السلطة التقديرية لقاضي شؤون الأسرة في الزواج وإنحلاله
خطــــة
الفصل الأول : السلطة التقديرية للقاضي عند نشوء الرابطة الزوجية وانحلالها
المبحث الأول : السلطة التقديرية للقاضي عند نشوء الرابطة الزوجية
المطلب الأول : مجال تدخل القاضي في الخطبة
المطلب الثاني : تحديد سن الزواج و سلطة القاضي في الإعفاء منه
المطلب الثالث: تعدد الزوجات وسلطة القاضي في الترخيص به
المبحث الثاني : السلطة التقديرية للقاضي عند انحلال الرابطة الزوجية
المطلب الأول : دور القاضي في الصلح والتحكيم
المطلب الثاني : سلطة القاضي في تقدير حالات التطليق
المطلب الثالث : تقدير القاضي للطلاق التعسفي والنشوز
الفصل الثاني : السلطة التقديرية للقاضي في الآثار المترتبة على نشوء الرابطة الزوجية وانحلالها
المبحث الأول : السلطة التقديرية للقاضي في الآثار المالية للزواج وانحلاله
المطلب الأول : الآثار المالية الناتجة عن الزواج وتقدير القاضي لها
المطلب الثاني : الآثار المالية الناتجة عن انحلال الزواج وتقدير القاضي لها
المطلب الثالث : مجال تدخل القاضي في النزاع حول متاع البيت
المبحث الثاني :السلطة التقديرية للقاضي في النسب والحضانة
المطلب الأول : تقدير القاضي لثبوت النسب ونفيه
المطلب الثاني : مجال تدخل القاضي في الحضانة
خاتــــــمة
الفصل الأول :السلطة التقديرية للقاضي عند نشوء الرابطة الزوجية وإنحلالها
عالج المشرع الجزائري كل المسائل المتعلقة بالزواج والطلاق في قانون الأسرة رقم 84/11 الصادر بتاريخ 09 يونيو 1984 المعدل والمتمم بالأمر 05/02 المؤرخ في 27 فبراير 2005، وقد استمد جلّ أحكامه من الشريعة الإسلامية مراعيا في ذلك مستجدات العصر وتطور المجتمع، وحدد أحكاما وشروطا في عقد الزواج لابد من توافرها في المقدمين عليه، وخصه بمقدمات تتفق مع عظمته وقداسته.
كما نظم المشرع طرق فك الرابطة الزوجية في حالة عدم استقرارها وخصها بإجراءات عديدة فمنح حق الطلاق للرجل بالإرادة المنفردة كما أعطى للمرأة الحق في طلب التطليق والخلع ومنح لكل من تضرر من فك الرابطة الزوجية الحق في المطالبة بالتعويض.
ولضمان التقيد بأحكام هذا القانون جعل المشرع قاضي شؤون الأسرة رقيبا وحارسا أمينا لضمان التقيد بمختلف نصوصه، لكن مهما بلغت حيطة المشرع وحسن صياغته فإنه سيظل عاجزا عن معالجة كل الحالات المعروضة على القضاء، لذلك كانت جل النصوص مرنة تسمح للقاضي أن يواجه ظروف تطبيق القانون أي منح له سلطة تقديرية تيسر له جعل أحكام القانون متماشية مع مقتضيات الظروف ولتبيان دور القاضي في هذا المجال سنتطرق من خلال مبحثين اثنين إلى النقاط التالية:
أولا: السلطة التقديرية للقاضي عند نشوء الرابطة الزوجية
ثانيا: السلطة التقديرية للقاضي عند انحلال الرابطة الزوجية.
المبحث الأول: السلطة التقديرية للقاضي عند نشوء الرابطة الزوجية
يعرف عقد الزواج على أنه :"عقد يفيد حل العشرة بين الرجل والمرأة وتعاونهما مدى الحياة بما يحقق ما يقتضيه الطبع الإنساني ويحدد ما لكليهما من حقوق وما عليه من واجبات".
وهو من أهم وأخطر العقود في حياة الإنسان نظمه المشرع الجزائري في قانون الأسرة وحدد أحكامه فأفرد الفصل الأول للخطبة والزواج من الباب الأول منه- الزواج- من الكتاب الأول- الزواج وانحلاله- من المادة الرابعة إلى المادة الحادية والعشرين منه.
وقد جاءت معظم قواعد قانون الأسرة مرنة تاركة مجالا خصبا لتدخل القاضي من خلال ما يتمتع به من سلطة تقديرية حسب كل قضية معروضة عليه، وهذا ما سنحاول توضيحه في بعض النقاط التي نراها أساسية في إبراز هذه السلطة وتبيان دورها وهي كالآتي:
أولا: مقدمات عقد الزواج-الخطبة -
ثانيا: الإعفاء من سن الزواج
ثالثا: الترخيص بتعدد الزوجات.
المطلب الأول: مجال تدخل القاضي في الخطبة
عقد الزواج هو عقد موضوعه الحياة الإنسانية وهو عقد يبرم على أساس الدوام إلى نهاية الحياة ولهذا كانت مقدماته لها خطره وشأنه.
وقد عالج المشرع الجزائري موضوع الخطبة في المادتين الخامسة والسادسة من قانون الأسرة,وتعرف الخطبة اصطلاحا : أنها طلب رجل الزواج من امرأة معينة خالية من الموانع الشرعية وذلك بأن يتقدم إليها أو إلى أهلها لطلب الزواج منها وقد اعتاد الناس منذ القدم في أعرافهم على سلوك طريق الخطبة كإجراء تمهيدي يسبق عقد الزواج، والعلة في ذلك هو إتاحة الفرصة للخطيبين حتى يكونا مستعدين بشكل كامل لهذا العقد الهام ماديا ومعنويا.
وسنحاول تبيان مجال تدخل القاضي في هذه المسالة من خلال الفرعين التاليين:
أولا : تعويض الضرر المترتب على العدول عن الخطبة
ثانيا: سلطات القاضي فيما يخص الهدايا المقدمة خلال فترة الخطوبة.
الفرع الأول: تعويض الضرر المترتب على العدول عن الخطبة
لما كان العدول عن الخطبة حق لكل طرف فإنه إذا وقع انفضت الخطبة ولا يجوز للطرف الذي لم يعدل أن يطلب من القضاء الحكم بإلزام الطرف الآخر بالاستمرار في الخطبة وإبرام عقد الزواج دون إرادته وإنما يجوز للطرف المتضرر أن يطالب بالتعويض عن الضرر الذي لحق به.
ولا شك في أن العدول عن الخطبة قد يسبب أضرارا مادية ومعنوية للطرف المعدول عنه، إذ قد تستمر الخطبة زمنا طويلا ممّا يؤدي إلى تقدم المخطوبة في السن فيسبب لها ذلك ضررا يتمثل في تفويت الفرصة للزواج من الخاطب المناسب، أو قد تكون موظفة أو تتابع دراستها فتقدم استقالتها أو تتوقف عن الدراسة
استعداد للزواج ثم بعد ذلك يعدل الخاطب عن الخطبة، كما انه قد يطلب من الخاطب إعداد منزل خاص في مدينة معينة ويكلفه ذلك مبالغ باهضة ثم يحدث العدول من المخطوبة والأمثلة على ذلك كثيرة.
إضافة إلى أن مجرد العدول عن الخطبة يسبب أضرارا معنوية ولو من باب خدش الشعور وما تلوكه الألسنة عن أسباب العدول مما قد يؤذي سمعة المعدول عنه ويعرضه لكثير من الشائعات ويفتح باب التأويلات والظنون السيئة فيه وبالرجوع إلى نص المادة الخامسة من قانون الأسرة في فقرتها الثانية نجد أنها نصت على أنه: " إذا ترتب عن العدول عن الخطبة ضرر مادي أو معنوي لأحد الطرفين جاز الحكم له بالتعويض".
ومن خلال هذه الفقرة نلاحظ أن المشرع لم يبين بدقة سبب حدوث الضرر الموجب للتعويض أهو الضرر الناجم عن مجرد العدول أم هو الضرر الناجم عن تغرير احد الطرفين؟
وهنا يبرز مجال إعمال القاضي لسلطته التقديرية لإيجاد الحل المناسب.
وقد انتهى القضاء في مصر إلى ثلاث مبادئ متعلقة بالتعويض على العدول عن الخطبة سردها الدكتور عبد الرزاق السنهوري وهي:
1. أن الخطبة ليست بعقد ملزم.
2. أن مجرد العدول عن الخطبة لا يكون سببا موجبا للتعويض.
3. أنه إذا اقترن بالعدول عن الخطبة أفعال أخرى ألحقت ضررا بأحد الخطيبين جاز الحكم بالتعويض.
وأساس الحكم بالتعويض عن العدول عن الخطبة هو التعسف في استعمال الحق وهذا ما أخذ به المالكية والحنابلة ، وليس مجرد العدول الذي هو حق للطرف العادل، فالقاضي يبحث عن سبب الضرر الناشئ عن العدول عن الخطبة فإذا كان هذا الضرر ناشئا عن مجرد الخطبة والعدول عنها فلا تعويض للطرف الذي يدعي الضرر، أما إذا كان سبب الضرر هو فعل أحد الطرفين فالقاضي يحكم بالتعويض, وما عليه إلا أن يدقق بحثه في أسباب العدول وتقدير جديتها من عدمه.
ويبدو أن الاجتهاد القضائي في الجزائر متفق مع ما استقر عليه القضاء في مصر وهذا ما يستشف من خلال قرار صادر عن المحكمة العليا بتاريخ 25/12/1989جاء فيه "... من المقرر أيضا أنه إذا ترتب على العدول عن الخطوبة ضرر مادي أو معنوي لأحد الطرفين جاز الحكم بالتعويض ومن ثمة فإن القضاء بما يخالف هذين المبدأين يعد خرقا للقانون..."
والتعويض الناجم عن العدول عن الخطبة يشمل التعويض عن الضرر المادي والمعنوي كما أشرنا، والضرر المادي هو الذي يصيب الطرف المتضرر في حق ثابت أو مصلحة مالية، لهذا فالقاضي لا يجد صعوبة في تقديره والتعويض عليه، أما الضرر المعنوي فهو الذي يصيب مصلحة غير مالية كالتشهير وتشويه السمعة هذا ما قد يجعل القاضي يجد صعوبة في تقديره والتعويض عليه ، ولتقدير قيمة التعويض يجب على القاضي أن يبحث أولا عن المعيار الذي يعتبر معه الفعل خطأ يستوجب التعويض عن العدول عن الخطبة.
وفي ذلك يرى جمهور الفقهاء أن المعيار المعول عليه في هذا المجال هو المعيار الموضوعي الذي يقدر فيه بمعيار السلوك المألوف للشخص العادي إذا وجد في نفس الظروف وأدى هذا الانحراف إلى الإضرار
بالطرف المعدول عنه كان مسؤولا عن تعويض هذا الضرر، كما أن القاضي يراعي في تقديره للتعويض شخص المضرور والمعيار المعتمد هنا هو المعيار الشخصي.
الفرع الثاني : سلطات القاضي فيما يخص الهدايا المقدمة خلال فترة الخطوبة
عالج المشرع الجزائري في نص المادة الخامسة من قانون الأسرة مصير الهدايا المقدمة من أحد الخطيبين بعد العدول عن الخطبة من أحدهما فجاء نصها كما يلي: "...لا يسترد الخاطب من المخطوبة شيئا مما أهداها إذا كان العدول منه وعليه أن يرد للمخطوبة ما لم يستهلك مما أهدته له أو قيمته. وإن كان العدول من المخطوبة فعليها أن ترد للخاطب ما لم يستهلك من هدايا أو قيمته".
من استقراء هاتين الفقرتين يتبين أن المشرع الجزائري أباح للطرف المعدول عنه استرجاع ما لم يستهلك من هدايا أو قيمته أما الطرف العادل فليس له الحق في استرجاع شيء.
ولعل في هذا الحكم الكثير من الغموض مما يفتح المجال واسعا لإعمال القاضي لسلطته التقديرية.
فعبارة – ما لم يستهلك- التي أوردها المشرع توحي بأن الطرف العادل إذا استهلك الهدايا أو تصرف فيها بأي شكل من الأشكال الناقلة للملكية فإنه لا يردها لانه لم يعد لها وجود وبالتالي فهي مستهلكة حسب ما جاء في النص القانوني- رد ما لم يستهلك – إلا إذا قصد المشرع من وراء ذلك عدم رد الهدايا التي تستهلك بطبيعتها أو لقلة قيمتها، كل هذا يجعل القاضي يبحث عن المعنى الحقيقي الذي قصده المشرع من هذه العبارة واستخلاص القصد السليم الذي يتماشى مع العقل والمنطق.
كما أن المشرع قد أغفل نقطة في غاية الأهمية ألا وهي حكم المتسبب في العدول عن الخطبة، فقد يدفع الخاطب هدايا ذات قيمة معتبرة وربما حتى بطلب من المخطوبة وبعدها تلجأ إلى التحايل بأن تقوم بتصرفات لا ترضي خطيبها أو تتعمد الخصام فتدفعه إلى العدول عن الخطبة وفي رأينا أنه يجب على القاضي قبل الحكم في مسألة كهذه أن يبحث عن المتسبب في العدول وعن الأسباب التي دفعت إليه، فإذا تبين له أن طرفا ما قد تسبب في العدول بأن غرر بالطرف الآخر، ما دفعه إلى العدول عن الخطبة جاز له أن يقضي على الطرف المتسبب في العدول بإرجاع الهدايا ولو أن العدول كان من الآخر، إذ من المتعارف عليه أن التغرير يوجب الضمان في أحكام الشريعة الإسلامية، وقد أخذ المشرع في دولة الإمارات العربية المتحدة بهذا الحل في المادة الثامنة عشر من قانون الأحوال الشخصية الإماراتي بوضعه للمتسبب في العدول في حكم العادل.
تبقى مسألة أخيرة شائعة الحدوث في كثير من ربوع الوطن وهي تقديم المهر للمخطوبة خلال فترة الخطوبة وقبل إبرام عقد الزواج فما هو الحل إذا تنازع الخاطب والمخطوبة عند العدول فيما قدمه هل هو مهر أم هدية؟ وهل بإمكان الرجل استرداد ما قدمه؟ وما هو الحل إذا اشترت المخطوبة بمقدار مهرها أو بعضه جهازا؟
في التشريع المقارن نجد أن المشرع الإماراتي تناول هذه النقطة في المادة 18 من قانون الأحوال الشخصية حيث اعتبر أنه من المهر الهدايا التي جرى العرف على اعتبارها مهرا وفي حالة عدول أحد الطرفين عن الخطبة أو وفاته يسترد الرجل المهر الذي أداه عينا أو قيمته يوم القبض إن تعذر رده عينا وفي حالة شراء المخطوبة بمقدار المهر أو ببعضه جهازا فلها الخيار بين إعادة المهر أو تسليم ما يساويه من الجهاز وقت الشراء، أما المشرع الجزائري فقد أغفل هذه النقطة وهنا على القاضي إعمال سلطته التقديرية والرجوع لأحكام الشريعة الإسلامية وذلك اعتمادا على نص المادة 222 من قانون الأسرة التي سمحت بالرجوع لأحكام الشريعة في كل ما لم يرد النص عليه، وفي هذه الحالة يعتبر كل من الخاطب والمخطوبة
مدعيا ومنكرا فأيهما أقام بينة على دعواه وأقنع القاضي حكم له وفقا لتقديره قوة حجته وبينته حسب الأدلة المقدمة.
من خلال ما تقدم لا يمكننا إلا أن نقول أن المشرع الجزائري رغم تطرقه لمقدمات الزواج في المادة 05 من قانون الأسرة إلا أنه لم يولها الاهتمام اللازم لذا وجب على القاضي بما له من سلطان التقدير أن يتحلى بالحكمة وحسن التدبير حسب ظروف كل قضية وحسب كل طرف من أطرافها وما عليه إلا أن يعتمد على نص المادة 222 من قانون الأسرة والتي تحيله إلى أحكام الشريعة الإسلامية وهذه الأخيرة لم تترك كبيرة ولا صغيرة إلا وعالجتها ورغم ذلك نرى أنه من الضروري تعديل نص المادة الخامسة من قانون الأسرة وهذا عملا على استقرار العمل القضائي وحتى لا يكون هناك تضارب في الأحكام القضائية نظرا لاختلاف الحلول التي وصلت إليها مختلف المذاهب الفقهية.
المطلب الثاني : تحديد سن الزواج وسلطة القاضي في الإعفاء منه
لقد نظم المشرع الجزائري أحكام الأهلية بصفة عامة في القانون المدني أما أهلية الزواج فقد نظمها في نص المادة 07 من قانون الأسرة والتي جاء نصها كما يلي "تكتمل أهلية الرجل والمرأة في الزواج بتمام تسعة عشر سنة.
وللقاضي أن يرخص بالزواج قبل ذلك لمصلحة أو ضرورة متى تأكدت قدرة الطرفين على الزواج.
يكتسب الزوج القاصر أهلية التقاضي فيما يتعلق بآثار عقد الزواج من حقوق والتزامات" فهذا النص وضع شرطا جوهريا متمثلا في التأكد من قدرة الطرفين على الزواج وأعبائه إضافة إلى ترشيد القاصر فيما يخص الحقوق والالتزامات التي يرتبها عقد الزواج، حيث لا يخضع لأية وصاية في شؤون أحواله الشخصية.
وما تجدر الإشارة إليه أن كل القوانين التي سبقت التعديل الأخير لقانون الأسرة الجزائري بموجب الأمر 05/02 المؤرخ في 27/02/2005 سواء ما صدر منها خلال فترة الاحتلال أو بعد الاستقلال كلها حافظت على الاستثناء الذي يمكن من إبرام عقد الزواج قبل اكتمال السن القانوني المحدد في القانون الحالي 19 سنة.
وأهلية الزواج من المسائل التي تتعلق بالنظام العام حيث لا يمكن إبرام عقد الزواج بدون مراعاة السن القانوني ولو ارتضى الطرفان على ذلك قياسا على الأهلية بصفة عامة وفكرة النظام العام تحدد من قبل المشرع بناءا على معتقدات المجتمع وعاداته وتقاليده لذلك منع المشرع الجزائري زواج الصغار ومنح للقاضي سلطة تمكنه من تحديد سن الزواج في حالة وجود مصلحة أو ضرورة تقتضي ذلك, ولم يعامل كل الأشخاص بنفس المعاملة نظرا لاختلاف ظروف وأحوال الناس مراعيا بذلك عادات المجتمع، فخروج المشرع عن القاعدة العامة للسن المحدد للزواج هو خروج مقيد بتعليق الزواج دون السن المحددة على طلب إعفاء مسبق يقدم إلى القاضي
المختص الذي يتعين عليه دراسة الطلب دراسة جدية وفحصه بعناية تامة تمكنه من معرفة ما إذا كان في هذا الزواج مصلحة للزوجين أو كانت هناك ضرورة, لذلك فقد جعل المشرع الجزائري القاضي رقيبا على تزويج الأشخاص الذين لم يبلغوا السن القانونية وجعل منه وليا غير مباشر لهم إن صح القول وأمينا على مصالحهم ومقدرا عادلا لظروفهم الخاصة ولما يواجههم من ضرورات ومصالح تخصهم هم أنفسهم.
وما يؤخذ على نص المادة 07 من قانون الأسرة المذكور أعلاه أنها لم تحدد صراحة القاضي المختص بمنح الترخيص، وبالرجوع إلى ما وقفنا عليه في التربص الميداني على مستوى المحاكم وجدنا هذا الاختصاص موكل لرئيس المحكمة ضمن ما يعرف بالسلطة الولائية، وفي هذا الصدد يقول الدكتور تشوار جيلالي في محاضرته التي ألقاها بمناسبة ملتقى حماية الطفولة "إن المنطق والمصلحة الفعلية للطفل يقضيان بأن يوكل الأمر لقاضي الأحوال الشخصية لدرايته وخبرته في هذا المجال إذ أنه يحتك يوميا بالمسائل المتعلقة بحالة الأشخاص، خاصة مسألتي الزواج والطلاق".
وتبدو هكذا أهمية هذا الاختصاص واضحة هنا إذ أن المسألة ليست فقط كما يعتقد البعض مسألة متصلة اتصالا وثيقا بالسلطات المخولة لرئيس المحكمة بل أنها تثير مشكلة اجتماعية وأن حلها لا يتم إلا إذا كان المختص بفضها عالما وعارفا بكل المعطيات المتصلة بها مستعملا في ذلك خبرته الميدانية، أي أن يكون ملما بكل المعايير المحددة لمصلحة الشخص القاصر المقبل على الزواج والذي يكون بحاجة ماسة لذلك الإذن"
النقطة الثانية التي يمكن ملاحظتها على نص المادة السابعة من قانون الأسرة المذكور أعلاه أن المشرع لم يحدد السن الأدنى في حالة الترخيص بزواج القاصر، وترك للقاضي سلطة تقديرية واسعة قد تؤدي إلى حالة زواج الصغار لأن المادة 222 من قانون الأسرة تحيل القاضي عند انتفاء النص التشريعي إلى أحكام الشريعة الإسلامية, وقد اختلف الفقهاء في مسألة زواج الصغار ممن دون سن البلوغ فذهب البعض منهم إلى منع زواج الصغار منعا مطلقا كعبد الرحمن ابن شبرمة وعثمان البتي وأبو بكر الأصم، بينما ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بصحة زواج الصغار ممن دون سن البلوغ، ولكل فريق أدلته وحججه ، وهذا ما يجعل الإذن بالزواج يخضع لثقافة القاضي من الناحية الدينية دون قيد ولا شرط وهذا عكس ما ذهب إليه المشرع السوري الذي حدد للقاضي السن الأدنى لمنح الترخيص في نص المادة 18 من قانون الأحوال الشخصية السوري حيث نصت على أنه "إذا ادعى المراهق إكمال البلوغ بعد إكمال الخامسة عشر أو المراهقة الثالثة عشر، وطلبا الزواج يأذن به القاضي إذا تبين له صدق دعواهما واحتمال جسميهما.
وفي رأينا فمصلحة الأطراف والمجتمع تقتضي بعدم تخويل القاصر حق الزواج إلا عند بلوغه سن معينة نتأكد من خلالها على القدرة الجسمية على تحمل التبعات التي يفرضها عليه الزواج وكذا التمتع بقدر كاف من التمييز حتى يتمكن من إدراك نتائج وعواقب ما هو مقبل عليه.
بالرجوع دائما إلى نص المادة 07 من قانون الأسرة نجد أنها تكلمت عن حالة الضرورة والتي بموجبها يمنح القاضي الإذن بالزواج للقاصر، إلا أن المشرع لم يحدد مفهوم حالة الضرورة وترك ذلك للقاضي بما له من سلطة تقديرية واسعة لأنه من أولى الأمر المختصين بتفسير القانون والبحث على نوايا ومقاصد المشرع في النصوص القانونية وما تعطيه في إزالة الإبهام وحل النزاع.
فالمصلحة أو الضرورة ركيزة أساسية بالغة الأهمية أرسيت عليها أحكام الترخيص بالزواج، كما أن المشرع لم يفصل المعايير التي تساعد القاضي في تحديد المصلحة أو الضرورة، وما يمكن قوله أن المصلحة أو الضرورة معيار نسبي يتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص, وعلى القاضي أن يدرس القضايا المطروحة عليه حالة بحالة, وأن يكون حذرا في تقدير المصلحة التي هي مناط الترخيص وألا يعطي هذا الترخيص إلا إذا توافرت الشروط اللازمة، كما لا يصح له بالمقابل أن يتعسف في استعمال سلطته ما دام الإذن لا يمس بمصالح المجتمع ومصالح الأطراف أنفسهم .
وفي نهاية هذا المطلب يجب أن نشير أن المشرع الجزائري حسن ما فعل في التعديل الأخير لقانون الأسرة بموجب الأمر 05-02 المؤرخ في 27/02/2005 فالمادة السابعة من قانون الأسرة أضافت شرطا جوهريا كان حلقة مفقودة في قانون الأسرة 84-11 والمتمثل في قدرة الطرفين على الزواج وذلك بتعليق الترخيص بزواج القصر على شهادة طبية وهذا حتى يتأكد القاضي من قدرة الطرفين على الزواج، وبهذا الشرط أصبح من الواجب على القاضي اللجوء إلى أهل الخبرة لمعرفة ما إذا كان القاصر المقبل على الزواج أهلا لذلك أم لا, وأن لا يكتفي عند منحه للترخيص بسلطته التقديرية.
المطلب الثالث : تعدد الزوجات وسلطة القاضي في الترخيص به
إن نظام تعدد الزوجات نظام قديم قدم البشرية فقد كان سائدا قبل ظهور الإسلام في شعوب كثيرة وقد أقرته الشرائع السماوية السابقة كاليهودية والمسيحية ، ولم يكن له عند أكثر هذه الأمم عدد محدود إلى أن جاء الإسلام ليضع نظاما حكيما للحفاظ على الأسرة والمجتمع فقصر التعدد على أربع زوجات مع اشتراطه العدل بينهن والقدرة على الإنفاق عليهن, وبهذا جاءت معظم مدونات الأحوال الشخصية في البلاد العربية والإسلامية والتي ترجع في أصلها إلى الشريعة الإسلامية على اختلاف مذاهبها ,بما فيها قانون الأسرة الجزائري الذي وضع تدابير لا تعتدي على النظام الذي رسمته الشريعة الإسلامية, وفي الوقت نفسه تزيل ما يمكن إزالته من فوضى التعدد ومساوئه على يد بعض الجهال أو قليلي الإنصاف من الرجال الذين لا يتقيدون بالتوجيهات الشرعية في هذا الموضوع.
وبالنظر للآثار المترتبة على تعدد الزوجات عبر التاريخ وعلى استثنائياتها وبالنظر لإخلالها بالقيم العالمية في مجال التطبيق والمس بكرامة الإنسان ولما كان قانون الأسرة الجزائري قبل تعديله قد فتح المجال واسعا لضروب التجاوزات التي ألحقت أضرارا بالغة تخل بمقاصد الشريعة الإسلامية السمحاء، وتناقض الدستور وتمس بكرامة الإنسان جاء التعديل الأخير لهذا القانون بموجب الأمر 05/02 المؤرخ في 27/02/2005 في المادة الثامنة لتحديد إباحة تعدد الزوجات في إطار خاص وبشروط خاصة وأعطت هذه
المادة للقاضي المختص سلطة تقديرية واسعة في منح الترخيص للزوج الذي يرغب في التعدد وذلك بغية عدم تعسف بعض الأزواج وتهورهم.
فالمادة الثامنة من قانون الأسرة نصت "يسمح بالزواج بأكثر من زوجة واحدة في حدود الشريعة الإسلامية متى وجد المبرر الشرعي وتوفرت شروط ونية العدل.
يجب على الزوج إخبار الزوجة السابقة والمرأة اللاحقة التي يقبل على الزواج بها، وأن يقدم طلب الترخيص بالزواج إلى رئيس المحكمة لمكان الزوجية.
يمكن لرئيس المحكمة أن يرخص بزواج جديد إذا تأكد من موافقتهما وأثبت الزوج المبرر الشرعي وقدرته على توفير العدل والشروط الضرورية للحياة الزوجية".
وباستقراء نص هذه المادة نلاحظ أن المشرع الجزائري لم يطلق حكم التعدد كما أشرنا، وإنما قيده بشروط تضمن سلامة تطبيق هذا الحكم من خلال تحقيق مقاصده وتفادي المفاسد والأضرار التي يرتبها في حالة عدم مراعاة الزوج لها، وهذه القيود هي:
- وجود المبرر الشرعي.
- توافر شروط ونية العدل
- إعلام الزوجة السابقة والمرأة اللاحقة.
- تقديم طلب الترخيص بالزواج إلى رئيس المحكمة لمكان مسكن الزوجية.
وقد وضع المشرع الجزائري جزاء لمخالفة هذه الشروط والإجراءات، فإذا تخلف شرط العدل بين الزوجات من حيث ممارسته، فقد أجاز القانون للزوجة طلب التطليق في المادة 53 من قانون الأسرة في فقرتيها السادسة والعاشرة حيث جاء فيها أنه يجوز للزوجة أن تطلب التطليق لمخالفة أحكام المادة 08 أعلاه وكذا لكل ضرر معتبر شرعا، كما فتحت المادة 08 مكرر من نفس القانون الباب واسعا أمام المتضرر- الزوجة- من عدم مراعاة هذا الإطار وهذه الشروط لرفع دعوى قضائية ضد الزوج للمطالبة بالتطليق وذلك في حالة التدليس، كما ان المادة 08 مكرر1 حددت جزاء الزواج الذي يتم دون استصدار ترخيص من القاضي المختص وهو الفسخ قبل الدخول.
بالرجوع إلى شروط تعدد الزوجات المنصوص عليها في المادة 08 من قانون الأسرة نلاحظ أن المشرع الجزائري منح للقاضي سلطات واسعة في تقدير توافر هذه الشروط وجعله رقيبا وأمينا على عقود الزواج التي تبرم أمامه، وهذا ما سنحاول توضيحه في ثلاثة فروع.
أولا: دور القاضي في تقدير المبرر الشرعي.
ثانيا: كيفية تقدير القاضي توفير الزوج للعدل بين الزوجات والشروط الضرورية للحياة الزوجية.
ثالثا: سلطة القاضي في تقدير رأي الزوجة السابقة والمرأة التي يقبل الزوج على الزواج بها فيما يخص مسألة التعدد.
الفرع الأول: دور القاضي في تقدير المبرر الشرعي
في واقع الأمر يبدوا أن هذا الشرط مناسب بل ضروري لإباحة التعدد غير أن المشرع الجزائري لم يوضح المقصود منه كما لم يبين أشكاله التي يباح معها للزوج أن يتزوج من إمرأة أخرى , لكن بالرجوع للمنشور الوزاري رقم 84 -102 الصادر بتاريخ 23/12/1984 الذي أصدره وزير العدل كتفسير للمادة 08 قبل تعديلها نجد أنه حصر شرط المبرر الشرعي في مرض الزوجة مرضا عضالا أو حالة عقمها لا غير حيث جاء فيه " إذا طلب من الموثق أو ضابط الحالة المدنية تلقي عقد زواج بثانية فعليه أن يتحقق من توفر الشرط الأول الذي هو المبرر الشرعي، ويكتفي في إثباته بشهادة طبية من طبيب اختصاصي تثبت عقم الزوجة الأولى أو مرضها العضال، فإذا لم يثبت العقم أو المرض العضال رفض الموثق أو الموظف المختص تلقي العقد" وبذلك جاء هذا المنشور الوزاري متجاهلا لغير ذلك من المبررات الأخرى كقصد العفة مثلا, هذا ما جعل وزير العدل يصدر منشورا ثانيا بتاريخ 22/08/1985 تحت رقم 14 أضاف فيه"حالات يقدرهـا القاضي خاصة في حالة رضا الزوجة الأولى وللقاضي السلطة التقديرية في أن يرخص بالزواج الثاني أو يرفضه بمجرد أمر على عريضة غير قابلة للطعن.
كما نشير أن المنشور الثاني أي الصادر بتاريخ 22/08/1985 أضاف مبررا آخر لتعدد الزوجات وهو إثبات وجود دعوى طلاق مرفوعة أمام القضاء بتقديم شهادة من كتابة الضبط إلا أن هذا قد يؤدي لكثير من التحايل فقد يقوم الزوج برفع دعوى الطلاق ثم يتركها بعد تسجيل عقد الزواج الثاني.
وما نخلص إليه في هذه النقطة أن مسألة تقدير المبرر الشرعي ليست بالأمر اليسير لذا وجب على القاضي أن يكون حكيما واسع الأفق لمعرفة الدوافع التي أدت بالزوج إلى الزواج من امرأة ثانية فقد يكون سببها نزاع عابر بينه وبين زوجته الأولى وهنا يحاول بحكمته إصلاح ذات البين وتلطيف الأجواء بين الزوجين بدلا من منح ترخيص بالزواج على أساس دوافع واهية لأن هذا الزواج الأخير والذي لم يكن مبني على أسس جدية سيؤدي لا محال إلى العديد من المشاكل، أما إذا تأكد القاضي من جدية دوافع الزوج كمرض زوجته الأولى أو عقمها أو عدم قدرتها على إعطاء الزوج حقوقه الشرعية فمن الأفضل أن يمنح له الترخيص بالزواج من امرأة ثانية بدلا من أن يدفعه إلى تطليق زوجته الأولى خصوصا إذا تأكد من موافقة هذه الأخيرة.
الفرع الثاني : كيفية تقدير القاضي توفير الزوج للعدل بين الزوجات والشروط الضرورية للحياة الزوجية.
المشرع الجزائري اشترط على الزوج المقبل على الزواج من امرأة ثانية إثبات قدرته على تحقيق العدل بين زوجاته ولم يبين الإجراءات الكفيلة لتحقق القاضي من هذا الشرط وهنا لا بد أن نشير على أن العدل المقصود هو العدل الذي يستطيعه الإنسان ويقدر عليه وهو التسوية بين الزوجات في النواحي المادية من نفقة وحسن معاشرة ومبيت, وليس المراد به التسوية في العاطفة والمحبة والميل القلبي لأن هذا غير مستطاع لأحد , وبناءا على هذا فشرط تحقيق العدل المذكور في المادة 08 أمر مستقبلي وهذا ما يصعب مهمة القاضي، إن لم يجعلها مستحيلة للتأكد من توفر هذا الشرط، وفي هذا الصدد يرى الأستاذ محمد عطوي أنه من الأفضل تقدير مدى توفر شروط العدل لمراقبة القضاء بعد إتمام الزواج الثاني حتى لا يكتفي القاضي بأمور غيبية بل يكلف بأمور محققة لأن القضاء يدفع الظلم الواقع ولا يتجه للنظر في الظلم المحتمل الوقوع وهذا ما جعل وزير العدل يرى في المنشور الوزاري المؤرخ في 23 /12/1984 أن إثبات نية العدل هو من صلاحيات القاضي وحده وعلى الزوجة إثبات عدم توفيره عند التنازع أمام المحكمة المختصة أثناء طلب الطلاق ليتسنى للقاضي الحكم لها بالتعويض المناسب, أي أن القاضي لا يتدخل إلا بعد إنشاء عقد الزواج للتأكد من مدى توافر شروط ونية العدل ، إلا أننا نرى عكس ما ذهب إليه الأستاذ محمد عطوى في عدم تدخل القاضي لتقدير مدى توفر شرط العدل إلا بعد إنشاء عقد الزواج، فحتى وإن كان هذا الشرط نفسيا لا يمكن للقاضي الإطلاع عليه إلا أن هذا لا يمنع من تدخله قبل منحه للترخيص وذلك بتنبيه الزوج على ضرورة الالتزام بالعدل بين زوجاته والعواقب الناتجة من جراء عدم العدل بينهن خاصة ما يتعلق بإمكانية طلب الزوجة للتطليق, وكذا التعويضات عن كل الأضرار المادية والمعنوية التي تلحق بها, إضافة إلى تذكيره بالأحكام الشرعية المتعلقة بالعدل بين الزوجات كحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: "من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا أو مائلا".
أما الشرط الثاني المتعلق بإثبات الزوج لقدرته على توفير الشروط الضرورية للحياة الزوجية، أي رقابة القاضي على القدرة المالية للزوج، فيمكن التأكد منه بسهولة كالإطلاع على دخل الزوج من خلال شهادة كشف الراتب إن كان موظف أو من خلال رقم أعماله التجاري إن كان تاجرا وحتى من خلال شهادة الشهود إلى غير ذلك من وسائل الإثبات وهنا يتأكد القاضي أن للزوج دخل يكفيه لإعالة زوجتين أو أكثر حسب الحالة مع الإنفاق على أولاده كما يمكن له أن يتثبت من حالة الزوج الصحية وأنه قادر على الزواج بزوجة أخرى، وأن احتمال الأضرار منتف في الحال والمآل, فإن أثبت الزوج كل هذا رخص له القاضي بالزواج وإن لم يثبت فإن في الترخيص مظنة حصول المفسدة وهو أمر غير جائز ويتنافى مع مشروعية التعدد.
الفرع الثالث: سلطة القاضي في تقدير رأي الزوجة السابقة والمرأة التي يقبل الزوج على الزواج بها فيما يخص مسألة التعدد
حسب المادة 08 من قانون الأسرة المذكورة أعلاه يجب على الزوج إخبار الزوجة السابقة والمرأة التي يقبل على الزواج بها بأنه يرغب في الزواج من امرأة ثانية وهكذا يكون المشرع الجزائري قد راعى شعور الزوجة السابقة للزوج والمرأة التي يقبل على الزواج بها في شأن إقدام الزوج على الجمع بينهما، ولقد بين المنشور الوزاري الصادر عن وزير العدل والمؤرخ في 23/12/1984 كيفية الإعلام وذلك بإخبار كل من الزوجة السابقة واللاحقة إن حضرت أمام الموثق أو ضابط الحالة المدنية- هذا في ظل قانون الأسرة قبل التعديل وأمام القاضي بعد التعديل الأخير لهذا القانون- برغبة الزوج في إبرام عقد الزواج بثانية ويسجل في السجل الخاص بطلبات التعدد رضى كل منهما أو اعتراض الزوجة السابقة ليكون ذلك حجة يرجع إليه عند التنازع، فإن تعذر حضور هذه الأخيرة يتعين إبلاغها للحضور في أجل معقول بعقد غير قضائي بواسطة مصلحة التبليغ بالمحكمة بالتاريخ والمكان الذي سيبرم فيه عقد الزواج الثاني, فإن حضرت واعترضت يسجل الموثق أو ضابط الحالة المدنية اعتراضها، وإن تغيبت أثبتت غيبتها وأبرم العقد.
وهنا لابد أن نشير أنه على القاضي التأكد من إعلام الزوجة السابقة والمرأة التي يقبل الزوج على الزواج بها وأن يسعى جاهدا لحضور كل منهما أمامه.
بالرجوع دائما لنص المادة 08 من قانون الأسرة المذكورة أعلاه نجد أنها اشترطت لمنح الترخيص موافقة الزوجة السابقة، والمرأة التي يقبل الزوج على الزواج بها، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ماذا لو تعسفت الزوجة في استعمال حقها وأبدت رفضها بدون مبرر شرعي سوى الإضرار بالزوج والغيرة العمياء, وأثبت الزوج المبرر الشرعي وقدرته المالية وكل الشروط الضرورية واللازمة للتعدد، فهل يمتنع رئيس المحكمة عن منحه الترخيص بالزواج أم لا؟
من خلال التربص الميداني الذي أجريناه عبر المحاكم لاحظنا أن أغلب القضاة يمنحون الترخيص بالزواج في هذه الحالة وحسنا ما فعلوا لأن القاضي يجب أن يكون دقيقا وصائب التقدير إذا رفضت إحداهما الزواج عليها خصوصا الزوجة الأولى ومدى مطابقة رفضها لأحكام العدل، والمصلحة العامة للمجتمع.
فعلى القاضي أن يوازن بين قيمة المبرر الشرعي والقدرة على توفير العدل والشروط الضرورية للحياة الزوجية وبين موافقة الزوجة السابقة، حتى يكون قراره عادلا ومحققا للغاية التي أباح القانون والشرع لأجلها تعدد الزوجات.
المبحث الثاني : السلطة التقديرية للقاضي في انحلال الرابطة الزوجية
لقد حدد المشرع الجزائري أسباب انحلال الرابطة الزوجية ضمن الباب الثاني من الكتاب الأول تحت عنوان "انحلال الزواج" فالمادة 47 من قانون الأسرة نصت: "تنحل الرابطة الزوجية بالطلاق أو الوفاة".
وقد حصر اهتمامه في توضيح انحلال الرابطة الزوجية عن طريق الطلاق باعتبار أن الوفاة لا تثير أي لبس من حيث مفهومها.
والطلاق علاج هدام فهو كالبتر لبعض أعضاء الجسم لا يلجأ إليه الأطباء إلا اضطرارا لإنقاذ الحياة أو لدفع ضرر في الصحة أعظم من البتر ، فكذلك لا ينبغي شرعا اللجوء إلى الطلاق إلا عندما تكون الحياة الزوجية غير منسجمة, فالطلاق هو هدم لكيان الأسرة الذي يبنيه الزواج فهو ضرر لكنه ضروري لدفع ضرر أعظم منه، وقانون الأسرة الجزائري سمح للزوج أن يضع حدا للعلاقة الزوجية بإرادته المنفردة بواسطة الطلاق كما سمح للزوجة كذلك أن تنهي هذه العلاقة عن طريق الخلع أو التطليق وجعل القاضي حارسا ورقيبا أمينا على ذلك حتى لا يتعسف كل ذي حق في استعمال حقه كما منح له سلطة تقديرية واسعة لمحاولة إصلاح ذات البين بين الزوجين قبل انحلال الرابطة الزوجية وفي تقديره لحالات التطليق إضافة إلى تقدير تعسف الزوج في الطلاق وكذا تقديره للنشوز وعليه سنحاول معالجة ذلك في النقاط التالية:
أولا : دور القاضي في الصلح والتحكم
ثانيا: سلطة القاضي في تقدير حالات التطليق.
ثالثا: تقدير القاضي للطلاق التعسفي والنشوز.
المطلب الأول : دور القاضي في الصلح والتحكيم
تعد إجراءات الصلح والتحكيم في فك الرابطة الزوجية من الإجراءات الهامة والأولية التي أوجب قانون الأسرة على القاضي القيام بها قبل الشروع في بحث موضوع النزاع وإصدار حكم بشأنه وجعلها إجبارية.
لهذا يحسن بنا تقسيم هذا المطلب إلى فرعين نعالج في الأول إجراءات الصلح ومدى مساهمة القاضي في إصلاح ذات البين، ونعالج في الثاني إجراءات التحكيم ومدى مساهمة الحكمين والقاضي في فض النزاع بين الزوجين.
الفرع الأول: إجراءات الصلح وجهد القاضي في فض النزاع بين الزوجين.
نص المشرع الجزائري في المادة 49 من قانون الأسرة بأنه: "لا يثبت الطلاق إلا بحكم بعد عدة محاولات صلح يجريها القاضي دون أن تتجاوز مدته ثلاثة أشهر ابتداءا من تاريخ رفع الدعوى.
يتعين على القاضي تحرير محضر يبين مساعي ونتائج محاولات الصلح، يوقعه مع كاتب الضبط والطرفين.
تسجل أحكام الطلاق وجوبا في الحالة المدنية بسعي من النيابة العامة" يفهم من هذا النص أنه لا يثبت الطلاق إلا بحكم من القضاء وأن محاولات الصلح إجراء إجباري يجب على القاضي القيام به قبل النطق بالطلاق, وعليه فإنه يجب على القاضي المختص بنظر موضوع الدعوى أن يستدعي الزوجين معا إلى مكتبه بواسطة المحضر القضائي أو بأي طريقة يراها مناسبة وذلك بمجرد تسجيل الدعوى وطرحها عليه.
وأن يعين لهما جلسة خاصة في تاريخ محدد، يسمع فيها مزاعم كل واحد من الزوجين ثم يحاول أن يصلح بينهما بإظهاره لمساوئ النزاع ومضار الفرقة وبيان محاسن الألفة والانسجام، والتسامح المتبادل من أجل ضمان حياة زوجية هادئة لصالحهما وصالح أطفالهما، ولصالح استمرار علاقة القرابة والمصاهرة بين عائلتي الزوجين ، فإذا فشل القاضي في التوفيق بينهما فعليه أن يحاول مرة ثانية إذا تبين له جدوى محاولة الصلح فإذا فشل مرة ثانية ورأى أن هناك إمكانية للوصول إلى إصلاح ذات البين فله الحق في إجراء محاولة صلح ثالثة ورابعة لأن القانون أعطاه الحق في إجراء عدة محاولات للصلح قبل الطلاق على أن لا يتجاوز ثلاثة أشهر ابتداء من تاريخ رفع الدعوى، وهنا تتجلى سلطة القاضي التقديرية, وسواء أنجح القاضي أو فشل في محاولات الصلح فإنه يحرر محضرا بما توصل إليه من نتائج ويوقعه مع كاتب الضبط والطرفين، وهذا حسب نص المادة 49 في فقرتها الثانية المذكورة أعلاه، وأن يحيل الطرفين إلى حضور جلسة علنية تنعقد ضمن الجلسات المقرر للمحكمة وعندئذ يقع النقاش في الموضوع ثم يصدر القاضي حكمه.
لكن ما يلاحظ على قانون الأسرة الجزائري أنه سكت عن إجراءات انعقاد جلسات الصلح ,هذا ما يجعلنا نعتقد أنه يمكن أن تنعقد هذه الجلسات بناءا على رسالة مضمنة أو بواسطة محضر قضائي أو عن طريق استدعاء من كتابة الضبط، عمليا ومن خلال التربص الميداني لاحظنا أن القاضي يعلم الزوجين بجلسة الصلح شفويا في جلسة من جلسات المحاكمة، المهم لكي تنعقد جلسة الصلح يجب إعلان الزوجة إعلانا صحيحا يترتب عليه إيصال العلم إليها بتاريخ الجلسة وما قيل عن الزوجة يقال عن الزوج في حالة طلب التطليق من الزوجة لأن محاولات الصلح تعد أحد العناصر الجوهرية لصحة العمل القضائي.
ويجب على القاضي أن يتثبت من هوية الزوجين في هذا الطور الصلحي، لأن هناك نسوة تعرضن لعمليات تغرير فاحش نجمت عنها مضار جسام قد يعسر إصلاحها فالذي يحصل في هذا الصدد أن من الأزواج من تقدم بطلب الحكم بالطلاق وأحضر لجلسة محاولة الصلح امرأة غير زوجته المعنية بالأمر وتأتى له بهذه الوسيلة الحصول على الاتفاق على الطلاق والتنازل عن الحقوق التي كفلها القانون للزوجة .
وهناك العديد من القرارات الصادرة عن المحكمة العليا أكدت أنه لابد من مراعاة إجراءات الصلح قبل إصدار الحكم بالطلاق نذكر منها، القرار الصادر بتاريخ 18/06/1991 الذي جاء فيه من المقرر قانونا أنه لا يثبت الطلاق إلا بحكم بعد محاولة الصلح من طرف القاضي، ومن ثم فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد خطأ في تطبيق القانون).
إلا أن هناك قرار صادر عن المحكمة العليا بتاريخ 21/07/1998 أثار الكثير من التساؤلات حيث اعتبر أن إجراءات الصلح ليست من الإجراءات الجوهرية جاء فيه ".. إن محاولة الصلح بين الطرفين في دعاوى الطلاق ليست من الإجراءات الجوهرية وأن لفظ الطلاق أو التطليق تصدر دائما نهائية "
وخلاصة القول أن إجراء محاولة الصلح إجباري خاصة بعد التعديل الأخير لقانون الأسرة، لأن المشرع أوجب على القاضي تحرير محضر يبين فيه مساعي ونتائج محاولات الصلح وإذا دخل القاضي مباشرة إلى مناقشة الموضوع دون المرور بمرحلة الصلح ثم حكم بالطلاق فإنه يكون بذلك قد أعاب حكمه بعيب مخالفة
القانون، فإذا انعقدت محاولة الصلح سواء تم الحضور أو لم يتم بعد الإعلان بواسطة الرسالة المضمنة أو المحضر القضائي أو بأي طريقة أخرى، يكون العمل القانوني قد استوفى شروطه وعلى القاضي أن يحدد تاريخ الجلسة التي يعلن فيها عن الطلاق إذ لم يتراجع طالبه عن ذلك، وقد جاء في قرار للمحكمة العليا أن "...عدم حضور أحد الطرفين لجلسة الصلح رغم تأجيل إجرائها عدة مرات يجعل القاضي ملزم بالفصل في الدعوى رغم عدم حضور أحدهما لان المادة 49 من قانون الأسرة تحدد مدة إجراء الصلح بثلاثة أشهر..."
من خلال كل ما تقدم يمكننا القول أن سلطة القاضي التقديرية في مرحلة الصلح واسعة جدا فعلية أن يبذل قصار جهده لتقريب وجهات النظر بين الزوجين ومحاولة وضع حد للتنافر والتنازع الحاصل بينهما.
الفرع الثاني : إجراءات التحكيم ومدى مساهمة الحكمين والقاضي في فض النزاع بين الزوجين.
نصت المادة 56 من قانون الأسرة الجزائري: "إن أشد الخصام بين الزوجين ولم يثبت الضرر وجب تعيين حكمين للتوفيق بينهما.
يعين القاضي الحكمين، حكما من أهل الزوج وحكما من أهل الزوجة، وعلى هذين الحكمين أن يقدما تقريرا عن مهمتهما في أجل شهرين".
من استقراء نص هذه المادة يتضح أن المشرع لم يوضح بشكل دقيق كيفية تعيين الحكمين وما إذا كانت إجراءات التحكيم يجب القيام بها بعد فشل محاولة الصلح أو أثناءها إلى غير ذلك من الإشكاليات.
والثابت في نص هذه المادة أن التحكيم وجوبي وإلزامي في دعاوى الطلاق، والرجوع إلى بيت الزوجية وذلك في كل حالة يشتد فيها الخصام ويبلغ النزاع بين الزوجين ذروته ولا يثبت وجود أي ضرر يمكن أن يلحق أحدهما من جراء ذلك، وعليه فإذا توفر شرط اشتداد الخصام وشرط عدم ثبوت الضرر فإنه يجب على القاضي قبل الشروع في دراسة موضوع النزاع ومباشرة الفصل فيه أن يعمل على إصلاح ذات البين بطريق التحكيم .
بالنسبة لتعيين الحكمين وصفاتهما فالقاضي يعينهما سواء من تلقاء نفسه تطبيقا للقانون أو بناءا على طلب واختيار الزوجين ويجب عليه أن يراعي قرابتهما من الزوجين إضافة إلى تأثيرهما عليهما وقدرة كل منهما على حل النزاع وهنا تتجسد السلطة التقديرية للقاضي في اختيار الحكمين العدلين الذين يمكن لهما حل النزاع المطروح.
فيما يخص مهمة الحكمين فإنها محددة من القاضي وتنحصر في دراسة أسباب النزاع القائم بين الزوجين وظروفه وملابساته وتحديد مسؤولية كل واحد منهما في النزاع إضافة إلى محاولة إزالة الخلاف والتوفيق بينهما وتقريب وجهات النظر بكل الوسائل والطرق الممكنة شرعا، وسماع أقوال الزوجين، وتوضيحات من كان يشاركهما مسكن الزوجية كالأولاد والأقارب إن وجدوا.
وسواء توصل الحكمان إلى إيجاد حل للنزاع أم لا فعليهما أن يقدما تقريرا إلى القاضي الذي عينهما في أجل شهرين من تاريخ تعيينهما يشتمل على النتائج التي توصلا إليها وعلى اقتراحاتهما لحسم الخلاف .وفي هذا المجال يمكن القول أنه إذا توافرت الأسباب والشروط اللازمة للجوء إلى مبدأ التحكيم المنصوص عليه في المادة 56 من قانون الأسرة المذكور أعلاه، يجب على القاضي المختص بالفصل في موضوع النزاع القائم بين
الزوجين أن يؤجل الفصل في الدعوى وأن يعين الحكمين وينتظر تقديم تقريرهما خلال المهلة القانونية المحددة، وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 25/12/1989 والذي جاء فيه "... من المقرر قانونا أنه لا يثبت الطلاق إلا بحكم بعد محاولة الصلح من طرف القاضي وعند نشوز أحد الزوجين يحكم القاضي بالطلاق، وإذا اشتد الخصام بين الزوجين وعجزت الزوجة عن إثبات الضرر وجب تعيين حكمين للتوفيق بينهما ومن ثمة فإن القضاء بخلاف ذلك يعد خطأ في تطبيق القانون ولما كان من الثابت في قضية الحال أن المجلس القضائي قضي بالطلاق دون مراعاة أحكام المواد التالية: 49، 55، 56 من قانون الأسرة يكون بقضائه كما فعل قد خالف القانون وتجاوز اختصاصه ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه.."
فالقاضي يحكم في ضوء تقرير الحكمين الذي لا يشترط فيه أن يكون معللا كما يجوز له رفض التقرير وتعيين حكمين آخرين وفقا لسلطته التقديرية في هذا المجال وهو غير ملزم بما تضمنه التقرير إذا فشلت إجراءات التحكيم وتصدى للفصل في موضوع الدعوى.
وتجدر الإشارة أن تعيين الحكمين لا يكون عادة إلا عندما ترفع الزوجة دعوى ضد زوجها وتزعم أنه أتى من الأعمال والتصرفات ما يضربها، وتجيز لها طلب التطليق ثم تعجز عن إثبات الضرر بالوسائل القانونية المتعلقة بالإثبات ويعجز القاضي عن إصلاح ذات البين ويفشل في محاولة الصلح ، أي أن تعيين الحكمين لا يكون إلا بعد تأكد القاضي من فشل مساعيه في الصلح واشتداد الخصام بين الزوجين وعدم ثبوت الضرر.
وأخيرا من خلال التربص الميداني لاحظنا أن القضاة لا يقومون بتعيين الحكمين ويكتفون بجلسات الصلح فقط، ومردّ ذلك إلى الغموض الكبير الموجود بالمادة 56 من قانون الأسرة الذي حاولنا إزالته قدر الإمكان بإبراز الشروط الواجب توافرها في الحكمين والمهمة المسندة إليهما إضافة إلى حجية التقرير المعد من قبلهما والوقت المناسب للقيام بالتحكيم. ورغم ذلك يبقى الغموض يكتنف نص هذه المادة خاصة في طريقة تعيين الحكمين، وكيفية استدعائهما، وكذا الحل في حالة رفض أحد الزوجين أو كلاهما للتحكيم .. كل هذا يدفعنا إلى القول بوجوب تدخل المشرع لإزالة الغموض وإعادة الحياة لهذه المادة.
المطلب الثاني : سلطة القاضي في تقدير حالات التطليق.
لقد أعطى القانون والشرع للرجل حق إنهاء العلاقة الزوجية بإرادته المنفردة دون أن يكون مجبرا على تبيان أسباب إقدامه على ذلك كما بينا ذلك عند تطرقنا لموضوع الطلاق التعسفي، وفي نفس الوقت لم يحرما – القانون والشرع- المرأة من حقها في إنهاء هذه العلاقة وذلك كي ترفع عنها ظلم الرجل إذا ما وقع عليها، فلها أن ترفع أمرها إلى القاضي طالبة إنهاء العلاقة الزوجية بينها وبين زوجها وذلك أذا أثبتت سببا من الأسباب الموجبة للتطليق.
وقد عدد المشرع الجزائري الأسباب التي تجيز للزوجة طلب التطليق في المادة 53 من قانون وسنحاول تبيان دور القاضي في التأكد من توافر هذه الأسباب وموضحين مجال سلطته التقديرية في ذلك.
الفرع الأول: التطليق لعدم الإنفاق
لقد نص المشرع الجزائري على هذا السبب في القفرة الأولى من المادة 53 من قانون الأسرة والتي جاء فيها " ... عدم الإنفاق بعد صدور الحكم بوجوبه ما لم تكن عالمة بإعساره وقت الزواج مع مراعاة المواد 78 و79 و 80 من هذا القانون..."
وطبقا لهذا النص فليس للزوجة أن تطلب التطليق لعدم الإنفاق إلا إذا صدر حكم يقضي بإلزام الزوج بأداء النفقة، وصيرورة هذا الحكم نهائيا وتكليفه بالوفاء طبقا لإحكام المادة 330 من قانون الإجراءات المدنية.
كما أن هذه المادة اشترطت ألا تكون الزوجة عالمة بإعسار الزوج وقت الزواج، فإن كان معسرا وكانت تعلم بذلك فلا يجوز لها طلب التطليق لعدم الإنفاق والسؤال المطروح هنا على من يقع عبء إثبات الإعسار فهل يقع على الزوج أم الزوجة؟
إن الأصل في الإنسان أن ذمته المالية ممتلئة وأن الإعسار هو حالة طارئة وتبعا لذلك فإنه يقع عبء الإثبات على الزوجة أن زوجها أصبح معسرا وعلى الزوج أن يثبت أنه كان وقت إبرام العقد معسرا وكانت الزوجة وقتئذ عالمة بإعساره، والإعسار واقعة مادية يجوز إثباتها بكافة وسائل الإثبات بما فيها البينة والقرائن وهنا تتجلى السلطة التقديرية للقاضي في هذه المسألة.
وتجدر الإشارة هنا أن الإنفاق الممتنع عن تقديمه للزوجة والتي يحق لها طلب التطليق، بسببه هو إنفاق مثل زوجها على مثلها وبحسب مدخولاته وموارد رزقه وذلك ما حددته المادتين 78 و79 من قانون الأسرة وبذلك لا يجوز لها أن تزعم عدم الإنفاق عليها إذا طلبت طلبات تفوق دخل زوجها وتعجزه عنها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل القاضي ملزم بالحكم بالتطليق بمجرد أن تثبت الزوجة عدم إنفاق الزوج؟ أم له سلطة تقديرية في أن يمنح له مهلة لتدبر أموره؟
المشرع الجزائري لم يتطرق إلى هذه المسألة إلا أنه بالرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية نجد أن جمهور الفقهاء من الشافعية والحنبلية والمالكية يجيزون التفريق لعدم الإنفاق وأن للمرأة حق المطالبة بالتفريق،
إذا ثبت عسر الزوج وعدم إنفاقه ويطلق عليه فورا عند ثبوت إعساره دون أن يؤجل أو ينظر عند الحنبلية، أما الشافعية والمالكية فقالوا بأنه يؤجل بين شهر وثلاثة أشهر .
وفي هذا يرى الدكتور بلحاج العربي أنه على القاضي أن يمهل الزوج مدة مناسبة ولا يطلق عليه زوجته للعسرة، للوهلة الأولى لأن الزوج في هذه الحالة لا يعد ظالما حتى يطلق عليه القاضي زوجته لرفع ظلمه عنها ونحن نميل إلى هذا الرأي.
فإذا ثبت للقاضي أن الضائقة المالية التي يمر بها الزوج مؤقتة وأن الضرر اللاحق بالزوجة ليس جسيما فمن الأفضل في رئينا أن يمهله مدة معينة بدلا من أن يحطم حياته الزوجية وما ينجر عن ذلك من آثار سلبية على الزوجة والأبناء، أما إذا كان الضرر الذي أصاب الزوجة من جراء عدم الإنفاق جسيما وأحوال الزوج المادية لا تنبئ بتحسنها في القريب فما عليه إلا الحكم بتطليق الزوجة تفاديا لتضررها أكثر، وهذا وفقا لما يتمتع به القاضي من سلطة تقديرية.
الفرع الثاني : التطليق للعيوب.
لقد نص المشرع الجزائري على هذا السبب في الفقرة الثانية من المادة 53 والتي جاء فيها ".... العيوب التي تحول دون تحقيق الهدف من الزواج..."
والملاحظة الأولى على هذه الفقرة أن المشرع الجزائري لم يجعل هذه العيوب مشتركة بين الزوجين، بل أشترط أن تكون هذه العيوب في الزوج وحده دون أن يشترطها في الزوجة، أما الزوج إذا أراد حل عقد الزواج فله أن يستعمل حقه في الطلاق دون استناده إلى تلك الأسباب، وإذا استند إلى واحد من تلك الأسباب، فإنه يرمي من وراء ذلك إلى نفي التعسف عن نفسه في استعمال حقه في الطلاق.
وقد أخذ المشرع الجزائري في هذه النقطة برأي الحنفية الذين حصروا العلل الموجبة للتفريق بالرجل دون المرأة.
كما يمكن أن نلاحظ أن المشرع الجزائري لم يبين المقصود بالعيوب التي تحول دون تحقيق الهدف من الزواج هل هي العيوب الجنسية فقط أم أن العيوب الأخرى كالبرص مثلا تكون سببا لطلب التطليق؟
إضافة إلى أنه لم يبين إن كان علم المرأة بهذه العيوب قبل إبرام عقد الزواج مسقط لحقها في طلب التطليق أم لا؟
كما أنه المشرع لم يوضح كيفية إثبات هذه العيوب وهل على القاضي الحكم بالتطليق بمجرد ثبوت العيب أم أنه يمهل الزوج مدة للعلاج؟
للإجابة على كل هذه التساؤلات لا بد علينا من الرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية اعتمادا على نص المادة 222 من قانون الأسرة و بالرجوع إلى هذه الأحكام وجدنا أن الفقهاء قسموا العيوب التي تعطي الحق في طلب التطليق إلى قسمين:
- علل جنسية تحول دون الاستمتاع، وممارسة الحياة الزوجية بشكل عادي ومثال ذلك:
• الجب: وهو قطع الذكر والأنثين (الخصيتين)
• العنة:هي العجز عن الوطء وعرفها المالكية بأنها صغر الذكر بحيث لا يتأتي معها إتيان النساء.
• الخصاء: وهو رض الانثين (الخصيتين) أو قطعهما.
- وعلل جسدية لا تحول دون الاستمتاع ولا تمنع الدخول ولكنها علل منفرة ضارة تضر صاحبها وغيره كالجنون والجذام والبرص.
وقد اختلف الفقهاء في عدد العلل التي تسمح للمرأة بالمطالبة بالتطليق حيث قال المالكية أنها ثلاثة عشر وقال الشافعية والحنبلية أنها سبعة أما الحنفية فقالوا أنها علتان فقط وحصورهما في الجب والعنة، أما أبن القيم فتوسع إلى أكثر مما ذهب إليه المالكية حيث أن كل عيب ينفر الزوج الآخر ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة يوجب الخيار .
وفي رئينا فرأى ابن القيم هو الذي أخذ به المشرع الجزائري الذي أحسن صنعا عندما ما لم يحدد العيب وترك الأمر للسلطة التقديرية للقاضي على أساس معيار موضوعي وهو هل العيب يحول أم لا من تحقيق الهدف من الزواج.
بالنسبة لعلم المرأة بهذه العيوب قبل إبرام عقد الزواج وما إذا كان ذلك مسقط لحقها في طلب التطليق فقد ذهب جمهور الشافعية والحنبلية والمالكية إلى اشتراط ألا تكون الزوجة عالمة بالعيب قبل العقد حتى يحق لها طلب التطليق ما عدا العنة فإنه يثبت للمرأة حق المطالبة بالتطليق وإن كانت تعلم بعنة الزوج قبل العقد .
لكن إذا حدث العيب بعد إبرام عقد الزواج فقد قال الشافعية والحنبلية أن حصول الخيار للعيوب- طلب التطليق- يثبت إن كانت العيوب حادثة قبل العقد أو بعده أما المالكية والحنفية فقالوا أن العلل الحادثة بعد الزواج لا يثبت معها خيار أي لا يجوز للزوجة طلب التطليق إذا ظهرت العلل بعد إبرام عقد الزواج.
ونحن نميل إلى الرأي الذي أحذ به الشافعية والحنبلية لأن وقت حدوث العيب ليس هو أساس طلب التطليق بل أساسه هو الحيلولة دون تحقيق الهدف من الزواج وعدم رضا الزوجة بالعيب وتضررها منه، وهو الرأي الذي أخذت به العديد من التشريعات العربية كالمشرع المصري في المادة 9 من قانون الأحوال الشخصية والمشرع اللبناني في المادة 129 من قانون حقوق العائلة والمشرع الأردني في المادة 112 من قانون الأحوال الشخصية.
بالنسبة لمسألة إثبات هذه العيوب نرى أنه من الأفضل الاستعانة بأهل الخبرة لا ثبات ذلك إذا لم يكن هناك إقرار من الزوج وهذا ما ذهبت إليه الكثير من التشريعات العربية كقانون الأحوال الشخصية المصري في المادة 11 وقانون الأحوال الشخصية الأردني في المادة 119. بالنسبة لوقت إصدار القاضي للحكم بالتطليق بعد ثبوت العيب لم يبين لنا المشرع الجزائري ذلك إلا أننا وجدنا قرارا للمحكمة العليا صدر بتاريخ 19/11/1984 قضى بتأجيل الحكم بتطليق الزوجة مدة سنة نظرا لعجز الزوج عن مباشرتها وقد جاء فيه : " متى كان من المقرر في الفقه الإسلامي وعلى ما جرى به القضاء أنه إذا كان الزوج عاجزا عن مباشرة زوجته يضرب له أجل سنة كاملة من أجل العلاج، وأن الاجتهاد القضائي أستقر على أن تكون الزوجة بجانب بعلها وبعد انتهائها، فإن لم تتحسن حالة مرضه حكم للزوجة بالتطليق فإن القضاء بما يخالف أحكام هذه المبادئ يعد خرقا لقواعد الشريعة الإسلامية".
من خلال التمعن في هذا القرار يتبين لنا أنه لم يوضح سبب عجز الزواج عن مباشرة زوجته فهل كل العيوب التي تحول دون المباشرة الجنسية نؤجل الحكم فيها لمدة سنة؟ وماذا عن باقي العيوب؟
بالرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية طبقا لنص المادة 222 من قانون الأسرة، نجد أن الفقهاء فرقوا بين العيب الذي يرجى شفائه والعيب الذي لا يرجى شفاءه فإذا ثبت أن العيب يستحيل شفاءه أو أن شفاءه يستغرق زمنا طويلا فإن القاضي يحكم بالتطليق على الفور، أما إذا ثبت له أن العيب يمكن شفاءه فإنه يؤجل الحكم سنة فإن لم يحصل الشفاء فرق بين الزوجين ومثال ذلك العنة، فإذا أدعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إليها، أجل مدة سنة فإن لم يحصل الاتصال وأصرت على التطليق يحكم لها القاضي بذلك أما الجب فهو من العلل التي لا يرجى شفائها والقاضي يحكم بالتطليق فورا دون منح الرجل أجل السنة لأنه ميؤوس منه ولا معنى للانتظار .
وتجدر الإثارة أن هناك العديد من التشريعات العربية التي نصت على تأخير الحكم بالتطليق مدة سنة في العيوب التي يرجى الشفاء منها وعلى الحكم به فورا في العيوب التي لا يرجى منها شفاء أو الشفاء منها يستغرق زمنا طويلا يتعدى السنة ومثال ذلك قانون الأحوال الشخصية الأردني في المادة 120 وقانون حقوق العائلة اللبناني في المادة 122.
الفرع الثالث: التطليق بسبب الهجر في المضجع فوق أربعة أشهر.
تطرق المشرع الجزائري إلى الهجر في المضجع كسبب من الأسباب التي تبيح للمرأة طلب التطليق في الفقرة الثالثة المادة 53 من قانون الأسرة، ويقصد بهذا الهجر أن يدير الزوج ظهره لزوجته في الفراش ولا يهتم بها الاهتمام المطلوب منه كزوج أي لا يعاملها في الفراش معاملة الأزواج ويشترط أن يدوم هذا الهجر أكثر من أربعة أشهر وأن يكون عمديا مقصودا لذاته نكاية بالزوجة وليس له ما يبرره لا شرعا ولا قانونا .
وتجدر الإشارة هنا أن الهجر في المضجع المشار إليه في المادة 53 من قانون الأسرة يتفق مع الإيلاء الذي أشرنا إليه عند تطرقنا إلى نشوز الزوج الوارد في المادة 55 من قانون الأسرة الجزائري في بعض النقاط وهي ترك وطء الزوجة وعدم الاقتراب منها لمدة أربعة أشهر فأكثر وإلحاق الضرر بها، إلا أنه يختلف معه في أن الإيلاء يكون هدفه الإضرار بالزوجة على خلاف الهجر في المضجع الوارد في المادة 53 الذي لا يشترط فيه توفر نية الأضرار بالزوجة لدى الزوج كما أن الإيلاء يمين أما الهجر في المضجع الوارد في المادة 53 لا يعتبر يمينا .
ولا بد أن نشير أن الهجر في المضجع كسبب قانوني من الأسباب التي تمنح للزوجة حق طلب التطليق والذي يشرط أن يكون متعمدا وليس له مبرر شرعي، ليس هو نفسه الهجر الذي ورد في الآية رقم 33 من سورة النساء في قوله تعالى " واللتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع" فهذا الهجر الأخير لا يهدف إلى الإضرار بالزوجة وإنما إلى تأديبها وهو هجر شرعي ولا يعتبر سببا من أسباب التطليق، ويدخل في إطار الحقوق الشرعية للزوج على زوجته، ولا يجوز أن يضار شخص بسبب استعمال حقه الشرعي إلا إذا تعسف في استعماله وتجاوز حدود هذا الحق المقرر له، والقاضي هو الذي يحدد ما إذا كان الهجر شرعيا أم لا وهل تعسف الزوج في استعمال حقه أم لا وفقا لما له من سلطة تقديرية في هذا المجال.
الفرع الرابع: التطليق بسبب الحكم على الزوج عن جريمة فيها مساس بشرف الأسرة وتستحيل معها مواصلة العشرة والحياة الزوجية.
نص المشرع الجزائري أن الحكم على الزوج عن جريمة فيها مساس بشرف الأسرة وتستحيل معها مواصلة العشرة والحياة الزوجية يعتبر سببا من الأسباب التي تجيز للزوجة طلب التطليق في الفقرة الرابعة المادة 53 من قانون الأسرة.
ومن خلال نص هذه الفقرة يتبين لنا أنه يشترط أن يصدر ضد الزوج حكم قضائي من الجهات القضائية الجزائية وأن يكون هذا الحكم حائزا لقوة الشيء المقضى فيه ويكون سببه جريمة فيها مساس بشرف الأسرة وتستحيل معها مواصلة العشرة والحياة الزوجية، وتحديد المقصود بالجريمة التي فيها مساس بشرف الأسرة يرجع إلى السلطة التقديرية للقاضي ونحن نرى أن المقصود بذلك هو تلك الجرائم الماسة بالآداب العامة والتي يستهجنها المجتمع الجزائري كجريمة الزنا أو هتك العرض أو النصب اوجرائم الخيانة والتحبس وعليه إذا حكم على الزوج في جريمة القتل غير العمدي مثلا فلا يعتبر ذلك سببا من الأسباب التي تبيح للزوجة طلب التطليق.
بالنسبة لاستحالة مواصلة العشرة والحياة الزوجية بسبب هذه الجريمة فالمقصود منه هو أن تؤدي هذه الأخيرة إلى توتر العلاقات بين الزوجين وتنتج عنها خلافات حادة بينهما ومثال ذلك الحكم على الزوج عن جريمة تحريض القصر على الفسق والدعارة مثلا لا محالة تستحيل معها مواصلة العشرة والحياة الزوجية، وتقدير كل هذا يرجع إلى القاضي وعليه أن يعتمد على عادات وتقاليد المجتمع لتحديد مدى مساس هذه الجريمة بشرف الأسرة وتأثيرها على الحياة الزوجية.
الفرع الخامس: التطليق بسبب غياب الزوج.
نص المشروع الجزائري على غياب الزوج كسبب من الأسباب التي تبيح للمرأة طلب التطليق في الفقرة الخامسة من المادة 53 من قانون الأسرة والتي اشترطت أن يكون الغياب قد دام أكثر من سنة وأن يكون هذا الغياب بدون عذر ولا نفقة، وعليه حتى يحكم القاضي للزوجة بالتطليق عليها أن تثبت أن غياب زوجها دام أكثر من سنة إبتداءا من يوم غيابه إلى يوم رفع الدعوى عليه، وأن يكون هذا الغياب دون عذر شرعي ولا نفقة.
الملاحظة الأولى حول نص هذه الفقرة أن هناك اختلافا بين النص العربي والنص الفرنسي، فالنص العربي اشترط أن يكون الغياب بدون عذر ولا نفقة أي أنه يشترط أن يكون الزوج غاب دون مبرر شرعي ولم يترك نفقة حتى تتمكن الزوجة من المطالبة بالتطليق أما إذا غاب الزوج بدون مبرر لكنه ترك نفقة للزوجة فلا يجوز لها طلب التطليق.
أما النص الفرنسي اشترط أن يكون الغياب بدون عذر أو نفقة « …Sans excuse valable ou sans pension d’entretien… »
وبالتالي يمكن للزوجة المطالبة بالتطليق إذا غاب الزوج أكثر من سنة دون مبرر شرعي ولكنه ترك النفقة وعليه فعلى أي من النصين يعتمد القاضي؟ إضافة إلى أن المشرع لم بين المقصود من العذر الشرعي المبرر لغياب الزوج والذي يحول دون تطليق زوجته عليه. بالرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية طبقا لنص المادة 222 من قانون الأسرة وجدنا أن المالكية والحنابلة أجازوا التفريق للغيبة إذا طالت وتضررت الزوجة بها، ولو ترك لها الزوج مالا تنفق منه أثناء الغياب وهذا ما ينطبق مع النص الفرنسي للفقرة الخامسة من المادة 53 من قانون الأسرة وعليه فنحن نرى أن النص الفرنسي أقرب إلى الصواب لأنه مطابق لأقوال الفقهاء الذين قالوا بالتفريق للغياب ولأنه حتى لو ترك الزوج لزوجته مالا تنفق منه فإن بعده عنها يجعلها كالمعلقة لا هي ذات زوج ولا هي مطلقة كما أن طول الغياب مناف للإمساك بالمعروف.
بالنسبة للعذر الشرعي المبرر لغياب الزوج والذي يحول دون تطليق زوجته عليه فهو خاضع للسلطة التقديرية للقاضي فهو الذي يقدر ما إذا كان هذا العذر شرعيا ومبررا لغيابه أم لا ؟ فغياب الزوج مثلا لمزاولة الدراسة يعتبر مبررا شرعيا أما غيابه لأكثر من سنة في رحلة سياحية فهذا لا يعتبر مبررا شرعيا للغياب وهكذا فالقاضي يحدد مدى شرعية الغياب من عدمه وفقا لمعطيات الملف وظروف الزوج وعادات وتقاليد المجتمع.
الفرع السادس: مخالفة الأحكام الواردة في المادة 8 من قانون الأسرة
اعتبر المشرع الجزائري أن مخالفة الأحكام الواردة في المادة 8 من قانون الأسرة والمتعلقة بتعدد الزوجات سبب من الأسباب التي تسمح للزوجة بطلب التطليق وذلك في الفقرة السادسة من المادة 53 من قانون الأسرة.
وقد بينا الشروط المتعلقة بتعدد الزوجات عند تطرقنا إلى هذه المسألة في المطلب الثالث من المبحث الأول من الفصل والأول من هذه الدراسة.
فعدم وجود المبرر الشرعي أو عدم العدل بين الزوجات أو عدم إخبار أحدى الزوجات بالزواج مرة أخرى أو عدم الحصول على ترخيص من رئيس المحكمة كلها تعتبر أسبابا تبيح للزوجة المتضررة رفع دعوى للمطالبة بالتطليق، فبالنسبة لمسألة عدم العدل بين الزوجات فما على الزوجة إلا أن تثبت أن زوجها لا يعاملها معاملة عادلة مقارنة بالزوجة أو الزوجات الأخريات وللقاضي هنا سلطة تقديرية في تحديد عدل الزوج من عدمه.
أما مسألة عدم وجود المبرر الشرعي فالسؤال الذي يطرح نفسه هل زوال المبرر الشرعي بعد إبرام عقد الزواج الثاني يعد سببا من أسباب التطليق ومثال ذلك أن الزوج تزوج بزوجة ثانية بسبب مرض الزوجة مثلا وبعد الزواج شفيت هذه الأخيرة فهل يحق لها المطالبة بالتطليق؟ نحن نرى أن شرط المبرر الشرعي يشترط وجوده عند إبرام عقد الزواج الثاني وأن المشرع قصد من وراء شرط عدم وجود المبرر الشرعي كسبب من أسباب التطليق الزواج العرفي فإذا تزوج الزوج بزوجة ثانية زواجا مكتمل الأركان والشروط الشرعية دون أن يقوم بتسجيل هذا الزواج وانعدم المبرر الشرعي يجوز للزوجة المطالبة بالتطليق.
ونفس الأمر بالنسبة لعدم احترام شرط إخبار الزوجة السابقة والمرأة التي يقبل الزوج على الزواج بها فغالبا ما يكون هذا نتيجة للزواج العرفي أي الزواج الذي تتوفر فيه الأركان والشروط المطلوبة شرعا وقانونا.
كما يمكن أن نتصور عدم احترام هذا الشرط في حالة عدم إخبار إحدى الزوجتين عمدا ونتيجة لطرق احتيالية وتدلسية تمكن الزوج من الحصول على الترخيص من رئيس المحكمة وتجدر الإشارة هنا أن المادة 8 مكرر من قانون الأسرة تجيز للزوجة رفع دعوى قضائية ضد الزوج للمطالبة بالتطليق وذلك في حالة التدليس.
وأخيرا بالنسبة لشرط الحصول على ترخيص من رئيس المحكمة فكل زوجة تزوج زوجها عليها دون ترخيص يجوز لها رفع دعوى قضائية للمطالبة بالتطليق.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تتمكن الزوجة من إثبات زواج زوجها عليها إذا كان زواجه الثاني زواجا عرفيا لم يثبت بحكم قضائي مع العلم أن المادة 22 من قانون الأسرة نصت أن الزواج يثبت بمستخرج من سجل الحالة المدنية، وفي حالة عدم تسجيله يثبت بحكم قضائي.
الفرع السابع : التطليق بسبب ارتكاب فاحشة مبينة.
لقد جعل المشرع الجزائري ارتكاب الزوج لفاحشة مبينة سببا من الأسباب التي تبيح للزوجة طلب التطليق وذالك في نص المادة 53 القفرة السابعة من قانون الأسرة ومن خلال استقراء نص هده الفقرة نجد أن المشرع لم يبين لنا المقصود بالفاحشة المبينة التي يرتكبها الزوج وتكون سببا في طلب زوجته للتطليق.
والمقصود بالفاحشة المبينة هو تلك العلاقات الجنسية التي ترتكب بين ذوي المحارم والمنصوص عليها بالمادة 337 مكرر من قانون العقوبات ولقد ذكر المشرع على سبيل الحصر تلك الفواحش في قانون العقوبات ومن ثم فهو في غير حاجة لإعادة ذكر ما يعد فاحشة في قانون الأسرة .
وما تجدر الإشارة إليه أن قانون العقوبات الجزائري لم يصنف بعض الجرائم أو الأفعال التي تعتبرها الشريعة الإسلامية فواحشا كجريمة الزنا مثلا فهل تعتبر هذه الأفعال سببا من الأسباب التي تبيح للزوجة طلب التطليق؟
المشرع الجزائري قد ذكر الفواحش في المادة 337 مكرر على سبيل الحصر وبالتالي فجريمة الزنا مثلا لا تعتبر فاحشة مبينة تجيز للزوجة المطالبة بالتطليق.
وبناءا على أحكام المادة الأولى من القانون المدني التي تنص على ما يلي "يسري القانون على جميع المسائل التي تتناولها نصوصه في لفظها أو فحواها، وإذا لم يوجد نص تشريعي حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية".
طبقا لهذا النص فالقاضي ملزم بتطبيق القانون، و لا يمكن له أن يذهب للبحث في الشريعة الإسلامية لتحديد ما يعتبر من الفواحش، فقد تولى قانون العقوبات هذه المسألة .
وفي حالة ارتكاب الزوج لأي فعل تعتبره الشريعة الإسلامية من بين الفواحش فإنه بإمكانها المطالبة بالتطليق وفقا للفقرة الرابعة أو العاشرة من المادة 53 إذا أثبتت ذلك.
الفرع الثامن : التطليق بسبب الشقاق المستمر بين الزوجين.
نص المشرع الجزائري على أن الشقاق المستمر بين الزوجين يعتبر سببا من الأسباب التي تجيز للزوجة المطالبة بالتطليق، وذالك في الفقرة الثامنة من نص المادة 53 من قانون الأسرة ولقد تناولنا مسألة تعيين الحكمين المنصوص عليها في المادة 56 من قانون الأسرة في المطلب الأول من المبحث الثاني في الفصل الأول لهذه الدراسة وقلنا أنه في حالة اشتداد الخصام بين الزوجين وعدم ثبوت الضرر يحكم القاضي بالطلاق وبالتعويض للطرف المتضرر فاشتداد الخصام المنصوص عليه في المادة 56 هو نفسه الشقاق المستمر بين الزوجين المنصوص عليه في الفقرة 08 من المادة 53 من نفس القانون، فإذا كانت الإساءة أو كان الضرر غير معروفي المصدر فكل من الزوجين ينسب لصاحبه الضرر فعلى القاضي أن يبذل جهده في استئصال جذور الخلاف فإن لم يفلح يلجأ للتحكيم بين الزوجين فإن لم يجد في التحكيم نفعا يحكم القاضي للزوجة بالتطليق.
وقد صدرت العديد من القرارات عن المحكمة العليا والتي قضت بالتطليق بناءا على استفحال الشقاق بين الزوجين، ومثال ذالك الاجتهاد القضائي الذي صدر بموجب القرار المؤرخ في 24/09/1996 والذي جاء فيه: "من المستقر عليه أن استفحال الشقاق بين الزوجين يقضي بالتفريق القضائي شرعا.
ولما كان - في قضية الحال – أن المطعون ضدها ما تضررت من جراء استفحال الخصام مع زوجها لمدة طويلة مما نتج عنه إصابتها بمرض الأعصاب وأصبحت الحياة مستحيلة بينهما فإن القضاة بقضائهم بتطليق الزوجة لهذا السبب كافي للتفريق القضائي، وطبقوا صحيح القانون" .
كما ذهبت المحكمة العليا إلى نفس الاتجاه في اجتهاد قضائي آخر صادر بتاريخ 15/06/1999 جاء فيه" من المستقر عليه قضاءا أنه يجوز تطليق الزوجة لاستفحال الخصام وطول مدته بين الزوجين باعتباره ضررا شرعيا.
ومتى تبين من قضية الحال، أن الزوجة تضررت لمدة طول الخصام مع الزوج، وأن الزوج هو المسؤول عن الضرر لأنه لم يمتثل للقضاء بتوفير سكن منفرد للزوجة مما يجعل الزوجة متضررة ومحقة في طلبها للتعويض وعليه فإن قضاة الموضوع لما قضوا بتطليق الزوجة لطول الخصام وبتظليم الزوج وتعويض الزوجة طبقوا صحيح القانون ."
الفرع التاسع : التطليق بسبب مخالفة الشروط المتفق عليها في عقد الزواج.
نص المشرع الجزائري على أن مخالفة الشروط المتفق عليها في عقد الزواج تعتبر سببا من الأسباب التي تجيز للزوجة طلب التطليق في الفقرة التاسعة من المادة 53 من قانون الأسرة.
وقد نصت المادة 19 من قانون الأسرة على أنه: "للزوجين أن يشترطا في عقد الزواج أو في عقد رسمي لاحق كل الشروط التي يريانها ضرورية ولاسيما شرط عدم تعدد الزوجات وعمل المرأة ما لم تتنافى هذه الشروط مع أحكام هذا القانون"، وعليه إذا أخل الزوج بأحد الشروط المتفق عليها فإن ذلك يجيز للزوجة طلب التطليق وما على القاضي إلا أن يراقب تواجد هذا الشرط في عقد الزواج أو في عقد لاحق وعليه أن يقدر ما إذا كان يتوافق مع أحكام قانون الأسرة فإذا كان مخالفا لها، فالقاضي لا يستجيب لطلب الزوجة وذلك وفقا لنص المادة 35 من قانون الأسرة التي نصت على أنه "إذا اقترن عقد الزواج بشرط ينافيه كان الشرط باطلا والعقد صحيح"، ومثال الشروط المنافية لقانون الأسرة أن تشترط الزوجة على الزوج مثلا عدم الإنجاب فإذا تأكد القاضي من مخالفة الشروط المتفق عليها وأن هذه الشروط لا تخالف أحكام قانون الأسرة حكم للزوجة بطلب تطليقها تطبيقا لقوله عليه الصلاة والسلام: "المسلمون عند شروطهم".
الفرع العاشر: التطليق بسبب كل ضرر معتبر شرعا.
نص المشرع الجزائري على أن كل ضرر معتبر شرعا يعد سببا من الأسباب التي تجيز للزوجة طلب التطليق وذلك في الفقرة العاشرة من المادة 53 من قانون الأسرة وباستقراء نص هذه الفقرة نجد أن عبارة كل ضرر معتبر شرعا عبارة عامة جدا بحيث لم يتقيد المشرع بضرر معين وأن سلطة تقدير القاضي للضرر في هذا المجال سلطة تقديرية وموضوعية مطلقة ولا يقيدها أي قيد ولا تخضع لرقابة المحكمة العليا . ونحن نرى أن المشرع الجزائري فعلا حسنا في ذالك لأن ما يعتبر ضررا لزوجة ما قد لا يكون كذالك بالنسبة لأخرى وأن الضرر المعتبر شرعا في زمن معين ولدى جماعة معينة قد لا يكون كذالك بالنسبة إلى زمن آخر أو جماعة أخرى، ويمكن أن نضرب أمثلة للضر المعتبر شرعا من خلال بعض قرارات المحكمة العليا.
في القرار الصادر بتاريخ 20/02/1991 اعتبرت المحكمة العليا أن بقاء الزوجة مدة طويلة تقارب الخمس سنوات لا هي متزوجة ولا هي مطلقة يعتبر ضررا شرعيا يجيز للزوجة المطالبة بالتطليق
كما أن تماطل الزوج في إرجاع زوجته لبيت الزوجية ووقوفه موقف سلبي يعتبر ضررا شرعيا يجيز للزوجة طلب التطليق وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في قرارها الصادر في 26/09/1988 .
كما أن ضرب الزوج للزوجة ضربا مبرحا يعتبر كذالك سببا من أسباب التطليق وهو ما ذهبت إليه المحكمة العليا في اجتهادها القضائي الصادر بتاريخ 20/06/2000 وتجدر الإشارة في هذا الصدد أنه لا يشترط صدور حكم جزائي لإثبات الضرب وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في القرار الصادر بتاريخ 23/01/2001 ، كما أن تقديم شهادة طبية وحدها غير كاف لإثبات الضرب الواقع على الزوجة من طرف الزوج، وهذا ما ذهبت إليه نفس الجهة القضائية في قرارها الصادر بتاريخ 02/01/1989 .
ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أن القانون لم يحدد معيارا للتمييز بين ما إذا كان الفعل الصادر عن الزوج تجاه زوجته يشكل ضررا لها أم لا. ونحن نرى أن المعيار المعتمد هو المعيار الشخصي انطلاقا من المعطيات والظروف الاجتماعية والثقافية الخاصة بكل زوج لأننا كما أشرنا ما يعتبر ضارا لزوجة قد لا يكون كذالك لزوجة أخرى وقد أكدت المحكمة العليا في العديد من قراراتها أن تقدير الضرر يخضع للسلطة التقديرية لقضاة الموضوع ومثال ذالك القرار الصادر بتاريخ 18/05/1999 .
المطلب الثالث : تقدير القاضي للطلاق التعسفي والنشوز:
لقد أحسن المشرع الجزائري صنعا عندما جعل فك الرابطة الزوجية يخضع لإشراف القضاة ورقابتهم مما يخول لهم منع أي تعسف في استعمال الحقوق، وجبر الضرر الذي يلحق بالطرف المتضرر ومنحه التعويض المناسب.
وقد حاولنا تبيان دور القاضي في تقديره لاعتبار الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج تعسفيا أم لا. إضافة إلى توضيح المقصود من النشوز الوارد بالمادة 55 من قانون الأسرة والذي يعتبر سببا من أسباب انحلال الرابطة الزوجية وذلك من خلال الفرعين التاليين:
أولا: تقدير القاضي لتعسف الزوج في الطلاق
ثانيا: دور القاضي في تحديد حالات النشوز
الفرع الأول : تقدير القاضي لتعسف الزوج في الطلاق
نصت المادة 52 من قانون الأسرة على ما يلي:"إذا تبين للقاضي تعسف الزوج في الطلاق حكم للمطلقة بالتعويض عن الضرر اللاحق بها". وعليه إذا كان الطلاق بيد الرجل في الشرع والقانون، فإنه لابد من سبب أو حجة شرعية تدعو إليه فلو طلق الزوج زوجته من غير داع مشروع للطلاق أو سبب معقول وأن الزوجة سيصيبها بذلك ضرر جاز للقاضي أن يحكم لها على مطلقها بحسب حالة ودرجة تعسفه وفقا لسلطته التقديرية بتعويض عادل.
وقد استقر القضاء الجزائري بأن حق الطلاق بالإرادة المنفردة مخول للزوج ولا يترتب على استعماله من الأحكام سوى استحقاق الزوجة المطلقة لمؤخر صداقها ونفقة عدتها التي يراعي القاضي في تقديرها حالة المطلق المالية.
غير أنه إذا كان الطلاق لغير سبب مشروع يدعوا إليه وجب على المطلق تعويض الزوجة المطلقة عن الأضرار التي أصابتها.
والتعسف في استعمال الطلاق هو الخروج عن الحكمة التي اقتضت إباحته كالطلاق في مرض الموت لحرمان الزوجة من الميراث أو الطلاق من دون أدنى سبب معقول.
ويشترط لاعتبار الطلاق تعسفيا أن يقع بلا سبب أو يكون بأسباب واهية مع الإشارة إلى أن للزوج أن يوقع الطلاق بإرادته المنفردة دون أن يفصح للقاضي عن الأسباب التي دفعته إلى ذلك لكنه يتحمل مسؤولية هذا الطلاق، وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 15/06/1999 والذي جاء فيه "... من المقرر قانونا أنه يحق للزوج إيقاع الطلاق بإرادته المنفردة ومن ثمة فإن النعي على القرار المطعون فيه بالقصور في التسبيب ليس في محله.
ومتى تبين في قضية الحال أن للزوج الحق في تحمل مسؤولية الطلاق دون أن يفصح للقاضي عن الأسباب التي دفعته للطلاق وذلك تجنبا للحرج أو تخطيا لقواعد الإثبات خلافا للأزواج الذين يقدمون تبريرات لإبعاد المسؤولية عنهم وعليه فإن قضاة الموضوع لما قضوا بالطلاق بإرادة الزوج المنفردة دون تبرير قد طبقوا صحيح القانون..."
كما أن عدم بيان الزوج سببا للطلاق يكفي لاعتباره تعسفيا ولا تكلف المطلقة بإثبات التعسف.
و المشرع الجزائري لم يوضح في المادة 52 من قانون الأسرة معيار الطلاق التعسفي ونحن نرى أن هذا المعيار يقوم على أساسين أحدهما شخصي يتمثل في النية أو الباعث وثانيهما موضوعي وهو الموازنة بين الحقوق والظروف التي أحاطت باستعمال الحق فالمعيار هو ضمان حالة التوازن طبقا للقاعدة الشرعية "لا ضرر ولا ضرار" وهذا ما تجسده السلطة التقديرية للقاضي.
كما أن القانون لم يحدد الأسباب المعقولة التي تبيح الطلاق دون تعويض وترك تقدير ذلك للقاضي بعد دراسة ملابسات القضية وظروف وأحوال الزوجين وما أدى إلى الانفصال بينهما فإن قدر السبب وكان معقولا في نظره ردّ دعوى التعويض وإلا حكم على الزوج بالتعويض حسب وضعه المالي.
وبالرجوع إلى القانون المدني الجزائري نجد أن المشرع قد حدد معايير التعسف في استعمال الحق في الحالة العامة، بحيث يعتبر الشخص متعسفا في استعمال حقه إذا تحققت إحدى الصور التي نصت عليها المادة 124 من القانون المدني:"يشكل الاستعمال التعسفي للحق خطأ لاسيما في الحالات الآتية:
- إذا وقع بقصد الإضرار بالغير.
- إذا كان يرمي للحصول على فائدة قليلة بالنسبة للضرر الناشئ للغير.
- إذا كان الغرض منه الحصول على فائدة غير مشروعة".
من خلال هذا النص يمكن للقاضي أن يستخلص معايير التعسف حتى يسهل عليه التأكد من أن الزوج عند استعمال حقه في الطلاق بإرادته المنفردة متعسف أم لا.
الفرع الثاني : دور القاضي في تحديد حالات النشوز
نص المشرع الجزائري في المادة 55 من قانون الأسرة على أنه : "عند نشوز أحد الزوجين يحكم القاضي بالطلاق وبالتعويض للطرف المتضرر".
وعليه فإن النشوز قد يكون من الزوجة كما قد يكون من الزوج، لكن المشرع الجزائري لم يحدد حالات النشوز ولا تعريفه وترك أمره للقاضي.
وحسب نص المادة 222 من قانون الأسرة التي نصت :"كل ما لم يرد النص عليه في هذا القانون يرجع فيه إلى أحكام الشريعة الإسلامية".
بالرجوع إلى أحكام الشريعة نجد أن النشوز يعني الترفع ومنع أداء الحقوق كراهة قد يكون من الزوج وقد يكون من الزوجة.
بالنسبة للزوجة الناشز هي تلك التي خرجت عن طاعة زوجها بدون حق شرعي والتي خرجت من بيت الزوج بدون إذنه وبدون سبب شرعي وبالتالي قد فوتت حق الاحتباس على الزوج بغير حق.
والناشزة في اللغة هي العاصية على الزوج المبغضة له، وفي الشرع هي الخارجة من بيت الزوج بغير حق. ويمكن أن نذكر بعض الحالات التي تكون فيها الزوجة ناشز:
1- إذا امتنعت الزوجة عن الانتقال إلى منزل الزوج بدون وجه حق ودون سبب شرعي وقد دعاها للانتقال وأعد المسكن الملائم، أو أنها خرجت منه دون مبرر شرعي بعد انتقالها إليه ولم تعد، وهنا لا بد على الزوج أن يستصدر حكما برجوع الزوجة إلى بيت الزوجية ويثبت امتناعها عن تنفيذ هذا الحكم وهذا ما ذهبت المحكمة العليا في قرار صادر في 09/07/1984 جاء فيه : "متى كان من المقرر شرعا أن سقوط النفقة عن الزوجة لا يكون إلا بعد ثبوت بأنها بلغت بالحكم النهائي القاضي برجوعها لمحل الزوجية وبعد ثبوت امتناعها عن تنفيذ هذا الحكم مما يجعلها ناشزا عن طاعة زوجها ومن ثم فالنعي على القرار المطعون فيه بالخطأ في تطبيق الشريعة الإسلامية في غير محله ويستوجب الرفض" وهنا لا بد من الإشارة أنه يشترط أن يكون مسكن الزوجية مشتملا على لوازم الحياة الأساسية والمرافق الكافية وألا يكون مخوفا وموحشا وألا يجمعها مع ضرتها بغير رضاها فمتابعة الزوجة زوجها للمسكن الشرعي وهو بيت الزوجية الذي يختاره الزوج مستوفيا للشروط الضرورية للحياة هو واجب أساسي على المرأة من واجبات الحياة الزوجية، فإذا تمردت المرأة عن متابعة زوجها دون أن يكون هناك مانع، كما لو أن الزوج لم يؤدها ما يجب تعجيله من المهر أو لم يهيئ لها المسكن الزوجي الصالح فإنها بهذا التمرد الغير معذور تسقط نفقتها الزوجية عن عاتق الزوج مدة هذا التمرد والامتناع وتعود النفقة متى أذعنت وانقادت وهذا باتفاق جمهور الفقهاء وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 09/07/1984 المذكور أعلاه وقد أكدت هذه الأخيرة -المحكمة العليا – على أنه لا يمكن اعتبار كل زوجة امتنعت عن الرجوع إلى بيت الزوجية ناشزا وذلك في القرار الصادر بتاريخ 09/02/1987 الذي جاء فيه "من المقرر شرعا أنه ليست كل زوجة رغبت عن الرجوع لزوجها تعتبر ناشزا تحرم من أجلها من حقوقها الواجبة لها شرعا من جراء طلاقه لها، ومن المقرر أيضا أن النشوز لا يعمل به شرعا إلا إذا وفر الزوج لزوجته كل مطالبها المحكوم لها بها. ومن ثم فإن القضاء بما يخالف هذين المبدأين يعد خرقا للقوانين الشرعية" كما أن امتناع الزوجة عن الرجوع لبيت الزوجية بعد إهانتها من الزوج لا يعتبر نشوزا وهذا ما ورد في القرار الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ 19/05/1998 الذي جاء فيه "... ومتى تبين في قضية الحال أن المطعون ضده قد سبق وأن رفع دعوى طلاق على الطاعنة على اعتبار أنها مريضة عقليا، ثم تراجع عن ذلك وطالب برجوعها من جديد ليتجنب مسؤولية الطلاق، فإن امتناع الطاعنة عن الرجوع بعد إهانتها لا يعتبر نشوزا..." . وحتى اشتراط الزوجة لرجوعها إلى بيت الزوجية حضور الزوج إلى بيت أهلها كرد لكرامتها هو شرط ينتفي معه النشوز، وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 17/02/1998 حيث جاء فيه: " من الثابت شرعا وفقها أنه في حالة الخصام بين الزوجين فإن حضور الزوج لبيت أهل الزوجة وطلب رجوعها إلى بيت الزوجية مرغوب لرد كرامتها لبناء حياة زوجية صحيحة".
ولما كان من الثابت – في قضية الحال- أن قضاة المجلس لما قضوا بجعل مسؤولية الطلاق على عاتق الزوجة باعتبارها ناشز، فإنهم أخطئوا في تفسير القانون والشرع لأن الزوجة لا تعتبر ناشزا، بل اشترطت لرجوعها حضور الزوج إلى بيت أهلها لرد كرامتها وهو الشرط الذي ينتفي معه النشوز بأغلبية آراء الفقهاء، فإنهم أخطأوا في تفسير القانون.
ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه"
إضافة إلى هذا فامتناع الزوجة من السكن مع أقارب الزوج لا يعد نشوزا منها وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 21-11-2000 الذي جاء فيه "إن امتناع الزوجة عن السكن مع أقارب الزوج لا يعد نشوزا وأن القضاء بإيقاع الطلاق على الطاعنة يعد تعسفيا في حقها وتستحق التعويض جبرا للضرر"
2- تعتبر الزوجة ناشزا إذا كان الزوج يقيم معها في بيتها بإذنها ثم منعته من الدخول ولم تطلب منه الانتقال لمسكن آخر ولم تترك له فرصة للبحث عن مسكن لأن منعها له من غير طلب سابق والإمهال خروج عن طاعته.
3- خروج الزوجة من بيت زوجها في غيبته أو دون إذنه للحاجيات التي تستدعي خروجها أو للأمور أو الزيارات المشروعة كزيارة الأهل مثلا وجدنا فيه اختلافات كبيرة بين الفقهاء في اعتبار الزوجة ناشزا أم لا فهناك من يرى أنه ليس للزوجة الخروج من المنزل ولو إلى الحج إلا بإذن زوجها . وهناك رأي آخر وهو رأي فقهاء الحنفية الذين يرون أن للزوجة الحق في أن تخرج من بيت الزوجية لزيارة والديها وليس للزوج أن يمنعها من ذلك، وإن كان أبوها مريضا مرضا معقدا واحتاج إليها فعليها أن تذهب إليه وإن كان غير مسلم وان أبى الزوج، وليس للزوج منع أبويها وغيرهم من المحارم زيارتها ، كما أن الشافعية يرون أن للزوجة الخروج في غيبة زوجها إلى بيت أبيها أو أقاربها أو جيرانها ونحوها كالعيادة والتعزية، ولا يسقط هذا الخروج نفقتها لأنه لا يعد نشوزا عرفا . ونحن نميل إلى الرأي الذي ذهب إليه فقهاء الحنفية والشافعية لكن هذا لا يعني أن تتعسف الزوجة استعمال حقها بالخروج من بيت الزوجية بين كل لحظة وأخرى نكاية في الزوج أو ما شابه ذلك ونؤكد أن الخروج لا يكون إلا للحاجات التي تستدعي خروجها وللأمور والزيارات الشرعية فالقاضي هنا هو الذي يحدد الحالات الضرورية التي تستدعي خروج الزوجة من بيت الزوجية وكذا الزيارات التي تعتبر شرعية وذلك وفقا لسلطته التقديرية باعتماده على عرف المنطقة التي يقطن فيها الزوجان أو على عادات أهليهما وتقاليدهم.
4- قضية سفر الزوج بزوجته وكون عدم سفر الزوجة مع زوجها يعتبر نشوزا أم لا تعددت فيها آراء الفقهاء والرأي الراجع في الفقه أن للزوج بعد أدائه كل المهر المعجل لزوجته أن يسافر بها إذا كان مأمونا عليها ، فإن كان الزوج غير مأمون عليها يريد نقلها من بيت أهلها ليؤذيها، أو يأخذ مالها وامتنعت عن السفر فلا تعتبر ناشزا.
وعليه فوجوب سفر الزوجة مع زوجها ومتابعتها له فيه هو الأصل ما لم تكن قد اشترطت عليه في عقد الزواج خلاف ذلك، ويترك للقاضي في غير حالة الشروط العقدية تقدير الظروف والملابسات التي تسوغ إسقاط هذا الواجب عن الزوجة، ومنع الزوج من السفر بها، فالقاضي يقدر ذلك بحسب ما يراه من الوقائع ويأخذ بعين الاعتبار أن يكون الزوج مأمونا على نفس الزوجة ومالها ولا يقصد بنقلها الكيد والإضرار بها إلى غير ذلك من الاعتبارات التي تختلف باختلاف المواطن ولا تخفى على فطنة القضاة.
كل هذا عن نشوز الزوجة، أما عن نشوز الزوج فيتحقق بمنع الزوجة من حقوقها كترك الإنفاق عليها، أو المبيت عندها أو هجرها بالمرة أو إيذائها بالضرب والسب وما إلى ذلك من ضروب الإهانة والتعسف، فيصدق على الزوج وصف الناشز إذا منع زوجته من حقوقها، ولو في بعض منها ويسئ خلقه معها وهناك العديد من الحالات التي يعتبر فيها الزوج ناشزا وبالتالي يمكن للزوجة أن تطلب حل الرابطة الزوجية والحصول على التعويض طبقا لنص المادة 55 من قانون الأسرة ونذكر منها:
1. نشوز الزوج عن طريق الظهار :
قد تصدر عن الزوج عبارة لا تدل على الفرقة وإنما على تحريم الحياة الزوجية، فهي تدل على بقاء العلاقة الزوجية لكنها تبقى علاقة محرمة، وذلك بأن نسب زوجته إلى إحدى محارمه فيقول لها أنت علي كظهر أمي أو نحو ذلك، والظهار هو تشبيه الرجل زوجته في التحريم بإحدى المحرمات على وجد التأبيد سواء كان ذلك بالنسب أو المصاهرة أو الرضاع .
2. نشوز الزوج عن طريق الإيلاء :
الايلاء هو الحلف على ترك قربان الزوجة أربعة أشهر فصاعدا بالله أو بتعليق القربان على ما يشق، فالحلف بالله ألا يقرب زوجته خمسة أشهر ايلاء، وإذا علق الدخول بها على عبادة فيها مشقة أو أمر فيه مشقة عليه فهو ايلاء.
3. نشوز الزوج عند هجره للأسرة وإهماله لواجباته لمدة تتجاوز شهرين:
فالزوج الذي يترك مقر أسرته لمدة تتجاوز شهرين ويتخلى عن كافة التزاماته الأدبية أو المادية المترتبة عن السلطة الأبوية أو الوصاية القانونية، وذلك بغير سبب جدي، يعتبر ناشزا كما أن الزوج الذي يتخلى عمدا ولمدة تتجاوز شهرين عن زوجته مع علمه بأنها حامل وذلك بغير سبب جدي يعتبر ناشزا أيضا.
4. نشوز الزوج بسبب عدم الإنفاق :
إن امتناع الزوج عن الإنفاق عن زوجته دون سبب شرعي يعد نشوزا منه، وعدم الإنفاق إذا أّثبت بحكم قضائي حائز لقوة الأمر المقضى فيه يعد سببا من أسباب التطليق الواردة في المادة 53 من قانون الأسرة، واشتراط إثبات عدم الوفاء بالنفقة بواسطة حكم قضائي وصيرورة هذا الحكم حائز لقوة الأمر المقتضى به فيه غبن للزوجة لذلك في رأينا أنه من الأحسن أن يكون إثبات نشوز الزوج لعدم الإنفاق طبقا للقواعد العامة للإثبات.
امتناع الزوج عن توفير مطالب الزوجة المحكوم بها قضاءا يعد نشوزا منه وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 21/4/1998 حيث جاء فيه "من المقرر قانونا أنه عند نشوز أحد الزوجين يحكم القاضي بالطلاق والتعويض للطرف المتضرر ومتى تبين في قضية الحال أن الطاعن ثبت نشوزه بامتناعه عن توفير السكن المنفرد المحكوم به للزوجة وتعويضها، طبقوا صحيح القانون..."