الإقتصاد السياسي للرأسمالية المعلوماتية فهم أعمق للرأسمالية المعولماتية
علي غير توقع مني اهتم عديد من القراء بمقالتـي السابقة عن ناعومي كلاين ونقد المجتمع الاستهلاكي. قلت في نفسي ربما يرد ذلك الي شخصية ناعومي المثيرة للجدل, باعتبارها ليست فقط صحفية لامعة تكتب تقاريرها الصحفية الساخنة من مواقع الأحداث الملتهبة في العراق وأفغانستان, ولكنها أيضا من أبرز الناشطات في الحركة المضادة للعولمة, خصوصا أن كتابهاN0Logo الذي أشرنا إلي محتواه بإيجاز يعتبر المانيفستو الثوري لتجاوز الرأسمالية المتوحشة الراهنة, وخلق عولمة أكثر انسانية. غير أنني بعد تأمل أرجعت اهتمام القراء الي أنني أشرت ـ وإن كان بشكل موجز ـ الي بعض المؤشرات التي يمكن أن تساعد علي فهم أعمق للرأسمالية المعولماتية.
والواقع أن نقطة البداية في هذا الفهم هي الانطلاق من رسم خريطة معرفية للمجتمع العالمي. وقد اهتممت بهذا الموضوع منذ عقود لأنني أدركت مبكرا أن سقوط النظام الدولي القديم, والذي كان مؤشرا عليه انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء عصر الحرب الباردة والتحول من النظام الثنائي القطبية الي النظام الأحادي القطبية, قد صحبه انهيار مماثل في النماذج القديمة في السياسة والاقتصاد والثقافة. ودخلنا في مرحلة أزمة النموذج, بمعني مرحلة انتقالية بين نموذج قديم قد هوي, ونموذج جديد لم يبزغ بعد.
وقد لاحظت من قراءاتي أن مفهوم رسم الخرائطMapping أصبح من المفاهيم الذائعة في العلم الاجتماعي المعاصر, فهناك خرائط معرفية وخرائط مفاهيمية وخرائط إدراكية وأيا ما كان الأمر فإنه من واقع الخريطة المعرفية التي رسمتها للمجتمع العالمي المعاصر( وستظهر أبحاثها في كتاب قريبا بعنوان الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي) فإن أبرز ملامحها هو الانتقال من المجتمع الصناعي الي مجتمع المعلومات الأولي. في المجتمع الأول كان المفهوم المحوري هو السوق, حيث يتم تبادل السلع المصنعة, وفي المجتمع المعلوماتي فإن المفهوم المحوري هو الفضاء المعلوماتيCyberSpace.
هذا التحول الكيفي العميق في بنية المجتمع العالمي, له أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية. ولكن أهم هذه الأبعاد قاطبة هو تغيره من طبيعة الرأسمالية التقليدية التي كانت تركز علي إنتاج السلع من خلال عمليات تصنيع ثقيلة وخفيفة, الي الرأسمالية المعلوماتية التي تركز الآن علي إنتاج العلامات والصور, مستفيدة من الثورة الاتصالية الكبري, وعلي رأسها شبكة الإنترنت.
والسؤال هنا: ما علاقة ما سبق بموضوعنا الأصلي ؟
تتمثل العلاقة في قانون جديد تطبقه الرأسمالية المعلوماتية والذي يمكن تلخيصه في عبارة واحدة هي من إنتاج السلع إلي خلق الصور وترويج العلامات التجارية.
وهذا القانون يعني أن الرأسمالية التقليدية التي كانت تركز علي تصنيع السلع وإنتاجها, تحولت ابتداء من الثمانينيات لتصبح مهمتها الرئيسية خلق صور المنتجات, وابتداع الماركات التجارية الجذابة, التي تغري الملايين بشراء منتجاتها.
ولكن ماذا عن التصنيع وعن المصانع ؟ لقد تخفقت الشركات الكبري من هذه المصانع المثقلة بالمشكلات, وأهمها دفع رواتب وأجور عالية للمهندسين والعمال والمديرين, ونقل عملية إنتاجها بالكامل إلي بلاد العالم الثالث, حيث العمالة الرخيصة, علي أساس أن تباع المنتجات باسم العلامة الشهيرة مثل نايك أو أديداس مع عدم احترام مواصفات الجودة التقليدية, بل مع تعمد أن يكون عمر المنتج قصيرا, حتي يضطر الشخص الي شراء منتج جديد من نفس الماركة علي فترات زمنية قصيرة, وهكذا تتضخم أرباح الشركات دولية النشاط, بعد أن تخلصت من أثقال التصنيع التقليدي.
وهكذا تفرغت هذه الشركات العملاقة لا للتصنيع ولكن للتسويق وترويج علاماتها التجارية الشهيرة عبر البحار, وهكذا تظهر هذه الشركات وكأنها لا تبيع السلع ولكنها تبيع صور علاماتها التجارية.
وقد كان من رواد هذه الشركات الجديدة شركات نايك وميكروسوفت وانتل وتقوم هذه الشركات علي أساس مبدأ رئيسي هو تشغيل أقل عدد من العمال مع إنتاج أقوي الصور والعلامات!
والذي يساعد هذه الشركات الرأسمالية الجديدة علي التخلص من عبء العمالة الكثيفة, التطورات التكنولوجية الكبري التي جعلت عملية الإنتاج تتم بشكل آلي, وبعدد محدود من العمال, ولذلك تقوم اليابان حاليا بدور الرائد في مجال إنتاج( الروبوت) الإنسان الآلي الذي سيحل محل عشرات العمال في مصانع المستقبل.
ومن ناحية أخري تساعد هذه الشركات في عملية خلق صور الثورة الاتصالية وفي قلبها شبكة الإنترنت.
وقد أتيح لي أن أتابع مؤخرا الأبحاث الأخيرة في علم النفس المعرفي, حيث حدث تقدم أساسي في البحوث التي جرت علي مخ الإنسان وتحديد الخريطة المعرفية له, لمعرفة كيف يمكن النفاذ الي مناطق الإحساس والإدراك, بما يتفق مع أهداف واستراتيجيات الرأسمالية المعلوماتية في تصخيم أرباجها.
وقد قرأت في تقريرعلمي أخير أنه أصبحت هناك إمكانية عملية لإرسال الرسالة الإعلانية من خلال مشاهدة التليفزيون أو علي شبكة الإنترنت لكي تنفذ مباشرة الي منطقة خاصة في المخ, وتعمل الرسالة علي تشكيل لا وعي الإنسان لتحثه علي شراء سلع من ماركات معينة, ويتم ذلك عن طريق الإلحاح في بث هذه الرسائل الإعلانية. وهكذا يمكن القول أن ناعومي كلاين هذه الصحفية النابهة والناشطة الفعالة في الحركة المضادة للعولمة, قد استطاعت بنجاح باهر أن تفتح لنا آفاق فهم الرأسمالية المعلوماتية التي حلت محل الرأسمالية التقليدية, وذلك من خلال كتابها لا للعلامات التجاريةNoLogo, وأهم منه كتابها الأخير مذهب الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث.
بقلم السيد يسين