عبء إثبات المنازعات الضريبية
في الجزائرمقدمة
المبحث الأول : الموقف التشريعي من تحديد عبء الإثبات
المطلب الأول : إلزام السلطة المالية بعبء الإثبات
المطلب الثاني : إلزام المكلف بعبء الإثبات
المبحث الثاني : سكوت المشرع عن تحديد عبء الإثبات
المطلب الأول : عبء إثبات الخضوع للضريبة
المطلب الثاني : عبء إثبات أسباب التقدير الإضافي (additional tax)
المطلب الثالث : عبء الإثبات في حالة التقدير الإداري
المطلب الرابع : عبء إثبات العلاقة بين المكلف الحقيقي والمكلف الظاهري
خاتمة
مقدمة :
تعتبر الجزائر من بين دول العالم الثالث التي عرفت فيها النفقات العمومية ارتفاعا مذهلا خصوصا بعد الاستقلال، ويعود ذلك إلى إنشاء الهياكل القاعدية والأساسية للدولة ومن أجل تسيير دواليب الحكم من جهة ، والنمو الديموغرافي من جهة آخر، فلجأت بذلك لسد النفقات سواء كانت خاصة بالتسيير أو التجهيز اعتمادا على الجباية .
ففي سنة 1986 و 2014 عرف الاقتصاد الوطني صعوبات هيكلية بسبب الانخفاض المتوالي لأسعار البترول ، والذي انجر عنه فقدان مبالغ ضخمة أوقع ميزانية الدولة في عجز دائم فاضطرت السلطات إلى القيام بوضع مخطط – برنامج – للاستقرار أو التصحيح الهيكلي الذي يهتم بالتوازنات الكبرى هدفه تسريع النمو .
ومن خلال هذا التحول فإن الجزائر في حاجة ماسة إلى الجباية العادية لتمويل المصالح العمومية وتحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي خصوصا بعد التوجه الجديد الذي يلزمها بالتكامل مع النظام العالمي ، الذي يفرض الشفافية والعدالة في تسيير الجباية من جهة ، وليونة الإجراءات المتبعة من طرف المكلف والإدارة الجبائية على حد سواء من جهة أخرى .
عبء الإثبات في المنازعات الضريبية
يقصد بعبء الإثبات (the burden of proof): إلزام الخصوم بإثبات الواقعة المتنازع عليها . وينتقل عبء الإثبات بين الخصوم خلال المرافعات في الدعوى ، ويسمى عبئاً لأن مَنْ يكلف به يكون في مركز أضعف في القضية المنظورة ، إذ يُلزم بإثبات الواقعة محل المنازعة في حين يكتفي خصمه أن يقف موقفاً سلبياً ؛ ولتحديد مَنْ يقع عليه الإثبات أهمية كبيرة إذ تتوقف عليه نتيجة الدعوى في كثير من الأحيان فقد يخسر المُدعي دعواه لكونهِ لا يملك تقديم الدليل الذي يثبت حقهُ أو يحمي مركزهُ القانوني الذي يطالب بحمايته ، أي:لا لكونه ليس بصاحب الحق ولكن لكونه أخفق في إثباته ، لذا فإن التطبيقات القضائية وبخاصة الضريبية منها قد رسخت مبدأ اقتران تحديد عبء الإثبات بيسره والقدرة (easiest)على تقديم الدليل سواء إرتبط ذلك بجانب المكلف أم بجانب السلطة المالية كما هو الحال في الدنمارك والسويد و ايرلندا ،وروسيا ،وأجزاء أخرى من العالم .
وأظنُ أن التوجه القضائي المتقدم مؤسس على دور القاضي الإيجابي في توجيه الدعوى ، ومناقلة عبء الإثبات (Reversing the Burden of Proof) بين طرفيها بغية تيسير إجراءات الإثبات للوصول إلى مقدار معين لتطابق الحقيقة الواقعية مع الحقيقة القضائية .
عموماً فقد نصّت قوانين الإثبات على تكليف المُدعي في الدعوى بإثبات دعواه ، وما على المدعى عليه سوى دحض دليل الإثبات بالدليل العكسي ، ويكون لمحكمة الموضوع ترجيح أدلة الإثبات المتقابلة وتمحيصها قوة وضعفاً .
والمُدعي (the plaintiff)هو من يدعي خلاف الوضع الثابت أصلاً أو عرضاً أو ظاهراً أو فرضاً ، ولا فرق أن يكون المدعي هو مَنْ أقامَ الدعوى ابتداءً أم كان من رفعت عليه، أما من يتمسك بالأصل الثابت فلا إثبات عليه كمن يتمسك ببراءة ذمته من كل التزام وتحديد من يحمل عبء الإثبات مسألة قانونية تخضع للرقابة من قبل الجهة التي تنظر الطعن التمييزي أو محكمة النقض
ولكن قد يعمد المشرع أو القاضي إلى نقل (shifted) عبء الإثبات من طرف المنازعة الضريبية إلى الطرف الآخر لمقاصد وغايات كثيرة منها ما يرتبط بتيسير الإثبات مثلما مرَّ أعلاه ، ولتقريب المراكز القانونية المتفاوتة بين المكلف والسلطة المالية (tax authority) ، مثلما نقلَ المشرع والقضاء الأمريكي عبء الإثبات إلى السلطة المالية إذا ما كان المكلف يواجه فرض عقوبة (potential penalty) ،أو لإعادة التوازن بين المصلحة الخاصة والعامة (balance of private and public interest ) مثلما جرى نقل عبء الإثبات في حالات الملاذات الضريبية (tax havens) ، وغيرها في التطبيق القضائي الروسي.
المبحث الأول : الموقف التشريعي من تحديد عبء الإثبات
تحدد القوانين الإجرائية ، المطبقة فعلاً في حسم المنازعات الضريبية ، الخصم الذي يتحمل عبء الإثبات ، وكيفية انتقال ذلك العبء بين الخصوم ، مثلما نصَّالمشرع العراقي على قاعدة : " البينة على من أدعى "، وقاعدة:" المُدعي من يتمسك بخلاف الظاهر ، والمُنكر هو من يتمسك بإبقاء الأصل"ومثلما نصَّ المشرع :"على الدائن إثبـات الالتزام وعلى المدين إثبات التخلص منه"،ويطبق التوجه نفسهُ في حسم منازعات الإثبات في السويد والدنمارك،وروسيا
ومؤدى ما تقدم فإن القاعدة العامة تقضي بأن الأصل أو الظاهر لا يحتاج إلى إثبات ، في حين أن مخالفته هي الواجبة الإثبات ، فإذا جاز تطبيق القاعدة نفسها على المنازعات الضريبية فإن من نتائجها (مثلاً) هي تقرير مبدأ براءة ذمة المكلف من دين الضريبة ، ومبدأ عدم مزاولة النشاط الخاضع للضريبة ، ومبدأ عدم وجود مصدر للدخل يخضع للضريبة بوصفها أصلاً أو ظاهراً لا يثقل المكلف بعبء إثباتهِ ، إنما إذا ما أرادت السلطة المالية أن تخالف هذا الأصل أو الظاهر فعليها عبء إثبات ذلك ، فإن ضعفت عن تقديم الدليل فإن حسم المنازعة الضريبية يكون بصالح المكلف ، وإن قدرت على تقديم الدليل فإن العبء ينتقل إلى المكلف لتقديم ما لديه من أدلة لدحض أدلة الإثبات أو معاكستها .
ولكن جانباً من الباحثين يشككونبتطبيق مبدأ البينة على المدعي في منازعات الضرائب مثلما يجري تطبيقها في غيرها ، على أساس أن المركز القانوني للمكلف بموجب التشريع الضريبي يفرض عليه تقديم دليلاً حاسماً ومتميزاً بغية تقليل التقدير الضريبي أو إلغائه ، و يكون هذا العبء مرهقاً أو مستحيلاً في بعض القضايا
عموماً فإن المشرع في إطار القوانين الضريبية عَمِلَ على توزيع عبء الإثبات بين الإدارة الضريبية حيناً ، والمكلف حيناً آخر ، فطوراً يُبين منْ يقع عليه عبء إثبات ، ومحجماً عن تبينهِ طوراً آخر ، وهو في هذين المسلكين هذه يُثير التساؤلات ، ويكشف القصور في الصياغة التشريعية ، واتجاهات السياسة الضريبية وأسسها .
المطلب الأول : إلزام السلطة المالية بعبء الإثبات
إن قاعدة توزيع عبء الإثبات على وفق ما تقدم أدت بالتشريعات الضريبية أن تتوجه إلى تكليف الإدارة الضريبية بعبء الإثبات صراحةً ، ولكن هذا المسلك بدا متفاوتاً بين تلك التشريعات كلٌ بحسب السياسة الضريبية التي أختطها ، فإذا تناولنا عدداً من الأمثلة ، التي كانت ولا تزال مثاراً للمنازعات الضريبية وأجرينا مقارنة سريعة بين موقف المشرع العراقي من جهة ، والمشرع المصري من ناحية أخرى لتبين لنا اختلاف المسلك التشريعي ، وعلى وفق التفصيل الآتي : الفرع الأول : عبء الإثبات في المنازعات الضريبية المرتبطة بالدفاتر التجارية
تُلزم التشريعات الضريبية المكلفين على مسك الدفاتر والسجلات وتقديمها عند التحاسب الضريبي بوصفها إيضاحاً لمصدر دخله الخاضع للضريبة ، ومجمل حساباته ، وبخاصة مقدار الدخل والنفقات (bookkeeping of incomes and expenses) مثلما توجه المشرع العراقي، والمشرع المصري؛وإلزام المكلف بتقديم الدفاتر التجارية في التقدير الضريبي أو أثناء المنازعات الضريبية بمثابة استثناءً من قاعدة :" لا يجبر الخصم على تقديم دليلاً ضد نفسه " ، كما أن تقديم المكلف لدفاتره التجارية بما يقوي شوكته في الإثبات يمثل استثناءً ثانياً على قاعدة "لا يجوز للمرء أن يصنع دليلاً لنفسهِ" ، وتقرير مثل هذه الاستثناءات من المشرع بصفة عامة ، أو من المشرع الضريبي بصفة خاصة تأكيداً لذاتية الإثبات الضريبيفضلاً عن كون تقرير مثل هذه الاستثناءات تدخل في نطاق اختصاصات المشرع حصراً
عموماً فإنَ المشرع المصري بدا دقيقاً في تبيان عبء الإثبات في المنازعات المُثارة بسبب الدفاتر التجارية ، فبعد أن قَرنَ انتظام الدفاتر التجارية بقرينة صحتها فإنه ألزَمَ الإدارة الضريبية (المصلحة) بالأخذ بها ، وعدم جواز إهدارها ،أي: أنهُ أعفى المكلف من عبء إثبات صحة دفاتره بشرط انتظامها ، ولكن إذا ما سعت السلطة المالية إلى إهدارها فعليها يقع عبء إثبات عدم صحتها
ويتحدد معنى الدفاتر المنتظمة عند جانب من الكتاب بأنها:" تلك التي تكون القيود الدفترية فيها مؤيدة بمستندات حقيقية محفوظة بطريقة منظمة تسهل معها مراجعة القيود الحسابية .."، وعند البعض الآخر تعني: استيفاء الدفاتر التجارية الشروط التي نصَّ عليها نظام مسك الدفاتر التجارية جميعها.
وقد نصَّ المشرع صراحةً على نقل عبء إثبات عدم صحة الدفاتر التجارية المنتظمة إلى الإدارة الضريبة ، ليقترب من الموقف في روسيا إذ على السلطة المالية إثبات عدم مسك الدفاتر التجارية المُبينة للنفقات والدخل بما يمكن من احتساب الضريبة ،كما أنهُ الموقف نفسهُ السائد في ايرلندا ، إذ يتوصل بعض الكتاب إلى المعنى المتقدم في ظل التشريع الضريبي الإيرلندي حين يذهبون إلى أن عبء الإثبات يكون على السلطة المالية عندما يكون المكلف مُمسكاً لدفاتر وسجلات صحيحة،كما يقترب المعنى المتقدم من الموقف التشريعي والقضائي الأمريكي في نقل عبء الإثبات من المكلف إلى السلطة المالية في الحالات التي ينفذ التزاماته الجوهرية (certain requirements)
وكأن المشرع قد أبقى على مضمون قاعدة الإثبات التي تقضي:" بعدم إمكان الفرد أن يصطنع دليلاً لنفسه" ، ولم يشأ أن يقرن انتظام الدفاتر بصحتها ، مما يفرغ الأخيرة من أية أهمية لها ، فضلاً عن كونه يساوي ، دون وجه حق ، في المركز القانوني بين المكلف الذي يقدم الدفاتر المنتظمة ، والمكلف الذي يتمسك بدفاتر غير منتظمة.
وقبل مغادرة هذه النقطة لابد من بيان جانباً آخر من المنازعات الضريبية المرتبطة بقيام السلطة المالية بتجزئة الدفاتر التجارية ؟
إذا كان بعض الكتاب يرى بجواز ذلك على أساس عدم وجود مانع قانوني أو منطقي يحول من دون ذلك وهذا الرأي يخالف ما أوجبهُ المشرع العراقي في قانون الإثبات من عدم جواز تجزئة القيود الواردة في الدفاتر التجارية ، إلا أن التطبيق العملي يشير إلى أن الرفض الكلي أو الجزئي يؤدي إلى تطبيق الضوابط السنوية أو الأرقام الاسترشادية التي دأبت الإدارة الضريبية في العراق على وضعها وتطبيقها بدلاً عن الدفاتر المرفوضة كلاً أو جزءاً وحضي هذا التوجه بتأييد لجان الطعن الضريبي بقرارات كثيرة مثلما قضت :" لهذا إذا ما أخذت السلطة المالية بقسم من حسابات المكلف ورفضت أجزاء أخرى ومنها المصاريف المتنوعة بوصفها تضخيماً للنفقات ، يكون القرار الاستئنافي بتخفيض الضريبة والركون إلى الأصل العام في هذه الأحوال – تطبيق الضوابط- صحيحاً وموافقاً للقانون ".
عموماً فإني أظنُ أن الدفاتر التجارية المقدمة من المكلف بمثابة إقرار غير قضائي ، ولكون هذا الإقرار قد جرى أمام الإدارة الضريبية أو الجهة المختصة بنظر المنازعات الضريبية أو قد جرى في منازعة قضائية أخرى ، فإن الجهة التي تنظر المنازعة الضريبية يجب أن تتحرى فيه مقصد الخصم من وراء إقراره فيما إذا سعى لإنهاء الخصومة المنظورة أم لا ، فإن استبان لها ذلك السعي كان هذا الإقرار بمثابة الإقرار القضائي ويتمتع بالحجية المقررة له ذاتها .
لذا أظنُ بعدم جواز تجزئة الدفاتر التجارية المنتظمة فإما أن تُقبل كلاً أو تُرفض كُلاً ، ولكن رفضها في الحالتين يجب أن يفرض على السلطة المالية عبء إثبات عدم صحتها ، أما إذا لم يلحق بها وصف الانتظام ورفضت فإن المكلف هو منْ يقع عليه عبء الإثبات .
الفرع الثاني : عبء الإثبات في المنازعات الضريبية المرتبطة بضمانات تحصيل الضريبة
تصدر الإدارة الضريبية بعض القرارات الإدارية غايتها النهائية ضمان تحصيل الضريبة من احتمالات التهرب الضريبي ، بمعنى أن سبب تلك القرارات هو صدور فعل أو امتناع من المكلف ينطوي على نية التهرب من أداء الضريبة كلاً أو جزءاً
أولاً: تقدير الضريبة قبل الاستحقاق
تفرض الإدارة الضريبية الضريبة قبل موعد استحقاقها وتعمل على جبايتها مستندة في ذلك إلى أسباب عدة من أبرزها منع التهرب الضريبي ، وقد ينجم عن ذلك منازعات ضريبية قوامها الاختلاف حول إثبات نية التهرب الضريبي المنسوبة إلى المكلف ، فإذا كان المشرع المصري قد منحَ السلطة المالية الحق في تقدير الضريبة قبل تاريخ استحقاقها ، لكنه كلفها بعبء إثبات تخطيط المكلف للتهرب الضريبي بأية وسيلة تضر بتحصيل الضريبة على أن يكون هذا الإثبات مؤيد (بدليل محدد) بأن الممول يخطط للتهرب الضريبي على أن تخطر المكلف بإجراءاتها ، بيد أن المشرع العراقي قد منح الإدارة الضريبية سلطة فرض الضريبة احتياطياً ، وجعل هذه السلطة تقديرية ، من دون أن يكلف الإدارة الضريبية بعبء إثبات نية تهرب المكلف من الضريبة ، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال سلطة التقدير الاحتياطي واستيفاء الضريبة بصورة أمانات لحساب سنتها التقديرية، وسلطة طلب استقطاع نسبة مئوية لا تتجاوز 10% من المبالغ المتحققة للمتعهدين أو غيرهم.
ولكن بالرغم من المشرع العراقي لحالات التقدير الاحتياطي ، فإن جانباً من الكتاب يرى أن الإدارة الضريبية تتمكن من التقدير الاحتياطي في كل الأحوال التي ترى فيها ضرورة حماية حقوق الخزينة، لذا كنا قد أشرنا سابقاً إلى أن حالة الخشية من تعذر تحصيل الضريبة واحدة من أسباب إجراءا التقدير الاحتياطي.
ثانياً : الفحص والتحريات دون إخطار مسبق
إذا كان المشرع أوجبَ على الإدارة الضريبية إخطار المكلف بموعد الفحص الضريبي ، ومكانهُ ، ومدته قبل عشرة أيام في الأقل ، لكنه بالوقت نفسه خولَ وزير المالية الترخيص بإجرائهِ دون إخطار مسبق بشرط أن تكون هناك أسباب جدية على تهرب المكلف من الضريبة ومؤدى إعمال هذا الشرط أن تُكلف السلطة المالية بعبء إثبات الأسباب الجدية كونها مَنْ يدعي خلاف الأصل أو الظاهر المتمثل بالتزام المكلف وعدم تهربهِ ، مع وجوب العلم أن إثبات تلك الأسباب هو لقيام الإدارة الضريبية بالفحص الضريبي من دون تبليغ المكلف ، وليس للقيام بالفحص أصلاً ، كونهُ من واجبات الإدارة للوصول إلى تقدير حقيقي لمصادر دخل المكلف ، وهو ما وكدهُ المشرع العراقي بجلاء حين منحَ الإدارة الضريبية سلطة التحري والتحقق عن دخل المكلف الحقيقي سواءٌ أتمَّ ذلك بتبليغ المكلف أم لا، ويظهر لنا أن موقف المشرع العراقي الأقرب إلى الدقة والحفاظ على حصيلة الضريبة من زاوية أن سلطة الفحص والتحري من واجبات الإدارة الضريبية التي يجب أن تمارس سواءُ أنص المشرع عليها أم لا ، وسواءٌ أكانت بعلم المكلف أم لا ، ولا تتطلب أن يُثقل كاهل الإدارة بعبء إثبات الأسباب التي جعلتها تقوم به بصورة مفاجئة
ولكن هل يمكن أن يكون تاريخ المكلف الضريبي أو ارتكابه مخالفات ضريبية سابقة مسعفاً للإدارة الضريبية في سعيها لإثبات نية المكلف للتهرب من الضريبة ؟ ، يبدو أن تاريخ المكلف ومحتويات اضبارته الضريبية قد تكون قرائن بسيطة ولكنها بالأحوال كافة لا ترقى إلى وصف الأسباب الجدية لتهرب المكلف التي أوجبها المشرع .
ثالثاً: إجراء الحجز التنفيذي بدون تبليغ المكلف
خولَ المشرع الإدارة الضريبية سلطة إيقاع الحجز التنفيذي على أموال المكلف بقيمة الضريبة المستحقة بشرط إخطار المكلف بالسداد
خلال ستين يوماً من تاريخ الموافقة على التقديرات أو صدور قرار لجنة الطعن أو حكم المحكمة الابتدائية ، ويعد هذا الإنذار شرطاً لازماً لصحة إيقاع الحجز ، ولكن يمكن للإدارة الضريبية /المصلحة أن توقع الحجز بدون إجراء الإنذار في حالة " وجود خطر يهدد اقتضاء دين الضريبة . ويتطابق هذا الموقف التشريعي مع موقف المشرع الضريبي العراقي ، الذي أحالَ جباية الضريبة والمبالغ الإضافية إلى قانون تحصيل الديون الحكومية، وأوجبَ القانون الأخير إنذار المدين المتأخر عن التسديد بوجوب الدفع خلال عشرة أيام من اليوم التالي لتبليغه، وأوجبَ إيقاع الحجز بانتهاء تلك الفترة دون تسديد، ولكنه بالوقت نفسه أجازَ حجز أموال المدين التي يحتمل إخفائها أو تهريبها قبل إنذاره بالتسديد
وأظنُ أن عبء إثبات "وجود الخطر" أو "محاولة الإخفاء أو التهريب " يقع على الإدارة الضريبية ، وهو ما يفهم إشارة من النصَّ ، كونه إثبات معاكس للظاهر أو الأصل المتمثل بضمان تحصيل دين الضريبة ، وإثبات ذلك يتم بمختلف طرق الإثبات ومنها: تصرفات المكلف وأفعاله التي يرمي من ورائها لتهريب أمواله المنقولة وغير المنقولة أو إخفائها من تسديد دين الضريبة ، كقيامهِ بمحاولة نقل ملكية عقاراته لآخرين ، أو سحب المكلف لجميع أرصدته البنكية أو أجزاء كبيرة منها ، أو تمشية معاملة هبة لبعض عقاراته لآخرين مهما تكن صلته بهم ، كل هذه التصرفات هي بمثابة خطر يهدد استيفاء دين الضريبة إذا استطاعت السلطة المالية إثبات هذه الصلة بين تلك التصرفات وسواها من جهة ، و مخاطر استيفاء الضريبة من جهة أخرى .
المطلب الثاني : إلزام المكلف بعبء الإثبات
مالَ المشرع الضريبي إلى إلزام المكلف بتقديم أدلة الإثبات في حسم جانب كبير من المنازعات الضريبية ، لذا سنعرض لأهمها كما يلي :
الفرع الأول : عبء الإثبات المرتبط بتقدير التكاليف
إنَّ تحديد الضريبة واجبة التسديد يمرُّ بمراحل تقدير متتالية تبدأ بحصول الواقعة المنشأة للضريبة أو مناسبة إخضاع دخل المكلف للضريبة ، وعبء إثباتها يقع على السلطة المالية ، ثم بحصر الدخل الإجمالي الذي يثبت بأدلة تقدمها السلطة المالية والمكلف ، ثمَّ تبدأ مرحلة طرح التكاليف أو النفقات المصروفة للحصول على الدخل (التنزيلات) (cost side)، وتنزيل التكاليف الشخصية التي يصرفها المكلف على نفسه وعلى زوجته وأبنائه (السماحات) (deductions)، وطرح الخسائر التي لحقت المكلف ، للوصول إلى الدخل الصافي الذي تستخلص منه مقدار الضريبة بعد خضوعه لأسعار الضريبة ، والوصول إلى الدخل الصافي غايتهُ تطبيق قاعدة العدالة الضريبية .
وإذا تركنا جانباً الشروط القانونية المرافقة لمراحل احتساب الضريبة المتقدمة ، لوقوعها خارج نطاق البحث ، فإن ما يعنينا هو مَنْ يتحمل عبء إثبات تحقق التكاليف والخسائر المتقدمة لتنزيلها من الدخل الإجمالي ؟
يظهر أن القاعدة العامة هي تكليف المكلف في إثبات التكاليفوارتباطها بالدخلفي المنازعات الضريبية في كل من الدنمارك والسويد ، وروسيا،كما يلاحظ بجلاء أن المشرع العراقي قد نصَّ صراحةً على وجوب تأييد حساب التكاليف (التنزيلات) بوثائق مقبولة، وأشترط الشرط ذاته في تنزيل الخسائر حين أشترط أن تكون ثابتة بوثائق مقبولة ، وطبيعي أن يتم إثبات التكاليف الشخصيةبوثائق رسمية
، ولكن إذا كانت صفة المقبولية تقررها الإدارة الضريبية عند التحاسب ، فإنها يجب أن لا تدخل في نطاق السلطة التقديرية لها ، بل أن تقرير مقبوليتها من عدمه يجب أن يخضع لرقابة لجان الطعن الضريبي ، كما أنَّ مقبوليتها في الإثبات لا تتوقف عند حدود إشتراط أنها أدلة كتابية رسمية بل يمكن أن تكون أدلة كتابية غير رسمية ، لذا كما تصلح الأوراق التحقيقية التي تثبت حصول سرقة أو حريق لمصدر دخل المكلف أدت إلى خسارته ، فإن الحسابات المنظمة من مراقب الحسابات ، والفواتير ، وعقود الإيجار غير المصدقة تصلح أن تكون إثباتات لتكاليف المكلف ، وبالأحوال كافة أن تنزيل التكاليف استثناء وبحاجة إلى وضوح النص ودقته فضلاً عن عدم جواز القياس عليه، كون المشرع قد أشترط تأييد التكاليف (بالمستندات) ، إلا أنهُ استثنى من ذلك التكاليف والمصروفات التي لم يجرِ العرف على إثباتها بمستندات بالنسبة إلى الدخل المتأتي من النشاط التجاري والصناعي ، في حين أشترط في تنزيل التكاليف من الدخل المتأتي من المهن غير التجارية أن تكون ثابتة بحسابات منتظمة ومؤيدة بمستندات بما في ذلك التكاليف والمصروفات التي لم يجرِ العرف على إثباتها بمستندات
عموماً فإن كان المشرع قد أشترط الإثبات أم لم يشترط في مراحل تقدير الضريبة المتقدمة فإن عبء الإثبات على المكلف لسببين :أما السبب الأول : فيرجع إلى أن القاعدة العامة هي إخضاع الدخل الناجم للمكلف بمجمله للضريبة أما الاستثناء فهو تنزيل ما تمَّ إنفاقه للحصول عليه ، وخسارته ، وسماحاته ، ولما كان الاستثناء يُفسر بأضيق نطاق ولا يجوز التوسع فيه والقياس عليه لذا وجب أن يثبته المكلف بنفسه ، أما السبب الثاني : فيرجع إلى أن التنزيلات ، والخسائر ، والسماحات يدعي تحققها المكلف ، وعلى من يدعي عبء إثبات ما يدعيه ، فإن أثبتها كانَ للسلطة المالية تقديم الأدلة المعاكسة .
الفرع الثاني : عبء الإثبات المرتبط بعدم القدرة على دفع الضريبة
تُجيز القوانين الضريبية في الغالب أن يقوم المكلف بتسديد الضريبة على أقساط لأسباب أو مبررات تدفع المكلف إلى المطالبة بذلك التقسيط ، لكن تلك القوانين تفرض عليه عبء إثبات ما يدعيه من حصول ظروف تمنعهُ من الدفع كاملاً أو تجعل التزامه مرهقاً ، وفي هذا المسلك تطبيقاً لقاعدة العدالة الضريبية ، لذا أجازَ المشرع العراقي تقسيط الضريبة بناءً على طلب تحريري يتقدم به المكلف يبين فيه " الأسباب المبررة للتقسيط " ، من دون تحديد مدة التقسيط ، ولم يجز قبول طلب المكلف في تمديد مدة التقسيط أو تلكئهُ عن الالتزام بدفعات التقسيط، وهو بخلاف مسلك المشرع المصري ، الذي أجازََ تقسيط الضريبة لمدة لا تتجاوز عدد السنوات المالية /الضريبية من دون أن يكلف المكلف صراحةً بإثبات الأسباب التي أدت به إلى طلب التقسيط ، ولكنهُ كلفه بإثبات الظروف العامة أو الخاصة به التي حالت من دون قدرته على الإيفاء بتسديد الأقساط الضريبية خلال مدة التقسيط القانونية المتقدمة ، وللسلطة المالية تقسيط الضريبة لمدة أطول ولكن يجب أن لا تزيد على مثلي عدد السنوات الضريبية ؛ أما نكوص المكلف بعد الموافقة على التقسيط بمدته الجديدة مؤداه " سقوط حقه بالتقسيط " كقاعدة عامة ، ولكن المشرع المصري فسح المجال أمام المكلف ثانية أن يثبت أسباب عدم التزامه بالتقسيط وللسلطة المالية قبول تلك الإثباتات أو رفضها.
ويظهر لنا أنَّ المشرع قد مالَ إلى سياسة تحسين علاقة المكلفين بالإدارة الضريبة وتطبيق قاعدة العدالة الضريبية بواحدة من وجوهها ، ولكني أظنُ أن المكلف يقع عليه عبء الإثبات ، وأنَّ له حيزان في الإثبات هما : أما الحيز الأول : فهو إثبات وجود الظروف العامة التي أثرت في التزامه بالتسديد ، ومنها ،مثلاً، الركود الاقتصادي المؤثر في نشاط المكلف ، أو تراجع أسعار سوق المال المرتبط بمصدر دخل المكلف ، أو إصدار تشريع يحظر مزاولة استيراد سلعة تدخل في حيز عمل المكلف ، وغير ذلك من الحالات ؛ أما الحيز الثاني : فهو إثبات المكلف قيام ظروف خاصة به أثرت في قدرته على التسديد ، كأن يواجه المكلف حالات من تأخر بضاعته المستوردة ، أو تعطل مصنعه لأسباب مختلفة ، أو مرضه الذي يقعده عن الاتصال بالسلطة المالية ، أو سفره إلى خارج الدولة وتأخره عن العودة لأسباب لا يد له بها ، وغير ذلك من الحالات ، ولكني أظن أن الظروف الخاصة التي لا ترتبط بعدم القدرة على تسديد الضريبة لا تفيد المكلف إن أثبت قيامها مثل طلاقه من زوجته أو مرضها أو مرض أحد أفراد عائلته أو انشغاله بمنازعات قضائية وما إلى ذلك .
الفرع الثالث : عبء الإثبات المرتبط بالتوقف الكلي أو الجزئي
تفرض الضريبة على الدخل المتحقق للمكلف خلال السنة المالية ، ولكن مصدر الدخل قد لا يستمر في تدفيق الدخل الخاضع للضريبة ، فقد يتوقف لأسباب مختلفة ، لذا فإن ثبوت هذا التوقف يؤدي إلى فرض الضريبة عن المدة السابقة للتوقف فقط ، مما يراعي الوصول إلى المقدرة التكليفية الحقيقية للمكلف ، ويعد تطبيقاً لقاعدة العدالة الضريبية ، لذا نصّ المشرع العراقي على حالة انقطاع مصدر الدخل خلال السنة التقديرية ، ومنح السلطة المالية حق إجراء التقدير وفرض الضريبة وجبايتها، وقد يكون عدم تصريح المشرع العراقي بفرض عبء إثبات الانقطاع صراحةً سبباً يؤدي إلى القول أن السلطة التقديرية المنصوص عليها مرتبطة بمدى فرض الضريبة عن المدة السابقة للانقطاع من عدمه ، ولكني أظنُ أن السلطة التقديرية التي نصّ عليها المشرع مرتبطة بمدى اقتناع السلطة المالية بإثبات المكلف لحالة انقطاع مصدر الدخل من عدمه .
عموماً فقد كان المشرع وأكثر قرباً من المزج بين تطبيق قاعدة العدالة الضريبية حين أوجبَ احتساب الضريبة على الأرباح الناجمة للمكلف حتى تاريخ التوقف عن العمل من جهة ، وضمان حصيلة الضريبة حين فرض التزام الإخطار عن التوقف على المكلف وخلال ثلاثين يوماً تبدأ من تاريخ التوقف ، وبخلافه فإنهُ يُقيم قرينة قانونية باستمرار عمل المكلف وتحقيقهِ إيرادات لسنة مالية كاملة ، ولكن هذه القرينة قابلة لإثبات العكس ويقع عبء إثبات عدم تحقيقهِ الدخل بعد تاريخ التوقف عن العمل على المكلف
وأظنُ أن المشرع قد سعى إلى تطبيق القاعدة العامة في الإثبات وهي :" بقاء ما كان على مكان والأصل في الصفات العارضة العدم " ، لذا يبدو من الطبيعي أن يُلقي على المكلف عبء عدم تحقيقه للدخل بعد واقعة التوقف التي يدعيها بعد فوات المدة القانونية للإخطار بالتوقف .
وتدعيماً لقرينة استمرار النشاط وعدم توقفه فأن القضاء المصري مال إلى قرائن واقعية مثلما قضى :"إذا لم يتم إخطار المأمورية المختصة بهذا التنازل فإن مأمورية الضرائب لا تحاج بهذا التنازل ، وكذلك بالنسبة للتوقف المزعوم به إذ ثبت استهلاك تيار كهربائي بمقدار لا يتفق مع القول بالتوقف
الفرع الرابع : إثبات طلب تصحيح التقدير النهائي
تتفاوت التشريعات في تقرير إمكانية طلب إعادة التقدير الضريبي النهائي ، أي: التقدير الذي أكتسب الدرجة القطعية لفوات مدة الطعن القانونية أو التقدير الذي سبق أن تم الطعن فيه وحسمت نتيجة الطعن على نحو معين ، وفي الغالب تكون الضريبة أو غالبية أقساطها قد سددت إلى الخزينة . فإذا كان المشرع المصري قد فسح المجال لأصحاب الشأن أن يطلبوا إعادة تقدير الضريبة النهائي المستند إلى تقدير السلطة المالية أو قرار لجنة الطعن خلال خمس سنوات من صيرورة التقدير نهائياً بناء على أسباب أو حالات عدة ، وألزمَ صاحب الشأن بعبء إثبات تحقق واحدة من تلك الحالات من خلال تقديم " مستندات وأوراق قاطعة من شأنها أن تؤدي إلى عدم صحة الربط " .
الفرع الخامس : إثبات عدم الالتزام بتقديم البيانات والدفاتر والمستندات والمحررات خلال المدة القانونية
تُلزم التشريعات الضريبية المكلفين بتقديم أدلة مرفقة بالتقرير الضريبي ، وترتب على عدم الالتزام بها النتائج نفسها المرتبطة بكفاية الإثبات الوارد بالتقرير الضريبي من عدمه ، ولكن قد يكلف المكلف بتقديم أدلة أخرى لاحقة لتقديم التقرير الضريبي ترتبط بإجراءات الإدارة الضريبية بالفحص الضريبي ، فإذا كان المشرع العراقي قد أشار إلى هذا الالتزام ولم يعين للوفاء به مدة قانونية معينة، فإن المشرع المصري كان أكثر دقة في استظهار قاعدة اليقين عندما ألزمَ المكلف بإمداد السلطة المالية بما تطلبهُ كتابة من أدلة لازمة لاستكمال متطلبات الفحص والتحريات خلال فترة خمسة عشر يوم من تاريخ طلبها لها ، وإذا تقاعس يعدُ مخالفاً وقد يكون ذلك حجة عليه ، ولكن قد يستطيع المكلف إثبات الصعوبات التي حالت من دون التزامه بتقديمه (دليلاً كافياً) ، وقد ينتج عن اقتناع السلطة المالية به أن تمدد المدة القانونية لالتزامه
ولكن ما هو معيار كفاية الدليل ومَنْ يقدر كفايته ؟
يبدو أن معيار الكفاية ينصب على عدم إيفاء المكلف بالتزامه من دون أن يستطيل إلى كفاية ما يقدمه من أدلة ، بمعنى: أن تكون كفاية الدليل المقدمة مرتبطة بمدى وصول دليل الإثبات إلى درجة منعت المكلف عن الإيفاء بالتزامه ، ولكن بالأحوال كافة فإن السلطة المالية مَنْ يقدر وصول الدليل لوصف الكفاية ولكن هذا التقدير تتم مراقبته من قبل لجان الطعن في حالة إثارة النزاع .
الفرع السادس : تكليف المكلف بعبء إثبات المشاركة
أوجبَ المشرع على المكلف الذي يدعي بقيام المشاركة عبء الإثبات بتقديم " كافة المستندات والسجلات والبيانات التي تطلبها منه السلطة المالية "، ولكن إذا لم تقتنع السلطة المالية بالإثباتات المقدمة من الشريك المتقدم ، وبدا لها أن الإدعاء بها محاولة للتخلص من الضريبة أو تقليلها فإن المشرع منحها سلطة تقدير الضريبة على الشخص الذي تعتقد أن دخل المشاركة يخصه دون غيره ، ولكني أظنُ أن مسألة اقتناع السلطة المالية بكفاية أدلة الإثبات يجب أن تكون محلاً للتمحيص حين قيام المنازعة الضريبية ، ويجب أن يتحول عليها عبء إثبات صورية المشاركة كونها تعد مدعية إذا ما حاولت عكس أدلة المكلف المقدمة ، ويجب أن لا يكون رفضها لأدلة الإثبات المقدمة من المكلف مرتبطاً بفكرة السلطة التقديرية على أساس أن السلطة المالية تتمتع بقدر كبير من الحرية أو السلطة التقديرية بتحديد صفة شركة الأشخاص أو المشاركات وذلك للحد من التهرب الضريبي.
وما يؤيد رأينا المتقدم هو توجه لجان الطعن الضريبي من الإقرار بصحة قيام المشاركة بتحقق أركان قيامها من دون الاعتداد بموافقة السلطة المالية مثلما قضت :" ان موافقة السلطة المالية على عقد المشاركة لا يعتبر ركناً من أركان انعقاده حيث توفرت أركانه الصحيحة وحددت بموجبه التزامات الشركاء بوضوح مما يبعده عن شائبة الصورية.
عليه فلسلطة المالية أن تُثبت صورية المشاركة بوسائل الإثبات كافة ، أما الإدعاء المجرد من أي دليل ، ورفضها إثباتات قيام المشاركة مخالف للقانون .
المبحث الثاني : سكوت المشرع عن تحديد عبء الإثبات
إذا كان المشرع الضريبي يُحدد مَنْ يُكلف بعبء الإثبات إما صراحةً أو إشارةً على النحو المتقدم ، فإنهُ قد لا ينصُّ على تبيان موقفهِ لسبب أو لآخر ، وبهذا الفرض إما أن يقرر قاعدة عامة بمقتضاها يفرض عبء الإثبات على السلطة المالية في كل حالة تستوجب الإثبات ، وبخاصة المسائل المستحدثة (new matters ) مثلما توجه المشرع والقضاء الأمريكي ، أو أن المشرع يُحجم عن تقرير مثل هذه القاعدة مما يولد مزيداً من الأسباب لنشوب المنازعات الضريبية ، ومن أهم الأمثلة البارزة على ذلك .
المطلب الأول : عبء إثبات الخضوع للضريبة
تحرص الدساتير على كفالة مبدأ قانونية فرض الضريبة ، ومؤدى مبدأ القانونية فإن خضوع الأشخاص للضريبة يجب أن يتم على وفق نصوص قانونية واضحة تتسم صياغتها بقاعدة اليقين بفرض الضريبة ، وبناء على ذلك درجت القوانين الضريبة على تبيان أهم مصادر الدخل الخاضعة للضريبة ، ولكن إذا كان من اليسير إثبات خضوع المكلف للضريبة بمجرد تحقيقه دخلاً (taxable income) ناجماً من مصدر من تلك المصادر المذكورة صراحةً ، فإن من الصعب إثبات خضوع المكلف للضريبة إذا ما حقق دخلاً من مصدر غير منصوص عليه صراحةً وبخاصة إذا تبنى التعريف الواسع للدخل (the broad definition of income ) فضلاً عن قيام المنازعة بشأن نسبة مصدر الدخل نفسه إلى المكلف ؟
يظهر أن الإجابة عن التساؤل المتقدم تزداد صعوبة كلما أحجم المشرع عن تبيان أيٍ من طرفي العلاقة الضريبة عليه عبء الإثبات ، وبخاصة أن جُل المنازعات الضريبية تدور في هذا الفلك ، فكثيراً ما تدعي السلطة المالية خضوع المكلف للضريبة وتواجه بإنكار الأخير ، وعادة ما تؤسس السلطة المالية إدعائها بحجج خارج نطاق أدلة الإثبات المقبولة ، ومن بين تلك الحجج فهمها الخاص للسلطة التقديرية ومداها ، وللفهم الخاطئ لبعض النصوص القانونية .
لذا أظنُ أن مطالبة المكلف بإثبات عدم خضوعهِ للضريبة قد يكون تكليفاً بمستحيل ، وفيه مخالفة صريحة لأسس الإثبات المستقرة ومن أهمها الأصل براءة الذمة وأن البينة على من أدعى ، ولا يشفع الإدعاء بذاتية القانون الضريبي لإنكار هذه القواعد كونها الأقرب إلى ترسيخ قاعدتي العدالة واليقين ، بل أنَّ الأقرب إلى تطبيق مبدأ القانونية هو تكليف السلطة المالية بعبء إثبات الأسباب التي توجب خضوع المكلف لأحكام قانون الضريبة ، وأن تكون تلك الأسباب مُدعمة بأدلة ثبوتية .
ويستقر العمل على إلزام الإدارة الضريبية بإثبات خضوع المكلف للضريبة أو تحقيقه للدخل الخاضع للضريبة (income side) في كل من السويد والدنمارك ، في حين يقع على المكلف إثبات كون دخله المثبت تحققه يعد استثناءً من الضريبة (a tax privilege ) ، أما في روسيا فيقع على السلطة المالية إثبات استلام المكلف للدخل الخاضع للضريبة على الأرباح والضريبة، استناداً إلى مبدأ براءة الذمة المقررة لصالح المكلف ، فضلاً عن كون المكلف يستطيع المنازعة في صحة تقدير السلطة المالية للضريبة (a tax assessment) محاولاً إلغائه (displace) أو التقليل منه (reduce) وحينها يتحول عليه عبء إثبات عدم صحة التقدير (correctness of calculation of tax base ) ، وهذا التوجه مستقر في كل من السويد والدنمارك ، وروسيا.
واتساقاً مع ما تقدم فإني أظنُ بعدم دقة الرأي الذي يدخل إخضاع المكلفين للضريبة من عدمه ضمن نطاق السلطة التقديرية للإدارة الضريبية ، وعدم دقة خضوع المكلفين للضريبة بالاستناد إلى معيار غير منضبط مفادهُ الإخضاع للضريبة لقيام واقعة شراء المركبات التي لا يتم الاحتفاظ بها لمدة سنة على أساس أن هذا العمل مضاربة تخضع للضريبة ؛وعدم دقة فرض الضريبة على السيولة النقدية ، أو مجرد الحدس بوجود مصدر خاضع للضريبة ، وما يدعم رأينا هو تأكيد الهيئة التمييزية على عدم مشروعية فرض الضريبة على مجرد الحدس بوجود مصدر مخفي للدخل .
وقررت إلزام السلطة المالية بإعادة المبلغ المستوفى من المكلف كضريبة على السيولة النقدية بل أن السلطة المالية قد جانبت الدقة في إخضاع شهرة المحل لضريبة الدخل بصفته دخلاً غير معفى بقانون وغير خاضع لأية ضريبة في العراق ، ومصداقاً لذلك أن الهيئة التمييزية قررت إلغاء التقدير الذي أجرته السلطة المالية على ربح المكلف المتحقق من شهرة المحل وذلك لكونه لم يستند على إيراد واضح ولكونه غير وارد قانوناً.
المطلب الثاني : عبء إثبات أسباب التقدير الإضافي (additional tax)
وإذا كان المشرع في موضع آخر يُلزم السلطة المالية بإجراء التقدير الإضافي على المكلف الذي سبق تقدير دخله بأقل من حقيقته فإنهُ اشترط لإجراء ذلك التقديـر ظهور وقائع مادية بضمنها الإخبار التحريري ، ولكن المشرع لم يكن واضحاً بتحديد عبء الإثبات بالقدر نفسه في تحديده وسيلة الإثبات وهو بهذا المسلك يقترب إلى حد كبير مع مسلك المشرع المصري الذي اشترط تعديل التقدير بالاستناد إلى البيانات والمستندات ، ولكني أظنُ أن السلطة المالية مُلزمة بعبء الإثبات لتوكيد قيام تلك الأسباب مما يبرر عدم خضوع الدخل للضريبة سابقاً أو عدم فرض الضريبة على بعض عناصره غير المصرح بها من قبل المكلف (undeclared sources)، ولا يقبل منها الإدعاء المجرد مصداقاً لمبدأ قانونية الضريبة أو محاولتها لنقل عبء الإثبات على المكلف توكيداً لقاعدة الأصل براءة الذمة المقررة لصالح المكلف ولا يجوز تكليفه بإثباتها ، وأن السلطة المالية هي المُدعية كونها تخالف ذلك الأصل ، وتوكيداً لهذا الرأي توجهت لجان الطعن في إحدى قراراتها :" لذا فإذا ما كان التقدير الإضافي قد جرى جزافاً دون وقائع مادية ثابتة أو إخبار تحريري ، فإن التقدير الإضافي يتعرض للإلغاء "
المطلب الثالث : عبء الإثبات في حالة التقدير الإداري يُعرف التقدير الإداري بأبسط تعريف له بأنهُ:
تقدير الدخل المباشر الذي تقوم به السلطة المالية بالاستناد إلى ما يتوافر لديها من معلومات لأسباب مختلفة كحالة عدم تقديم الإقرار ضمن المدة القانونية أو عدم رد المكلف على التصحيحات التي أجرتها الإدارة الضريبية أو عدم موافقته عليها ، أو عدم اقتناع الإدارة الضريبية بتصحيحات المكلف أو عدم حضور المكلف عند تبليغه بالحضور ، وغير ذلك من الأسباب عموماً فقد منح المشرع السلطة المالية مكنة إجراء التقدير الإداري بحالتين ،
أما الحالة الأولى : فهي حالة رفض التقرير الضريبي المقدم من المكلف ،
أما الحالة الثانية : فهي حالة المكلف الذي لم يقدم تقرير الضريبة واعتقدت السلطة المالية بأنهُ يخضع للضريبة ، وبالرغم من كون التقدير الإداري في الحالة الثانية قد لا يُثير الكثير من المنازعات الضريبية لسببين ،
أما السبب الأول: فيتجلى بأن التقدير الإداري سيعاد النظر فيه بمجرد مراجعة المكلف إلى دائرة الضريبة لإجراء أية تسوية عادلة باتفاق الطرفين أو أنهما سوف لا يتوصلان إلى أي إتفاق بالرغم من تقديم المكلف لتقريره فإن السلطة المالية ستصر على تقديراتها ويصبح قراراها الأخير هو السبب في المنازعة الضريبية وليس التقدير الإداري الأولي ،
أما السبب الثاني : فيرجع إلى كون المكلف لم يلتزم بواجبه القانوني بتقديم التقرير الضريبي . لذا فإن ما يكون محلاً للمنازعات الضريبية الكثيرة هو حالة التقدير الإداري بعد رفض التقرير الضريبي ، وهنا تبدو ضرورة معرفة مَن المكلف بعبء الإثبات ؟
جواباً على التساؤل المتقدم ، وبخلاف رأي سابق بان المكلف في حالة تقديره إدارياً فإنه سيواجه صعوبة بإقامة الدليل على إثبات خلاف ما ورد في التقدير كون عبء الإثبات سيقع عليه ، فإني أظنُ أن حالة التقدير الإداري بعد رفض التقرير الضريبي يوجب على السلطة المالية عبء إثبات مسألتين ، أما الأولى : فهي أسس رفض التقرير الضريبي أو أسبابه ، أما الثانية : فهي أسس التقدير الإداري أو ما عبّرَ عنه المشرع :" مما يتيسر لها جمعه من المعلومات " ، في حين أن حالة التقدير الإداري بعد امتناع المكلف عن تقديم التقرير الضريبي توجب على المكلف إثبات عكس ما ورد في التقدير وبخاصة أن المشرع لم يوجب على السلطة المالية جمع المعلومات كما فعل في الحالة الأولى فضلاً عن كون المكلف يعد مخالفاً لواجباته الضريبية وحينها يمكن استعمال نقل عبء الإثبات عليه كوسيلة مهمة للتمييز في المركز القانوني بين المكلف المخالف لواجباته الضريبية من جهة ، ومركز المكلف الذي التزم بأحكام القانون وتقدم بتقريره الضريبي لكنه رفض .
إن نتيجة رأينا المتقدم هي عين ما عَبّرَ عنه المشرع المصري بوضوح حينَ كَلّفَ المكلف بعبء الإثبات في حالة الربط التقديري عليه ، وتجري الإدارة الضريبية هذا الربط في حالتين ،
أما الأولى : فهي حالة عدم تقديم المكلف لإقراره الضريبي ،
أما الحالة الثانية : فهي عدم تقديم المكلف للبيانات والمستندات المؤيدة للإقرار الضريبي الذي قدمه ، ولم يوجب المشرع في حالة الربط التقديري سوى استناده لأية بيانات ، في حين أوجب على الإدارة الضريبية الاستناد إلى (مستندات) في حالة تصحيحها للإقرار المقدم لمخالفته للحقيقة .
أما القضاء والمشرع الأمريكي فقد فرض على السلطة المالية عب الإثبات في حالة استناد تقديرها إلى المعلومات الإحصائية (statistical information)
المطلب الرابع : عبء إثبات العلاقة بين المكلف الحقيقي والمكلف الظاهري
يحاول المكلفون في بعض الأحيان التهرب من الضريبة كلاً أو جزءاً ، وأحياناً يكون ذلك من خلال استتار المكلف الحقيقي بالمكلف الظاهري ، أو تواري غير المقيم خلف المقيم للحصول على منفعة أو ميزة أو سماح أو إعفاء ..الخ
وإذا كان المشرع قد تدارك حالات التهرب المتقدمة من خلال إثبات أن الشخص الذي جرى تقديره يعمل لحساب شخص آخر وقررَ مسؤوليتهما عن سداد الضريبة بالتضامن ، بيد أن المشرع نفسهُ لم يُبين بجلاء مَنْ يقع عليه عبء إثبات هذه الحالة من التهرب الضريبي ،وتقترب هذه الحالة من الحالة التي نصَّ عليها المشرع العراقي وهي تعاطي غير المقيم عملاً مع المقيم ، وظهرَ للسلطة المالية أن الدخل يعود إلى غير المقيم ، من خلال إثبات علاقتهما والسيطرة لأحدهما على الآخرلذا أظن أن على السلطة المالية/المصلحة يقع عبء الإثبات بطرائق الإثبات كافة الكتابية منها وغير الكتابية كونها مَنْ يدعي خلاف الأصل أو الظاهر المتمثل بكون المكلف الظاهري هو المكلف الحقيقي ، ويمكنها إثبات ذلك من خلال علاقة التبعية بينهما أو الكشف عن وثائق كتابية لتوكيد العلاقة الحقيقية بينهما إلى غير ذلك .
خاتمة :
إن إدارة الضرائب هي المصدر الأوّل بعد البترول في تمويل الخزينة العمومية إلاّ أنّها لا تتمتع بالصلاحيات والامتيازات الكافية التي تمكنها من تحقيق الهدف المرجّو منها والمتمثل، في دفع عجلة التنمية وتشجيع الاستثمارات.
فما لوحظ على مستوى مرافق القضاء أن إدارة الضرائب لا تستدعي إذا رفعت الشكوى من طرف إدارة الجمارك أو مديرية المنافسة والأسعار ... إلخ من المصالح التي تكون القضايا المرفوعة من طرفهم تمس بمصلحة إدارة الضرائب رغم أن المادة 87 من قانون الإجراءات الجبائية تنص صراحة على تمكين إدارة الضرائب من الإطلاع على بعض الملفات لا سيما منها المتعلقة أو التي تدل على وجود غش جبائي أو أية مناورة كانت نتيجة غش أو تملص من دفع ضريبة كذلك من ناحية أخرى فإذا كانت الدعوى مرفوعة من طرف إدارة الضرائب وتغيبت عن حضور جلسات المحاكمة تسقط الدعوى الجبائية على عكس ما هو معمول به في التشريع الجمركي أين تقدم النيابة العامة الطلبات محلها محل تغيبها عن الحضور.