شرح نشأة وتطور علم الاجتماع السیاسيمقدمة
لیس هناك إتفاق تام بین العلماء والمتخصصین حول تعریف عام وموحد لعلم الاجتماع السیاسي، أو الاتفاق حول مفهومه وماهیته ، كذلك لیس هناك إجماع حول الجذور التاریخیة والفكریة لعلم الاجتماع السیاسي من حیث بدایاتها - وهذا لیس بغريب- لأنه راجع إلى الخصوصیة التي تتمیز بها العلوم الاجتماعیة و الإنسانیة، أو إلى تشابك وتداخل المعرفة الإنسانیة ، وتأثرها بالعوامل الموضوعیة والذاتیة التي تشكل شخصیة العالم أو المفكر ، والتي بدورها تنعكس ، بصورة أو بأخرى ، على نتاجه العلمي والفكري .
ما تقدم ینطبق على علم الاجتماع السیاسي ، من حیث تحدید الرواد الأوائل أو الآباء المؤسسین لهذا العلم ، فنلاحظ أن بعضهم یرجعه إلى فلاسفة الیونان ، في حین أن بعض العلماء والمتخصصین یرجعون نشأة علم الاجتماع السیاسي إلى عصر النهضة و عصر التنویر ، فیما یرجعه البعض إلى العلماء العرب في عهدأبن خلدون وما بعده .
فقد أعتبر (غاستون بوتول) أن أفلاطون وأرسطو من هما رواد هذا العلم ، ملاحظا اختلاف كل منهما عن الآخر في اتجاهه الفكري ، كذلك من حیث مفهوم علم الاجتماع السیاسي، حیث رأى أنهما یمثلان نزعتین رئیستین للعمل السیاسي والمذاهب السیاسیة.
إن الدارس لتطور علم الاجتماع السياسي یجد بأن قیام الثورة الفرنسیة كانت عاملا مهما في إطار تحلل العلاقات المجتمعیة التي كانت سائدة ، وظهور نمط جدید من التفكیر السیاسي ، إضافة إلى حركة الإصلاح الدیني والثورة الصناعیة اللتین كانتا من العو امل الحاسمة في تكوین المجتمع الأوربي الحدیث، الذي أدى إلى تركیز اهتمام العلماء نحو تحلیل وتفسیر العلاقات السائدة بین المجتمع والدولة، أي (الموضوع الأساسي الذي یهتم به علم الاجتماع السیاسي)، ترتب عن ذلك وعلى مدى قرن ونصف دخول مفاهیم جدیدة إلى الحیاة السیاسیة في مجتمعات الدولة الحدیثة مثل : الانتخاب، والأحزاب السیاسیة، والبیروقراطیة، والمجتمع المدني، والرأي العام، إلى غیر ذلك من المسائل الأساسیة التي هي من محاور اهتمام علم الاجتماع السیاسي الیوم .
الرواد الأوائل لعلم الاجتماع السياسي : أولاً: أفلاطون (347- 427 ق.م) :
یعد أفلاطون من أوائل المساهمین في إثراء التراث الفكري ، الذي تراكم على مر العصور، وأدى إلى ظهور علم الاجتماع السیاسي في أواخر النصف الأول من القرن العشرین ، فبالرغم من أنه كان فیلسوفا مثالیا، ركز جهوده في دراسة الدولة المثالیة (المدينة الفاضلة)، وهذا ما لا یتفق مع اهتمامات علم الاجتماع السیاسي، الذي یدرس كما أسلفنا الظاهرة السیاسیة في إطارها المجتمعي بشكل علمي موضوعي.
إلا أن أفلاطون كان ینظر إلى الظاهرة السیاسیة من زاویة مجتمعیة، فقد اعتنى عند دراسة (مدينته الفاضلة) بتأثیر المتغیرات الاجتماعیة على السیاسة والحكم، كما أهتم بالبنى والمؤسسات الاجتماعیة وفعالیة تأثیرها في تنشئة الأفراد تنشئة سیاسیة سلیمة، لذلك فقد أهتم بموضوع التنشئة السیاسیة، وفعالیة الدور الذي تقوم به الأسرة، ونظام التعلیم، كعوامل مهمة لهذه التنشئة، باعتبارها من أهم الموضوعات التي یدرسها علم الاجتماع السیاسي .
لقد كان لأفلاطون العدید من الافكار المتصلة بالفلسفة السیاسیة، ففي كتابه (الجمهوریة) ضمّن أفلاطون أفكاره ودعمها بخبراته السیاسیة ومحاولاته التي بذلها لتنمیة روح المعرفة الحقة كأساس لفلسفة صناعة الحكم، حیث أن الفیلسوف قادر على أن يناط به الحكم، حیث یكون قد مر حسب رأي أفلاطون بتعلیم وتدریب متواصل، یبدأ بعد أن یتم اختیار من تتوافر فیه صفات الذكاء والصحة والنمو السلیم، و تعلیمهم القراءة والكتابة والحساب والموسیقى والتربیة الریاضیة، ویمر الناجحون إلى الدراسة العسكریة ثم العلوم الریاضیة البحتة وصولا إلى دراسة الفلسفة في مرحلة النضج .هذه الخطة التعلیمیة المتواصلة ، التي في كل مرحلة من مراحلها یتم إبعاد وعزل الراسبین ، ینتج عنها في النهایة أفراد ذوو كفاءات عالیة، قادرین على تحدید الخیر والشر، وتمییز العدالة،ودراسة نظم الحكم ومعرفة أصلحها لحكم الدولة، وأن یدرسوا وظیفة كل طبقة وما یصلح به شأنها وما یفسدها، والحدود التي یجب أن تلتزم بها الحكومات في مراقبة كل طبقة، وما یجب أن تقوم به
للمحافظة على كیان المجتمع ، وذلك لأن العلماء هم المؤهلون لتبوء مراكز القیادة والحكم، ليجلبوا الخیر والسعادة للمجتمع، عندما یكونوا في مركز الحكم والمسؤولیة .
ثانياً:أرسطو ( 322- 385 ق.م ) :
تأثر إلى حد كبیر بآراء وأفكار أستاذه (أفلاطون) وقد كانت نظرته تؤكد على ضرورة نشوءالجماعات، حیث یتكون الناس من ذكر وأنثى محتاجون إلى الاجتماع، طبقا لغریزة التناسل من أجل التكاثر وبقاء النوع، فهو یرى في كتابه ( السیاسة ) بأن الاجتماع أمر طبیعي والإنسان كائن اجتماعي، أي أن الناس يرغبون رغبة قویة في عیشة الجماعة، ولو كان كل منهم مدفوعا بمصلحته الخاصة وتحصیل حضه من السعادة . كما یرى أرسطو بأن الانسان یرتبط بالمجتمع السیاسي حتى عندما لا یجد فیه شیئا أكثر من المعیشة ، وهذا يؤكد الرؤية السیاسیة لأرسطو، التي محورها الاجتماع الإنساني
لقد وضع أرسطو دعائم مجتمعه الفاضل على غرار ما تصوره أستاذه (أفلاطون) في كتابه الجمهوریة، وذهب إلى أن المجتمع هو أرقى صور الحیاة السیاسیة، أما المركبات السیاسیة المترامیة الأطراف كالإمبراطوریة مثلا، فهي مركبات غیر متجانسة یستحیل علیها ، حسب رأیه ، تحقیق الغایة من الاجتماع الإنساني ، وهى توفیر سعادة المواطنین.
ثالثاً : عبدالرحمن ابن خلدون (1332-1406م) :
لم تكن كتابات ابن خلدون التاریخیة مجرد سرد للحوادث والأزمات فقط ، إنما كانت ذات أبعاد ومضامین اجتماعیة اقتصادیة وسیاسیة، حیث أطلق على هذا العلم الذي رأى ضرورة إقامته(علم العمران البشري) إذن فإن الاجتماع البشرى الذي یحدث نتیجة لاحتیاج الناس بعضهم لبعض، وذلك لغرض إشباع حاجاتهم الأساسیة، التي لایستطیع الإنسان بمفرده أن یقوم بها
ثم ینتقل ابن خلدون إلى المسألة السیاسیة فیقول: ( فلا بد من شيء آخر یدفع عدوان الناس بعضهم عن بعض ... فیكون ذلك الوازع واحدا منهم یكون له علیهم الغلبة والسلطان والید القاهرة حتى لا یصل أحد إلى غیره بعدوان وهذا هو معنى الملك).
لقد كان لقرب ابن خلدون من السلطة، أو طرفا فیها أحیانا ومعارضا لها أحیانا أخرى. جعله یتأملها ویعتقد بأن هنالك قوانین مفسدة للعلاقات الاجتماعیة المختلفة ولمسار العمران البشرى، لذا فقد تناول ابن خلدون موضوعین أساسیین یتعلقان بالاجتماع السیاسي وهما:
العصبیة :
وهى تعصب بعض الناس لبعضهم البعض، والدفاع بشدة عمن یتعصبون لهم. وهي بمثابة مفهوم الهویة حالیا ، حیث بواسطتها یتكاتف الناس لعمل أي شيء في سبیل إقامة الدولة، ویرى ابن خلدون أن العصبیة بها تكون الحمایة والمدافعة . والمطالبة، مع ضرورة وجود وازع وحاكم یزع بعضهم عن بعض .
صعود وأفول الدولة :
وفى هذا یؤكد ابن خلدون بأن للدول أعمار كما أعمار الافراد، وحدد عمر الدولة بمائة وعشرون عاما، تكون الدولة في بدایتها (الجیل الأول) في أوج قوتها نظرا لقوة العصبیة عندها، وفى (الجیل الثاني) يتحول خلق البداوة وخشونتها وتوحشها الى الترف والخصب و تتفكك الجماعة وظهور النزعة الفردیة، وفى الأربعین سنة الأخیرة (الجیل الثالث) من عمر الدولة، ینفصل الأفراد انفصالا كاملا عن تاریخ عصبیتهم فتسقط العصبیة بالجملة وینسون الحمایة والمدافعة فتوهن الدولة وتنقرض، وتقوم على أنقاضها دولة أخرى بعصبية قوية .
رابعاً: نيقولا ميكافيلي: (1469- 1527م) :
عندما كان مكیافللي یعد كتابه (الامير)ویقدمه هدیة إلى الأمیر " المدیشي "، لم یكن على الأرجح یعرف بأنه یؤسس لعلم جدید مع غیره من العلماء الذین سبقوه والذین سیأتون من بعده، لقد كانت أفكار مكیافللي السیاسیة التي ضمنها كتابه الأمیر بالفعل نقله جدیدة في دراسة وتحلیل وتفسیر الموضوعات السیاسیة، خاصة فیما یخص السلطة والمحافظة علیها من قبل الذین یملكون زمامها.
ویعد مكیافللي من العلماء الذین ساهموا بشكل كبیر في إقامة علم الاجتماع السیاسي بطریقة مباشرة أو غیر مباشرة ، بل ویعده " غاستون بوتول " ، مؤسس علم الاجتماع السیاسي. فمساهماته في تكوین علم الاجتماع السیاسي عدیدة، أهمها تلك النظرة الواقعیة الموضوعیة إلى الظاهرة السیاسیة وفصل السیاسة عن القیم والأخلاق، كما أنه وضع أسس نظریة الصفوة السیاسیة، التي تم تطویرها فیما بعد لتصبح موضوعا رئیسا من موضوعات علم الاجتماع السیاسي كما أنه أول من رفع شعار (الغایة تبرر الوسیلة) الذي أخذ به الحكام الذين غايتهم هي البقاء في السلطة وتطویع المحكومین لسلطانهم، حيث یستعملون كل الطرق والوسائل التي تضمن لهم البقاء، فتغیب بذلك الوسائل الأخلاقیة والقیم الاجتماعیة في الحكم.
خامساً: كارل ماركس: (1818-1883م)
استطاع ماركس عبر حیاته الأكادیمیة والفكریة تألیف العدید من الكتب التي ضمنها نتاجه الفكري وتوجهاته النظریة في تحلیل العلاقات الاجتماعیة، تلك التوجهات التي أثرت، في الحركات الثوریة والتنظیمیة في العالم، ورسمت المعالم الرئیسیة للنظم السیاسیة والاجتماعیة للعدید من الدول، خاصة في أوروبا وآسیا وأفریقیا وأمریكا الجنوبیة.
وقد عبرت مؤلفات ماركس عن أفكاره الفلسفیة والاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة ، ووضحت طبیعة نظریاته وطروحاته وقیمه الثوریة التي كان یحملها ، والتي أراد من خلالها تبدیل النظم الاجتماعیة والسیاسیة القائمة في العالم وتعویضها بنظم رادیكالیة تنحاز إلى الطبقة العاملة، كما تدعو إلى إلغاء الطبقیة .لقد كانت أفكار ماركس ملهمة للعلماء الذین جاءوا بعده، الذین أسسوا لعلم الاجتماع السیاسي .
سادساً: ماكس فيبر: ( 1864-1920م) :
یطلق على ماكس فیبر أحیانا ماركس البرجوازي بمقتضى أنه من خلال آراءه وكتاباته أعاد النظر بالطروحات التي جاء بها ماركس،وأعاد صیاغتها حسب أفكاره، بعد أن تبنى أصول الرأسمالیة الحدیثة ونشأتها، كما ذهب إلى أن علم الاجتماع یجب أن یبحث في تفسیر سببي لسلوك الإنسان ، وأن یسبر غور الظاهرة ولا یكتفي بمعرفة مظاهرها الخارجیة .
لقد كان والده یعمل في میدان السیاسة ، وهو ومن موقعه كأستاذ جامعي، كان مولعا بالعمل السیاسي، لذا فأعماله الفكریة اتجهت إلى تحلیل بعض النظم الاجتماعیة السیاسیة الموجودة، كالأحزاب السیاسیة والسلطة والبیروقراطیة والسلطة وغیرها.
ومن الواضح انعكاس المرحلة التي عاش خلالها، وهى مرحلة تطوریة اجتماعیة جدیدة ، ظهرت فیها الإمبریالیة العالمیة والبیروقراطیة الرسمیة.
تم تحرير الموضوع بواسطة :stardz
بتاريخ:19-09-2016 12:15 صباحاً