عقد المزارعة في القانون الجزائري
المزارعة هي نوع من التعاون الحاصل بين صاحب الأرض من جهة و المزارع أو الفلاح من جهة أخرى. بقصد الربح و الكسب لكلاهما، فقد يكون الفلاح أو المزارع متمكنا و ماهراً في الزراعة وهو لا يملك أرضاً. وقد يكون مالك الأرض عاجزاً عن زراعتها، لسبب من الأسباب.
فشُرع عقد المزارعة لما يعود به بالنفع على الطرفي العقد وعلى المجتمع ككل.
فهي مشاركة بين الطرفين في النماء و الإنتاج، الحاصل بالعمل.
المادة 26 مكرّر 1 قانون الأوقاف 01-07 :
{ يمكن أن تستغل وتستثمر وتنمّى الأملاك الوقفية. إذا كانت أرضا زراعية أو شجرا بأحد العقود الآتية :
1 -
عقد المزارعة : ويقصد به إعطاء الأرض للمزارع للاستغلال. مقابل حصة من المحصول يتفق عليها عند إبرام العقد.
2-عقد المساقاة : ويقصد به إعطاء الشجر للاستغلال لمن يصلحه مقابل جزء معين من ثمره }.
تكوين عقد المزارعة :
يمر كل عقد بمرحلة التكوين وهي مرحلة تتشعب أحكامها وتتفرع. حتى تكاد تطغى على كل مراحل العقد. ولابد على كل من ينظر في نزاع حول آثار عقد أن يتأكد من أنه تكون وفق القانون. إذ لا ينتج العقد آثاره إلا إذا توافرت فيه أركانه وشروطها.
نظم المشرع الجزائري هذه الأركان والشروط في القسم الثاني من الفصل الثاني من الباب الأول. من الكتاب الثاني من القانون المدني تحت عنوان شروط العقد، في 40 مادة، بداية من المادة 59 إلى غاية المادة 98 وبدأ القانون المدني الجزائري بالتراضي ثم المحل ثم السبب، وأشار في المادة 59 منه إلى الشكلية بقوله :
" يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتيهما المتطابقتين دون الإخلال بالنصوص القانونية. أي القواعد التي تنص على عدم كفاية التراضي لتكوين عقد ما، وهو ما يصطلح عليه بالعقد الشكلي.
التراضي :
يعتبر التراضي الركن الأساس في جميع التصرفات القانونية، فلن يصح التصرف إلا إذا توافر فيه هذا الركن. وهو أول ما يتناوله المشرعون والشارحون للقانون عند دراسة أركان العقد وشروطها. ولذلك تجد القانون يسهب في تنظيم جميع تفاصيله، وتجد شراح القانون يطرقون فيه كل زاوية بالتحليل والتمحيص والتنظير.
وتجد القانون يفرض حماية بالغة لهذا الركن فلا يرتب على التصرف القانوني. أي أثر إلا إذا كان التعبير الذي أنشأه صادرا عن إدراك واع وإرادة سليمة، فيكون التصرف باطلا بطلانا مطلقا إذا كان التمييز والإدراك منعدمين. ويكون قابلا للإبطال إذا كانا ناقصين أو إذا صدر التعبير عن غلط أو تدليس أو إكراه.
تنص المادة 26 مكرر 1 من قانون الأوقاف على أنه : " يمكن أن تستغل وتستثمر وتنمى الأملاك الوقفية إذا كانت أرضا زراعية أو شجرا بأحد العقود الآتية :
1- عقد المزارعة : ويقصد به إعطاء الأرض للمزارع للاستغلال. مقابل حصة من المحصول يتفق عليها عند إبرام العقد...".
وتنص المادة 3 من المرسوم التنفيذي رقم 2000 - 200 على أنه :
"... تكلف مديرية الشؤون الدينية والأوقاف في الولاية على الخصوص بما يلي : مراقبة تسيير والسهر على حماية الأملاك الوقفية واستثمارها.....يتضح من هذين النصين أن طرفي عقد المزارعة الذي نصت عليه المادة 26 مكرر 1 المذكورة سابقا هما : المزارع، ومديرية الشؤون الدينية والأوقاف في الولاية.
ولما لم يفصل المشرع الجزائري أحكام المزارعة. فإنه لابد من الرجوع إلى نصوص أخرى متعلقة بالأوقاف، وإلى الأحكام العامة والشريعة الإسلامية.
معرفة شروط طرفي عقد المزارعة :
المزارع :
نصت المادة 26 مكرر 1 المذكورة آنفا على أن تعطى الأرض للمزارع. ولم تبين هذه المادة هل يقتصر الأمر هنا على الشخص الطبيعي، أم يمكن أن يكون المزارع شخصا معنويا، ولم تبين أهليته ولا غيرها من الشروط المتعلقة به.
إذا كان المزارع شخصا معنويا :
إذا كانت المادة 26 مكرر 1 من قانون الأوقاف لم تنص على أن يكون المزارع شخصا معنويا. فإن المادة 8 من المرسوم التنفيذي رقم 14-07 نصت على أنه : "يمكن للشخص المعنوي أن يستفيد من استئجار الأراضي الفلاحية. على أن يكون خاضعا للقانون الجزائري وأن يكون النشاط الذي يمارسه في مجال الفلاحة ".
نلحظ من هذه المادة أن المشرع الجزائري اشترط في الشخص المعنوي. الذي يستأجر أرضا وقفية فلاحية أن يكون خاضعا للقانون الجزائري.
ويكون الشخص الاعتباري خاضعا للقانون الجزائري إذا مارس نشاطا في الجزائر ولو كان أجنبيا. حسب المادة 10 من القانون المدني، وأن يكون النشاط الذي يمارسه هذا الشخص الاعتباري فلاحيا. ويضاف إليها طبعا الشروط الأخرى المتطلبة للحصول على الشخصية المعنوية كالكتابة والشهر والإذن. وغيرها من الشروط التي فصلتها النصوص الخاصة بكل نوع من أنواع الأشخاص المعنوية.
ورغم أن المادة 8 من المرسوم التنفيذي رقم 14-07 متعلقة بعقد إيجار الأراضي الفلاحية الوقفية لا بعقد المزارعة. إلا أنها يمكن أن تنطبق عليه، ذلك أن الكثير من فقهاء الشريعة الإسلامية وقوانين بعض الدول العربية اعتبرت المزارعة عقد إيجار، كما ذكرناه في طبيعة عقد المزارعة. وكما سنأتي على ذكره لاحقا.
إذا كان المزارع شخصا طبيعيا :
تنص المادة 7 من المرسوم التنفيذي رقم 14 – 70 على أنه : "يمكن كل شخص طبيعي أن يترشح لاستئجار الأراضي المذكورة في المادة 4 أعلاه، مع مراعاة ما يأتي :
أن يكون من جنسية جزائرية.
أن يثبت صفة الفلاح.
يمكن المترشح الذي لا يمكنه إثبات صفة الفلاح. أن يقدم شهادة تكوين أو تأهيل في المجال الفلاحي".
يضاف إلى الشروط التي ذكرتها هذه المادة في المزارع شرط الأهلية. وشروط أخرى ذكرها فقهاء الشريعة الإسلامية نلخصها في ما يلي :
يشترط في المزارع عند الحنفية العقل، فلا تصح المزارعة من المجنون ولا الصبي الذي لا يعقل. أماالصبي المميز المأذون من وصيه فإن مزارعته تصح، ولا تشترط فيه الحرية، فتصح المزارعة أيضا من العبد المأذون .
ولما كان عقد المزارعة من العقود الدائرة بين النفع والضرر. فإن المشرع اشترط في من يبرم هذه العقود أهلية التمييز، على أن يكون عقده قابلا للإبطال أو موقوفا على إجازة الولي أو الوصي .
يشترط في المزارع أن لا يكون مرتدا عند الحنفية، لأن تصرفات المرتد موقوفة عنده. فلا تصح للحال، ولا يشترط هذا الشرط عند أبي يوسف ومحمد. يشترط في المزارعة الصيغة. فتصح المزارعة بكل لفظ يدل على المعنى المقصود، كأن يقول له زارعتك على أرضي هذه.
أو دفعت لك أرضي لتزرعها بنصف ثمرها أو نحو ذلك. كما تصح المزارعة بلفظ الإجارة. كأن يقول استأجرتك على أن تعمل في أرضي بنصف الزرع الذي يخرج منها ونحوه، وتصح أيضا بما يدل عليها من قول أو فعل .
أما التعبير في عقد المزارعة وكيفيته في القانون الجزائري. فسنتركه إلى حين الكلام عن الشكلية في عقد المزارعة.
ناظر الوقف :
الطرف الثاني في عقد المزارعة الذي نصت عليه المادة 26 مكرر 1 من قانون الأوقاف. هو مديرية الشؤون الدينية والأوقاف للولاية كما ذكرنا سابقا، والتي ينظم مصالحها. المرسوم التنفيذي رقم 2000-200 المذكور آنفا.
كما نظم المشرع الجزائري مهام ناظر الوقف وصلاحياته وحقوقه وشروط تعيينه وكيفية أداء مهامه. وانتهائها بالمرسوم التنفيذي رقم 98 - 381.
المحل :
يشترط في المحل-كما هو معلوم- أن يكون معينا أو قابلا للتعيين، وأن يكون مما يجوز التعامل فيه، وأن يكون التعامل فيه غير ممتنع بسبب طبيعته أو بنص في القانون. وأن يكون المحل موجودا أو قابلا للوجود.
واشترطت المادة 26 مكرر 1 من قانون الأوقاف أن يرد عقد المزارعة على أرض زراعية موقوفة، كما اشترط فقهاء الشريعة الإسلامية شروطا في المحل نذكر منها : يشترط الحنفية أن يبين المتعاقدان في المزارعة النوع الذي يراد زرعه من قمح أو قطن أو غيره.
إلا إذا أذن صاحب الأرض للمزارع أن يزرعها بما شاء، على أن لا يغرس فيها شجرا لأن المزارعة خاصة بالنبات، ويشترط أن يكون البذر على المالك إن لم يحددا نوعه، وإلا فسدت المزارعة. وتصح في هذه الحالة وإن كان البذر على العامل بعد تمكنه من البذر ورضا المالك بذلك لأنه صاحب المصلحة، كما تصح المزارعة إن كان البذر على العامل متى حددا جنسه.
كما يشترطون أن تكون الأرض صالحة للزراعة.
أن تكون معلومة (وهو التعيين أو القابلية للتعيين في القانون). وأن يكون المعقود عليه من الأعمال الزراعية عرفا وشرعا، وتفسد المزارعة إذا لم يكن العمل من أعمال الزراعة كقطع الأحجار ونقلها ورصفها وغير ذلك. وأن تكون آلات الزراعة تابعا في العقد لا مقصودا وإلا فسدت المزارعة
يشترط المالكية أن لا يكون المقابل مما تخرجه الأرض-وأجازها بعضهم-إلا ما استثني من الخشب ونحوه، وأن لا يكون المقابل طعاما وإن لم تخرجه الأرض كالعسل، ويشترط أن تكون الزريعة من صاحب الأرض والعامل معا، ويشترط بعضهم أن تخلط الزريعة معا حقيقة أو حكما ، ولا يشترط فريق آخر خلطها، ويشترط بعضهم أن تكون زريعة الطرفين من جنس واحد.
أما الشافعية فاشترطوا في المزارعة التي تصح تبعا للمساقاة أن لا يكون المقابل مما تخرجه جهة معينة من الأرض المراد زراعتها. واشترطوا أن يكون البذر من المالك، وهو ظاهر مذهب الحنابلة، الذين اشترطوا أيضا تعيين جنس البذر وقدره .
الشكلية :
العقد الشكلي هو الذي لا يكفي لانعقاده مجرد تراضي المتعاقدين، بل لابد لإتمامه من اتباع شكل محدد يبينه القانون أو يتفق عليه المتعاقدان، فتكون الشكلية في الحالتين ركنا في العقد، وقد يشترط المتعاقدان أن تكون الشكلية للإثبات فحسب، ولقاضي الموضوع السلطة التقديرية في تحديد ما إذا كان شرط الشكلية في العقد للإثبات أو للانعقاد، وإذا كان هنالك شك حول ما إذا كانت الشكلية متطلبة لانعقاد العقد أو لإثباته فقط، فإنه يفسر على أن الشكلية المشترطة للإثبات فقط لأن الأصل في العقود الرضائية، لا فرق في ذلك بين الشكلية الاتفاقية والتي يفرضها القانون.
وعلى خلاف ذلك يرى الدكتور عبد الرزاق السنهوري أن الشك إذا كان حاصلا في نص القانون، الذي لم يمكن أن يتبين من صياغته إن كانت الكتابة متطلبة للإثبات أم للانعقاد فإنها تحمل على المعنى الأخير. ولا يجوز هنا القول أن الأصل في العقد أن يكون رضائيا، ذلك أن هذا يصدق على المتعاقدين لا على المشرع، الذي له السلطة الكاملة في أن يفرض الشكل الذي يريده للتصرف، ومتى فعل ذلك ولم يقم دليل على أن هذا الشكل مقرر للإثبات فيفترض أنه قرر لانعقاد العقد.
رغم أن المشرع الجزائري لم يفصل أحكام عقد المزارعة، ومع ذلك نص في المادة 45 من قانون الأوقاف على أن : " تستغل وتستثمر الأملاك الوقفية، وفقا لإرادة الواقف وطبقا لمقاصد الشريعة الإسلامية في مجال الأوقاف، حسب الكيفيات التي حددها هذا القانون، والأحكام القانونية غير المخالفة له ".
فكثير من فقهاء الشريعة الإسلامية اعتبروا المزارعة عقد إجارة، ومنهم من غلب هذا العقد كما فعل فريق من المالكية، وهذا الذي أخذت به الكثير من قوانين الدول العربية مثل المادة 807 من القانون المدني العراقي، والمادة 620 من القانون المدني المصري، والمادة 587 من القانون المدني السوري، والمادة 649 من القانون المدني القطري، والمادة 627 من القانون المدني الكويتي .
والمشرع الجزائري نظم كيفية إبرام عقد إيجار الأراضي الفلاحية الوقفية بشيء من التفصيل أكثر مما فعل في المزارعة.
فنصت المادة 13 من المرسوم التنفيذي رقم 14-07 على أن : "يكون تأجير الأراضي الوقفية الفلاحية في إطار هذا المرسوم، إما عن طريق المزاد العلني أو بالتراضي ".
كما نصت المادة 22 من المرسوم التنفيذي رقم 98 - 381 على أن :
" يؤجر الملك الوقفي، في إطار أحكام المادة 42 من القانون 91 -10 المؤرخ في 27 أبريل 1991 والمذكورة أعلاه، سواء كانت بناء أو أرض بياض أو أرضا زراعية أو مشجرة عن طريق المزاد، ويحدد السعر الأدنى بإيجار المثل وعن طريق الخبرة بعد المعاينة واستطلاع رأي المصالح المختصة بإدارة أملاك الدولة أو الجهات الأخرى المختصة ".
وتختص السلطة المكلفة بإدارة الأوقاف بتنظيم إجراءات تأجير الأراضي الوقفية الفلاحية عن طريق المزاد العلني، وفقا لدفتر شروط نموذجي يحدد الشروط المطبقة على إيجار الأراضي الوقفية المخصصة للفلاحة عن طريق المزاد العلني، بعد أن تكون الجهة المختصة حددت القيمة الدنيا للأجرة التي لا تقل عن أجرة المثل، وفق الأسعار السائدة في السوق العقارية، بعد أخذ رأي مصالح إدارة أملاك الدولة، وبعد رسو المزاد يبرم عقد الإيجار وفق نموذج خاص، ويرفق بدفتر شروط نموذجي يحدد حقوق وواجبات المستأجر، وإن فشل المزاد بعد عمليتين أثبتنا عدم الجدوى، يمكن لوزير الشؤون الدينية والأوقاف منح الترخيص لتأجير الأراضي الوقفية الفلاحية بالتراضي .
يكون عقد الإيجار مكتوبا في شكل نموذجي تعده السلطة المكلفة بالأوقاف، ويخضع للإشهار العقاري إن كانت مدة الإيجار 12 سنة أو أكثر حسب المادة 9 من المرسوم التنفيذي رقم 14- 70.
الطبيعة القانونية لعقد المزارعة :
تباينت آراء فقهاء المذاهب الأربعة رحمهم الله جميعا في طبيعة عقد المزارعة، وبأي عقد من العقود المسماة يمكن إلحاق أحكامها، ولم يتفقوا في ذلك على رأي واحدة.فمنهم من اعتبرها شركة أشخاص، ومنهم من اعتبرها عقد إيجار، ومنهم من اعتبرها تجمع أحكام العقدين معا، ومنهم من طبق عليها أحكام المضاربة.
المزارعة عقد شركة :
المزارعة عقد شركة في الخارج، فتصح كالمضاربة وتحقيقه من وجهين :
أحدهما : أن الربح هناك يحصل بالمال والعمل جميعا فتنعقد الشركة بينهما في الربح بمال من أحد الجانبين، وعمل من الجانب الآخر وهما باعتبار عمل من أحد الجانبين وبذر وأرض.
من الجانب الآخر : وبما أن أصحاب هذا الرأي يرون أن المزارعة عقد شركة، فإنهم يلحقون كثيرا من أحكام المزارعة بأحكام الشركات، ويقيسون عليها كثيرا من فروعها.
المزارعة عقد إجارة ابتداء وعقد شركة انتهاء :
المقصود من المزارعة إنما هي الشركة في الخارج، لأن المزارعة وإن انعقدت ابتداء إجارة إلا أنها تنعقد شركة انتهاء، أي حين حصول المحصول، حتى إن الشرط الذي يقطع الشركة يفسد المزارعة.
وهنا نجد أن أصحاب هذا الرأي يتعاملون مع عقد المزارعة في مبتدئها على أنها عقد إيجار. ويلحقونها بهذا العقد في جميع فروعها، ثم يتعاملون معها على أنها من جنس الشركات ويطبقون عليها أحكامها عند الانتهاء.
المزارعة عقد إجارة وشركة في نفس الوقت :
المزارعة دائرة بين الشركة والإجارة، فلهذا اختلف في لزومها بالعقد، فقيل تلزم به تغليبا للإجارة وهو قول سحنون وابن الماجشون وقول ابن كنانة وابن القاسم في كتاب ابن سحنون، وقيل لا تلزم تغليبا للشركة، ولكل واحد أن ينفصل عن صاحبه ما لم يبذر.ابن رشد: وهو معنى قول ابن القاسم في المدونة ونص رواية أصبغ . عنه في العتبية.
وقيل : لا تلزم إلا بالشروع في العمل، وهو قول ابن كنانة في المبسوط و به جرت الفتوى بقرطبة، وهو على قياس رواية ابن زياد عن مالك أن الجاعل يلزمه الجعل بشروع المجعول له في العمل.نرى هذا الفريق جعل المزارعة عقد شركة وعقد إجارة في آن واحد منذ بدايتها، لا فضل لأحد العقدين على الآخر، وعندما تعذر عليهم إيجاد مخرج واضح تتحدد به معالم المزارعة انقسموا إلى فريقين كما ذكرنا آنفا.
المزارعة من المضاربة :
لما سئل أبو يوسف في اختلاف الناس في أنواع المزارعة قال : أحسن ما سمعناه في كل ذلك والله أعلم أن ذلك كله جائز مستقيم صحيح، وهو عندي بمنزلة مال المضاربة قد يدفع الرجل إلى الرجل المال مضاربة بالنصف والثلث فيجوز، وهذا مجهول لا يعلم ما مبلغ ربحه ليس فيه اختلاف بين العلماء فيما علمت وكذلك الأرض عندي هي بمنزلة المضاربة: الأرض البيضاء منها والنخل والشجر سواء.
وعن ابن عون قال : كان محمد ابن سيرين يقول : " الأرض عندي مثل مال المضاربة، فما صلح في مال المضاربة صلح في الأرض، وما لم يصلح في مال المضاربة لم يصلح في الأرض". وأصل المضاربة في السنة المزارعة والمساقاة فكيف يجوز أن يصح الفرع ويبطل الأصل.
والمضاربة نوع شركة على أن يكون رأس المال من طرف والسعي والعمل. من الطرف الآخر ويدعى صاحب المال رب المال والعامل مضاربا.
إنتهاء عقد المزارعة :
عقد المزارعة كغيره من العقود لابد له أن ينتهي بسبب من الأسباب التي تنقضي بها العقود عامة، سواء نص على هذه الأسباب القانون، أو اتفاق الأطراف المتعاقدة، ذلك أن تأبيد العقود من الأمور التي تتعارض مع مبدأ سلطان الإرادة، ولأن تأبيد العلاقة القانونية يقيد حرية الأشخاص في مجال إبرام العقود، كما قد يتعارض تأبيد العقد مع حرية المنافسة خاصة في العقود التجارية التي تحتوي شروطا مقيدة للمنافسة.
وعلى ذلك كان لابد من انتهاء عقد المزارعة، سواء كان ذلك باتفاق الطرفين على هذا الإنهاء، وهو ما يسمى بالتقايل والذي جاء في معنى المادة 106 من القانون المدني الجزائري التي نصت على عدم جواز إنهاء العقد إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقرها القانون، ومن الأسباب التي يقرها القانون لإنهاء العقد إخلال أحد الطرفين بالتزامه في العقود الملزمة للجانبين، أو صيرورة تنفيذ التزامات أحد الطرفين مستحيلا.
إنتهاء عقد المزارعة بانقضاء الأجل :
لم يحدد المشرع الجزائري مدة لعقد المزارعة في المادة 26 مكرر 1 من قانون الأوقاف التي اكتفى فيها المشرع بتعريف عقد المزارعة، غير أنه ذكر في المادة 6 من المرسوم التنفيذي رقم 14-70 أن تؤجر الأراضي الوقفية الفلاحية لمدة تحدد حسب طبيعة الاستغلال الفلاحي، كما أكدت على هذا المادة 27 من المرسوم التنفيذي رقم 98-381، كما نصت على عدم جواز تأجير الملك الوقفي لمدة غير محددة، غير أنها أجازت تجديد العقد قبل انتهاء مدته، ويستنتج من المادة 9 من المرسوم التنفيذي رقم 14-70 أن مدة الإيجار يمكن أن تفوق 12 سنة، ويمكن أن يصل الإيجار إلى 40 سنة قابلة للتجديد حسب المادة 26 من نفس المرسوم إن تعلق العقد بالأملاك الوقفية الفلاحية المسترجعة من الدولة.
وإشترط الحنفية لصحة المزارعة تحديد المدة، لأن الإجارة عندهم لا تصح مع جهالة المدة، ويجب أن لا تقل عن المدة اللازمة ليتمكن العامل من الزرع وجني المحصول، ولا تزيد عن المدة التي لا يعيش إليها أحد العاقدين، وإن لم تحدد المدة تعتبر واقفة على إتمام أول زرع واحد.
إنقضاء عقد المزارعة بوفاة المزارع :
تنص المادة 29 من المرسوم التنفيذي 98 -381 على أن : " يفسخ عقد الإيجار إن توفي المستأجر، ويعاد تحريره وجوبا لصالح الورثة الشرعيين للمستأجر للمدة المتبقية من العقد الأولي مع مراعاة مضمونه ".
غير أنه إن مات المزارع بعد الزرع وقبل جنيه. فإن ورثته يظلون ملتزمين بالعمل ويبقى العقد بالضرورة استحسانا لانتهاء الزرع ونضوجه، ثم ينقضي العقد فيما بقي من السنين لعدم الضرورة.
إنتهاء عقد المزارعة بالفسخ والانفساخ :
يفسخ عقد المزارعة في أي وقت باتفاق الطرفين، ويفسخ بإرادة الإدارة إذا أخل المزارع بأحد التزاماته، كما ينفسخ العقد بقوة القانون إذا استحال على المزارع استغلال الأرض لمرض أصابه أو إعسار أو إفلاس، أو بسبب حل الشخص المعنوي الذي يستغل الأرض الزراعية، أو بسبب هلاك أصاب الأرض محل العقد بسبب تصحر أو فيضان نهر عليها، أو انهيار أجزاء كبيرة منها بفعل زلزال أو غيرها من الأسباب التي تحول دون إمكان استغلال الأرض.
ويرى الحنابلة أن لكل طرف في عقد المزارعة التراجع عنه. لأنه غير لازم في حقهم جميعا. سواء شرع في العمل أو لم يشرع فيه، وسواء ألقي البذر في الأرض أو لم يلق.
ويرى المالكية أنه لا يجوز لأحد الطرفين الرجوع في العقد إن شرع في العمل أو ألقي البذر في الأرض، ويرى فريق غير راجح من الحنابلة أن المزارع يملك حق فسخ العقد بإرادته دون مالك الأرض، ويرى الحنفية دون إمامهم أن للطرف الذي قدم الزرع أن يفسخ عقد المزارعة.
إستنتاج :
اكتفى المشرع الجزائري في قانون الأوقاف بتعريف عقد المزارعة، دون ذكر ما بقي من أحكامها، وكان من اللازم أن تفصل أحكام هذا العقد، أو يشار إلى تطبيق أحكام عقد معين عليه، كعقد الإيجار أو عقد الشركة، كما ذهب إلى ذلك الفقهاء ونصوص بعض التشريعات العربية التي ذكرناها في هذا البحث.
وتكون الحاجة إلى مزيد من تفصيل أحكام عقد المزارعة في التشريع الجزائري. لما اطلعنا عليه في هذا البحث وغيره من البحوث ذات الصلة من وجود اختلاف واضح بين المذاهب الفقهية في تناولهم عقد المزارعة. بل امتد الخلاف إلى المذهب الواحد كما رأينا سابقا.
وعلمنا أن الخلاف وصل إلى حد أن أجاز بعض الفقهاء الزراعة وحرمها بعضهم. واستند كل فريق منهم لأحاديث صحيح أو إلى عمل الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين رحمهم الله أجمعين، وإلى أدلة عقلية أخرى، كمنع الغرر في العقود، وتجنب جهالة الأجر في العقد، ورد كل فريق على أدلة الآخر.
امتد الخلاف كما رأينا إلى تكييف هذا العقد، فمنهم من يرى أنه عقد شركة، ومنهم من يرى أنه عقد إيجار، ومنهم من يرى أنه يجمع العقدين معا، على أن تغلب أحكام عقد على أحكام الآخر، ومنهم من اعتبرها عقد إيجار ابتداءا، عقد شركة انتهاءا .
ولا شك أن الاختلاف في تكييف عقد المزارعة يؤدي إلى اختلاف الأحكام المطبقة عليه، ومن ذلك الاختلاف في من له الحق في فسخ العقد على من تكون آلات الزراعة، وعلى من يكون الزرع، وكيف يكون المقابل.
ثم تجد أن الفريق الذي أجاز المزارعة، أو أجاز بعض صورها اشترط لها شروطا صارمة منعا لأكل أموال الناس بالباطل، ومنعا للغرر، وغيرها مما لا يجوز في المعاملات المالية بين الأشخاص، لذا وجب أن تحدد نصوص القانون المتعلقة بعقد المزارعة شروطه وآثاره حتى لا يقع المتعاقدان في المحظور عن جهالة.
تكون الحاجة إلى تفصيل أحكام عقد المزارعة أكثر إلحاحا إذا علمت أن ذلك يدفع المنازعة، فاشتراط تحديد الأرض ومدى خصوبة تربتها، وتعيين جنس المحصول الزراعي الذي يراد ،زرعه وتحديد الطرف الذي يقع عليه عبء توفير آلات الزراعة وتكاليف الكهرباء والغاز والماء، كل ذلك يؤدي إلى أن يتخذ الطرفان قرارهما بإبرام عقد المزارعة عن بينة، فمن الأراضي ما تحتاج إلى جهد أكبر من غيرها، مما يجعل المزارع لا يقبل خدمتها إلى بمقابل أكبر من غيرها، ومن المحاصيل الزراعية ما تكون مردوديته قليلة أو ثمنه رخيص، والجهد الذي يبذله العامل في إنتاجه أكبر ، فتحديد جنس البذر يجعل المزارع يتخذ قراره بإبرام العقد من عدمه، وإن هو أبرمه يكون قد راعى كل هذه الأمور.
كما يجب أن يحدد المتعاقدان نسبة كل واحد منهما في الربح، حتى لا يتنازع الطرفان بعد انتهاء الزرع وجني المحصول، وأن لا يكون المقابل مما تخرجه الأرض، أو على الأقل أن لا يكون المقابل مما تخرجه جهة معينة من الأرض المزروعة، وهذا الأمر الأخير لا خلاف فيه بين الفقهاء تجنبا للغرر، ثم أن تحديد نصيب كل واحد من الطرفين يسهل معرفة مقدار الزكاة الواقع على كل منهما، وهي ركن لا بد من آدائه، حارب أبو بكر الصديق رضي الله عنه تاركه.
المراجع :
أولا : القوانين :
1- قانون الاوقاف الجزائري 91-10 المعدل و المتمم بالقانون رقم 01-07 و القانون رقم 02-10.
2- الأمر رقم 75-58 المؤرخ في 20 رمضان عام 1395 الموافق 26 سبتمبر سنة 1975. المتضمن القانون المدني المعدل و المتمم.
ثانيا : المؤلفات :
1- عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، الجزء الثالث. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 2003.
2- مسلم الطاهر، عقد المزارعة لتنمية واستثمار الأراضي الزراعية الوقفية في الجزائر. جامعة مصطفى اسطمبولي ولاية معسكر 2022.
3- شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي. مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، الجزء السابع، دار عالم الكتب، لبنان، 2003.
4- عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء 1 مصادر الالتزام. دار إحياء التراث العربي، لبنان، دون سنة نشر 2003.
5- فراس بحر محمود، أثر الزمان والمكان في تحديد لحظة انعقاد. العقود الشكلية في الفقه الإسلامي والقانون، مجلة العلوم القانونية والسياسية، جامعة ديالي، المجلد 3، العدد 1، 2014.