن نص خيانة الأمانة فى صياغته الجديدة يفتح باب الدعوى المدنية دون أى قيد مبنى على صفه المدعى Qualité du demandeur بما يسمح بحماية فعالة لكل الشركاء الاقتصاديين للشركة Partenaires économiques de la société.
2- نقد نظرية الاستيعاب أو الامتصاص
رغم كل المزايا التى يمكن أن يحققها الاكتفاء بالتجريم العام المتعلق بخيانة الأمانة فى صياغته الجديدة فى مجال الشركات والانحرافات الواقعة من القائمين على إدارتها بالمقارنة للتجريم الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات فإننا نرى أن هذا لا يكفى لتبرير الاكتفاء بتجريم واحد ويكفى بدأه القول بأن التجريم الخاص فى مجال الشركات التجارية ينفرد بعقوبة أشد من تلك المقررة لخيانة الأمانة ( 5 سنوات حبس للإساءة الأموال و3 سنوات فى حالة خيانة الأمانة مع وحدة فى الجزاء المالى 2 مليون ونصف المليون فرنك) مما يستتبع القول بعدم وجود تشابه كامل بين الجريمتين ويجعل للتجريم الخاص مزاياه فى هذا المجال .
حقيقا أن الوضع الحالى يمكن أن يخلق حالة من التعدد الصورى Concours idéal بين الجريمتين غير أن وفقا للقواعد العامة فى قانون العقوبات فإن التكيف الأشد عقوبة هو الذى يتعين تطبيقه، وهو فى هذا الصدد جريمة إساءة أموال الشركات، بل ويمكن تطبيق القاعدة الثانية بحل التنازع بين النصوص وهى الخاصة بتطبيق النص الخاص وتقيده للنص العام، فالنص الخاص يفضل دائما النص العام ويقيده Specialia generalibus derogant مما يوجب تطبيق النصوص الخاصة بقانون الشركات فيما تضمنته من نصوص خاصة .
ويمكننا أن نضيف تأييدا لقولنا هو أن التجريم الخاص إنما يتوائم مع المفهوم الحديث للشركات, والذى وفقا له ينظر إلى الشركة على أنها نظام قانونى وفكرة فنية أكثر منها عقدا، وهو الأمر الذى لا تستجيب له جريمة خيانة الأمانة التى لا يمكن أن تلعب دورها فى محيط الشركات إلا من خلال فكرة عقد الوكالة بحيث ينظر إليها على أنها نوعا من الانحراف بعقد الوكالة بين الشركاء والمديرون Détournement de mandat social.
حقا إن الصياغة الجديدة للمادة 314/1 عقوبات فرنسى جديد لا تفترض وجود عقدين أو صيغة عقدية معينة كشرط مفترض لقيام خيانة الأمانة غير أن صياغة النص توجب "قبول تسلم الأموال" Biens qui lui ont été remis et qu’elle a acceptés، هذه الإشارة إلى فكرة القبول تفترض وجود صيغة اتفاقية أو عقدية تكون بمثابة الأساس الذى قام عليه التسليم .
ولا يمكن النيل من هذه الحجة بالقول بأن إساءة أموال وائتمان الشركات عند ظهورها عام 1935 وبعد ذلك فى قانون الشركات لسنة 1966 إنما ارتبط بالمفهوم العقدى للشركة، حيث لم يكن المفهوم التأسيسى أو الفنى (كنظام قانونى) بدأ يترسخ بعد، إذ سمحت الصياغة الغامضة للتجريم وألفاظه المرنة للقضاء بتطبيق هذا التجريم فى حالات ينتفى فيها كل فكرة للعقد - خاصة عقد الوكالة - ومن ذلك تطبيق جريمة إساءة أموال الشركات على المدير الفرد فى المشرع الفردى ذو المسئولية المحددة Entreprise Unipersonnelle à Responsabilité Limitée ‘‘EURL‘‘ وهو شكل جديد من أشكال الشركات سمح به رغم قيامة على مساهم واحد كان قد اقتطع جزءا من أموال الشخصية لتتشكل به الذمة المالية الخاصة بالشركة، وبالطبع لا يمكن القول بوجود رابطة عقدية فى إطار شركة تقوم على مساهم واحد. كل هذا يجعل من جريمة إساءة الأموال تجريما متوافقا مع الأنماط الجديدة والمفاهيم الجديدة فى مجال الشركات.
فلا يمكننا الحديث عن أن القائمين على الإدارة يتصرفون بناء على عقد وكالة عن الشركاء اللهم إلا فى مجال شركات الأشخاص التى ما زالت تحتفظ بالمفهوم العقدى، فكما يقول العميد Ripert "إن مديرى الشركات مكلفون بهامهم ليس لكونهم وكلاء فى المعنى الذى يعطيه القانون المدنى لهذا اللفظ ولكن لكونهم مخولون لسلطات قانونية منحها لهم القانون بحسبانهم جهاز من أجهزة الشركة كشخص معنوى" . ولا يمكن بالتالى تأسيس الجرائم التى تعاقب على الإخلال بهذه السلطات بناء على فكرة الوكالة .
وبناء عليه فإن كل فكرة للحد من التجريم فى مجال الشركات بإلغاء نص التجريم الخاص بإساءة الأموال اكتفاء بالنص العام لخيانة الأمانة يعد مرفوضا ولا نؤيد تطبيق هذه الأخيرة إلا فى الأحوال التى لا تتوافر فيها أركان التجريم الخاص إذ العدالة والمنطق تقتضى عدم ترك الجانى يفلت بجرمه. فجملة القول أن خيانة الأمانة لا يمكن أن تلعب إلا دور المساعد Le suppléant أو المكمل فقط.
ونختتم نقدنا لنظرية الامتصاص أو الاستيعاب بقولنا أنه مهما توسعنا فى تفسير منى "المال" الوارد فى النص الجديد لخيانة الأمانة فإننا لا يمكن أن نصل إلى نتيجة مؤداها أن هذا النص ينطبق على كل أنواع الأموال. فخيانة الأمانة – حتى فى صياغتها الجديدة - لا تتعلق إلا بالأموال المنقولة Biens mobiliers. فبمطالعة الأعمال التحضيرية لقانون 22 يوليه 1992 يتبين لنا أن القائمين على تعديل قانون العقوبات لم يرغبوا أن يغيروا من هذه الحقيقة. ففى المشروع التمهيدى كان ينص على أن خيانة الأمانة تقع باختلاس "أى شيئ" Chose quelconque غير أن هذه الصياغة الواسعة, التى قد تسمح بدخول العقارات فيها, كانت سببا لاستبدال كلمة شيئ بكلمة مال Bien. وعلى هذا فلا يمكن أن تكون خيانة الأمانة هى السلاح الفعال فى مجال الانحرافات الخاصة بإدارة الشركات إذا تقع غالبية الصفقات على أموال عقارية مما يوجب الاحتفاظ بإساءة أموال الشركات كتجريم خاص. والنتيجة النهائية لكل هذا هو أن اتهام أحد الأشخاص عن جريمة جريمة خيانة الأمانة وانتهاء التحقيق إلى براءته لا يمنع من توجيه اتهام جديد مبنى على جريمة إساءة أموال الشركة اللهم إلا إذا اصطدمنا بقاعدة عدم العقاب عن ذات الفعل مرتين Non bis in idem بحيث تتحقق الوحدة بين التكيفين فى المحل والسبب والأشخاص .
الفرع الثانى: مفهوم و محل الاستعمال التعسفى للذمة المالية للشركة
كما سبق القول فإن تبنى لفظ الاستعمال من قبل المشرع الفرنسى كجوهر للسلوك الذى تتم به جريمة إساءة أموال أو ائتمان الشركات إنما أريد به تغطية أكبر عدد ممكن من الانحرافات المالية التى لا تسمح بها جريمة خيانة الأمانة حتى فى صياغتها الجديدة. هذا الأمر يدعونا إلى البدء فى تحديد مفهوم هذا الشكل من أشكال السلوك ثم تحديد المحل الذى يرد عليه.
أولا: مفهوم الاستعمال التعسفى للذمة المالية للشركة
أراد المشرع بتبنى لفظ الاستعمال تجريم أكبر قدر من الأفعال الممكن أن تمس بالذمة المالية للشركة Patrimoine social. مما يعنى أن المشرع تبنى مفهوما موسعا يتعدى به مفهومى الاختلاس والتبديد الوارد فى تجريم خيانة الأمانة. وإذا كان هذا الأمر من الوضوح إلا أن هناك تشككاً فيما إذا كان هذا السلوك أريد به أيضا أن يتخطى حالات الامتناع.
1- التجاوز الواضح لأفعال الاختلاس أو التبديد
تكشف المشروعات التمهيدية التى قدمت فى عام 1935 لإدخال تجريم خاص بأموال وائتمان الشركات عن أن المشرع عمد إلى تبنى لفظ مرن. فلقد رفض البرلمان الاقتراح الذى قدم فى يونيو عام 1934 والذى كان قد وافق عليه مجلس الشيوخ والذى يجرم أفعال "السحب" Prélèvements التى يجريها مدير الشركة، ومن هنا جاء استخدام لفظ "الاستعمال". وإذا كان هذا اللفظ يغطى الركن المادى فى جريمة خيانة الأمانة وهى التبديد والاختلاس إلا أنه يتعداها أيضا، لذا فقد قضى بأنه يعد استعمالا مجرما فى معنى جريمة إساءة أموال الشركات منح مكافآت مغالى فيها Rémunérations abusives أو مزايا عينية Avantages en nature وكذلك اعتبرت الغرفة الجنائية لمحكمة النقض مرتكبا جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات المدير الذى يقيد كمديونية على الشركة قيمة بضائع لم تسلم بعد والذى ثبت استفادته من مكافآت متجاوزة الحد ومزايا عينية" .
ومما لاشك فيه أن الشكل الأكثر خطورة للاستعمال التعسفى لأموال وائتمان الشركة هو الذى يتم عن طريق تغير طبيعة الحيازة من حيازة ناقصة إلى الادعاء بملكية المال. ويتم هذا التغير بصورتين إحداها مباشرة والأخرى غير مباشرة.
أما عن التغيير المباشر فمن قبيل ذلك قيام رئيس مجلس الإدارة Président-directeur général (PDG) بمنح نفسه مكافأة غير مبرر محسوبة على أموال الشركة رغم علمه بأن الشركة منذ سنوات فى حالة فعليه للتوقف عن الدفع Cessation de paiements . ومن قبيل ذلك أيضا قيام رئيس مجلس الإدارة بإنشاء شركة خاصة به لإنتاج منتج أكثر حداثة مع وضعة تحت تصرف هذه الشركة المواد الأولية وعمال وائتمان الشركة التى يريدها مع عرضة لهذا المنتج فى السوق منافسا به منتج الشركة التى يديرها . ومن قبيل ذلك أيضا قيام مدير الشركة باستقطاع مبالغ مالية من ثمن بيع قطعة أرض مملوكة للشركة وتحويلها مرة أخرى للمشترى وليبدو الأمر وأنه تخفيض غير معلن لثمن الأرض ثم استعمال هذا المبلغ فى أغراض شخصية . أما التغير غير المباشر للحيازة فيم ذلك عادة عن طريق الحيل والألاعيب المحاسبية Artifices de comptabilités ومن ذلك الامتناع عن تسجيل إحدى العمليات فى دفاتر الشركة أو استعمال حسابات صورية Comptes simulés أو إجراء تحويل Virement من حساب إلى حساب أخر يبدو به هذا الأخير فى وضع المديونية.
ولقد خلق اشتمال لفظ الاستعمال لأفعال التبديد والاختلاس شكلا من أشكال التنازع فى شكل التعدد الصورى بين جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات وبين جريمة الإفلاس إذا ما ارتكبت هذه الأخيرة عن طريق اختلاس أو تبديد أحد عناصر الذمة المالية (المادة 197/2 من قانون 85-98 الصادر فى 25 يناير 1985)، بمعنى أخر فإن الركن المادى لكلا الجريمتين يمكن أن يتحقق نتيجة أفعال متشابهة تؤدى إما إلى إفقار الذمة المالية ناشئة عن إنقاص فى أصول الشركة Diminution d’actif أو زيادة فى خصومها Aggravation du passif. وعلى ذلك فإن البدء فى إجراءات التسوية أو فى إجراءات التصفية القضائية والتى أصبحت شرطا مفترضا منذ صدور قانون 25 يناير 1985 يتعين التثبت منة قبل الإدانة بجريمة الإفلاس يمكن أن يقود القاضي إلي تقرير إدانة أخرى عن إساءة أموال الشركات .
هنا يثور التساؤل حول كيفية حل هذا التنازع في التكييف في حالة التعدد الصوري. في رأى البعض فإنه من الأفضل لدى القاضى أن يستبقى تكييف جريمة الإفلاس سواء أكانت أفعال التبديد أو الاختلاس سابقة أو لاحقة علي التوقف عن الدفع متي كانت الأفعال المرتكبة تهدف إلي تجنب أو تأخير تقدير هذه الحالة أو كانت تمس بالرصيد القائم بما يؤدي إلي عجز المدين عن الوفاء بديونه المستحقة . وفى رأى البعض الأخر أن التعدد بين الجريمتين يجب أن يعالج في إطار قواعد التعدد الحقيقي بين الجرائم Concours réel d’infractions والتي تتعلق بأفعال متميزة وتختلف عن بعضها البعض مرتكبة من قبل ذات الشخص دون أن يحاكم عن احد الأفعال قبل ارتكابه لفعل أخر، مما مؤداه وجوب الإدانة عن كلا الجريمتين حيث تتعدد المصالح المحمية وحيث أن الجاني بفعل الاختلاس أو التبديد قد أوقع اعتداءا علي مصلحة الشركة ذاتها وعلي الضمان العام للدائنين. ولقد تبني القضاء هذا الحل من قبل عندما وجد تعددا حقيقيا بين خيانة الأمانة وإساءة أموال الشركة وبين هذه الأخيرة والرشوة . ويستند هذا الرأى إلى موقف محكمة النقض الذي يجري علي اعتبار التعدد بين الجرائم تعددا حقيقيا حينما يثبت أن الفعل الذي أتاه الجاني يتميز باركان معنوية مختلفة ومتمايزة Eléments moraux distinctement incriminés أو تمثل انتهاكاً لمصالح جماعية أو فردية متمايزة . ومع ثبوت حالة التعدد الحقيقى هذه فإن الحل يتأتى من خلال تطبيق العقوبة الأشد مع الإشارة في حكم الإدانة للجريمة الأقل خطورة (م 132-3 فقرة 2 عقوبات فرنسي).
ولقد ذهبت بعض أحكام القضاء قبل صدور القانون 25 يناير 1985 إلى الحكم بان كلا التجريمين يمكن الأخذ بهما سواء أكانت الأفعال المجرمة قد وقعت قبل التوقف عن الدفع أو بعدة . غير أن محكمة النقض قد عدلت عن قضائها بحكم صادر في 10 فبراير 1986 أكدت فيه أن تاريخ التوقف عن الدفع هو الذي يفرق بين جريمة الإفلاس وبين إساءة أموال الشركات. فحينما ترتكب أفعال التبديد أو الاختلاس من قبل أحد مديرى شركات الأموال في وقت تستطيع فيه الشركة الوفاء بديونها فإنه يتعين تكييف هذه الأفعال على أنها إساءة أموال الشركات فى حين إذا ما ارتكبت تلك الأفعال فى أعقاب صدور حكم بإعلان حالة التوقف عن الدفع فإنه يتعين تكييف فعل الاختلاس على أنه احد عناصر جريمة الإفلاس . وقد أكدت محكمة النقض هذا القضاء في حكم أخر لها صادر في 23 يوليه 1996 عندما أكدت خطا محكمة الاستئناف حينما أدانت مدير الشركة عن إساءة أموال الشركات رغم أن الأفعال التي أقيمت عنها الدعوى قد وقعت لاحقة للتوقف عن الدفع. ولقد جري قضاء محكمة النقض على هذا فى أحكام أخرى .
ورغم أن هذا القضاء يبدو منطقيا فإننا رغم ذلك نرى فيه مساسا بمبدأ الشرعية الجنائية حيث تتوحد الأفعال الصادرة من الجانى - سواء قبل التوقف عن الدفع أو بعدة - ورغم ذلك فإنه يتعين إعطاء هذه الأفعال اسما وتكيفا مختلفا فى كل مرة .
وإذا كان تغيير الحيازة بأفعال التبديد أو الاختلاس هو أحد الأشكال الواضحة التى يتضمنها وتدخل تحت لواء لفظ الاستعمال الوارد فى تجريم إساءة الأموال والائتمان، إلا أن هذا الاستعمال يمكن أن يتحقق بشكل مستقل دون أى رابطة بالتبديد أو الاختلاس كأحد أركان خيانة الأمانة الواردة بالمادة 314/1 عقوبات فرنسى. فهنا يبرز تجاوز هاتين الفكرتين ويبرز تمايز التجريم الخاص فى مجال الشركات ودورة فى الردع . فليس من الضرورى إثبات أن الجانى قد أجرى تغييرا فى طبيعة الحيازة أو أنه تعمد الأضرار بالذمة المالية للشركة. وهنا يظهر أن الطبيعة الحقيقية لجريمة إساءة أموال وائتمان الشركات أنها تعاقب على عمل من أعمال الإدارة المخالف لمصلحة الشركة وليس على عمل يضر ضررا ماديا بالشركة.
وعلى هذا فيجب فهم هذا اللفظ بمعنى واسع وشامل وعلى أنه كل عمل من أعمال الإدارة (كالاستفادة من بعض المزايا, قروض، سلف, إيجارات الخ ...) وبمعنى أخر فإن هذا اللفظ يبعد كلياً عن أعمال التصرف ليتعلق فقط بمجرد أعمال الإدارة Simples actes d’administration. وعلى هذا فقد حكم بارتكاب أحد مديرى الشركات لجريمة إساءة الأموال بسحبة هامش الربح الإجمالى Marge brute فى حين أنه لا يحق له أن يسحب إلا هامش الربح الصافى Marge nette وهو ما لم يتحقق فى هذه الدعوى. وعلى أثر ذلك فقد أكدت المحكمة أن المشرع لا يجرم فقط أفعال الاختلاس أو الاستيلاء على أموال الشركة من قبل القائمين على الإدارة ولكن أيضا مجرد الاستعمال السيئ أو التعسفى .
وقد حكم أيضا بأنه يعد استعمالا تعسفيا لأموال الشركة وجود شكل من أشكال عدم التميز بين الذمم المالية, أى بين الذمة المالية المستقلة للشركة والذمة المالية الخاصة للقائمين على إدارتها Confusion entre le patrimoine de la société et le patrimoine propre de ses dirigeants. ومن هذا القبيل, منح المدير لنفسه رهنا على عقارات الشركة ضمانا لديونه تجاه الشركة التى يديرها ، وفى دعوى أخرى رفضت محكمة النقض دفع أحد المديرين الذى يدير شركة مساهمة تعمل فى مجال التشييد المؤسس على أنه مجرد مدين للشركة مما لا تتوافر معه شروط الاستعمال السيئ والمخالف لمصلحة الشركة. فلقد أثبتت المحكمة بحقه أنه قام بأفعال تنم عن انه قد خلط بين ذمته المالية وذمة الشركة المستقلة وأنه لإخفاء معالم انحرافاته قد أمسك حسابات مضللة وغامضة يملؤها التناقص والفجوات . وحكم أيضا بوجود الاستعمال السيئ فى حالة قيام الشركة بشراء أرض بسعر المتر عشرة فرنكات رغم أن الشركة البائعة قد أعلنت رغبتها من قبل عن بيع المتر بعشرين سنتيما فقط .
2- التجاوز غير المؤكد لأفعال الارتكاب
السؤال الذى يطرح نفسه هو مدى إمكانية ارتكاب جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات بأفعال الامتناع Abstention ، وبمعنى أخر هل يتماثل الامتناع مع الاستعمال التعسفى ؟ من الضرورى التأكيد على أن جريمة إساءة أموال الشركات تتم بأفعال إيجابية من قبل مرتكب السلوك الإجرامى مما مؤداه أن الإهمال أو الإخلال بالالتزام العام بالحرص والحيطة لا يشكل استعمالا تعسفيا فى معنى المواد 425/4 و 437/3 والتى لا تسمح صياغتها إلا بعقاب الأفعال الايجابية .
ويتعين التأكيد على حقيقة مؤداها أن جرائم الامتناع, التى تمثل فى القانون العام استثناء على الأصل, إنما تمثل فى مجال الشركات الكثرة الغالبة من الجرائم ويبرر ذلك – كما يقول العميد Vitu - الحاجة إلى دفع الأفراد إلى التصرف حيث يفهم الامتناع حاليا وفى فروض كثيرة على أنه خروج على مقتضيات الواجب لم تعد تتقبله التشريعات Indiscipline inadmissible.
ويمتد تجريم الامتناع طوال حياة الشركة، فحال تأسيس الشركة يجرم المشرع الفرنسى مثلا الامتناع عن عمل إعلان التوافق Déclaration de conformité (مادة 480 من قانون الشركات الملغاة بالقانون 1994) والذى كان يجب أن يصدر عن المؤسسين بحيث يقرون فيه القيام بكافة إجراءات التأسيس وتوافقها مع نصوص القانون. كما يجرم أيضا إغفال الإعلان المتعلق بتوزيع الحصص بين المساهمين (مادة 423 من قانون 1966). وحال إدارة الشركة يجرم المشرع الامتناع عن الإمساك ببعض الدفاتر المحاسبية (مادة 426 و مادة 439) والامتناع عن تعيين مراتب حسابات (مادة 430 و 455) وامتناع مراقب الحسابات عن إبلاغ النيابة العامة بالوقائع الجنائية التى تصل إلى عملة (مادة 457). وحال تصفية الشركة واتخاذ إجراءات التسوية القضائية فالمشرع يجرم مثلا عدم الإمساك ببعض الدفاتر محاسبية (مادة 197).
فيما يتعلق بإساءة أموال أو ائتمان الشركات يبدو أن القضاء لم يتردد فى مرحلة أولى بعقاب أفعال الامتناع دون أن يقرر تعارض هذه الحالة السلبية مع فكرة الاستعمال التعسفى. ففى حكم لمحكمة النقض صادر فى 15 مارس 1972 أكدت المحكمة أن فكرة الاستعمال التعسفى يمكن أن تنشأ عن الامتناع عن التصرف. ويتعلق الأمر فى هذه الدعوى بامتناع المدير عن المطالبة بثمن البضائع لدى شركة كان توجد له فيها مصلحة . وهذا الموقف يختلف عما تبنته محكمة النقض فى مجال الجرائم الملحقة بالإفلاس حيث قضت بأن امتناع المدير عن المطالبة بالسمسرة التى تستحقها شركته لدى شركة أخرى لا يتمثل فى إفلاسا بالتدليس ففعل الاختلاس لأموال الشركة يستوجب عملا إيجابيا ، الأمر الذى اعتبره البعض تعارضا فى موقف القضاء بين الجريمتين رغم أنه يوجد فى كثير من الحالات تعدد نموذجى بينهما .
ويبدو أن قضاة الموضوع يتوجهون ذات الاتجاه الرامى إلى اعتبار بعض أفعال الامتناع استعمالا متعسفا لأموال الشركة. فمحكمة استئناف Angers قضت فى حكم لها بأنه"يرتكب إساءة أموال الشركات مدير شركة المسئولية المحدودة الذى لا يحد بطريقة تلقائية من مكافأته إذا ما ظهر أن الشركة تحقق خسائر" .
غير أن تحليل بعض الأحكام الحديثة يكشف عن أن محكمة النقض الفرنسية التزمت التقيد بالقواعد العامة التى توجب عدم تجريم الامتناع إلا بنص صريح مما مؤداه تطلب عمل ايجابى لتحقق السلوك الإجرامى لإساءة أموال وائتمان الشركات. ففى إحدى الدعاوى اتهم كل من رئيس مجلس إدارة إحدى شركات الاقتصاد المختلط Société d’économie mixte (التى تجمع فى رأس مالها بين مساهمة القطاع الخاص والدولة) وكذلك نائبة بحجة أنهما قد قاما بدفع فواتير ومنح أموال لصالح شركة أخرى يقوم النائب على إدارتها. بيد أن محكمة النقض قضت ببراءة رئيس مجلس إدارة الشركة بحجة أنه وإن كان يعلم ويتستر على تصرفات نائبه فإن ذلك لا يكون مساهمة شخصية منه ولا يكون استعمالا تعسفيا فى معنى جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات .
ونحن نتفق مع ما ذهب إليه هذا القضاء من عدم المساواة بين الاستعمال وبين الامتناع كما لا نوافق على ما قال به البعض من أن العقاب على الامتناع فى جريمة إساءة أموال الشركات هو شكل من أشكال الجرائم الايجابية بطريق الامتناع حيث أن هذا الشكل من أشكال الجرائم غالبا ما يرفضه القضاء لما فيه من شبه التجريم بطريق القياس غير المقبول فيما يتعلق بالقوانين الأسوأ للمتهم. وهذا ما يدعونا حرصا على الشرعية الجنائية والتزاما بها إلى مطالبة المشرع بالتدخل لتجريم الامتناع واعتباره من قبيل الاستعمال الضار بمصلحة الشركة فى معنى جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات.