أما المجلس الأعلى، فأسندت له عن طريق غرفته الإدارية، صلاحية النظر في الطعون المرفوعة ضد القرارات التنظيمية أو الفردية الصادرة من السلطة الإدارية كقاضي درجة أولى وأخيرة، بالإلغاء، أو التفسير ، أو فحص المشروعية، أو التعويض، إذا كان مرتبطا بدعوى إلغاء، إلى جانب اختصاصه بالفصل في الاستئنافات المرفوعة ضد القرارات الصادرة من الغرف الإدارية.
ومواكبة للتطور الإداري الذي عرفته البلاد، وبهدف تقريب العدالة من المتقاضين، ونظرا للصعوبة التي أثارها العدد الهائل من الدعاوى التي كانت توجه إلى الغرف الإدارية الثلاث، ارتأى المشرع الجزائري رفع عدد الغرف الإدارية إلى عشرين.
وكانت لصدور دستور 1989 آثار كبيرة، سواء على الجانب السياسي أو الاقتصادي، إلى جانب الانفتاح نحو الرأسمالية والعزوف عن الاشتراكية، التي كانت منهجا إيديولوجيا متبعا منذ الاستقلال كما كانت له آثار على الجانب القانوني، فصدرت مجموعة من القوانين لسد الفراغات التي طرأت عند التحول من النظام المنتهج.
إذ لم يقتصر تدخل المشرع عند مجال معين، بل شمل كل الميادين تقريبا وخص كل واحد منها بثورة التغيير القانوني ومن أخصب المجالات التي مسها التغيير، نذكر المادة السابعة من قانون الإجراءات المدنية التي خضعت للمراجعة في سنة 1990، وحين ذاك تم إنشاء خمس غرف إدارية تتولى صلاحية الفصل في الطعون بالإلغاء، والتفسير، وفحص المشروعية ضد القرارات الإدارية الصادرة عن الولايات.
وكنتيجة لذلك، يمكن القول أن المنازعات الإدارية في ظل تعديل قانون الإجراءات المدنية لسنة 1990 أصبحت تخضع لثلاثة أنواع من الجهات القضائية هي : الغرف الإدارية لدى المجالس القضائية، والغرف الإدارية الجهوية والغرفة الإدارية بالمحكمة العليا.
ونظرا لما ظهر به مظهر النظام القضائي الذي كانت تنتهجه الدولة الجزائرية من عدم الوضوح في الوسائل المستعملة والإجراءات المطبقة، والهياكل المختصة في معالجة القضايا سواء كانت عادية أو إدارية، الأمر الذي ولد نوعا من الغموض حول فهم طبيعة النظام القضائي في الجزائر، الشيء الذي كان بمثابة الدافع والمشجع للمشرع الجزائري بإزالة التنظيم القضائي الموحد وإحلال محله النظام القضائي المزدوج، بإنشاء مجلس الدولة كهيئة مقومة لأعمال الجهات القضائية الإدارية، والمحاكم الإدارية كجهات قضائية للقانون العام في المادة الإدارية ولجوء المشرع الجزائري إلى تجسيد هذه العملية، هو بمثابة تقليد للنموذج الفرنسي، الذي ينتهج الازدواجية القانونية والقضائية منذ الثورة الفرنسية.
ولما كانت سنة 1996 بمثابة السنة التي شهد فيها النظام القضائي في الجزائر، نوعا من الثورة الداخلية التي أدت به إلى الانقسام إلى شطرين هما القضاء العادي، والقضاء الإداري، بعدما كانت فترة الاستقلال الممتدة من 1965 إلى 1996 تتميز بالقضاء الموحد، لاحتواء القضاء العادي على الغرف الإدارية. ومن جانب الإجراءات، كان قانون الإجراءات المدنية هو السائد والمطبق أمام الغرف الإدارية، كهيئات فاصلة في النزاعات الإدارية.
هذه النزاعات التي ما فتئت تزداد تولدا في ظل ما عرفته الدولة الحديثة، من تطور كبير في كل مجالاتها، والذي واكبه تطورا إداريا هائلا قامت به الدولة قصد التمكن من تحقيق متطلبات الصالح العام. فتم إنشاء المرافق والمؤسسات العامة المختلفة الكبيرة منها والصغيرة، وتم ربطها بقوانين تنظيمية تختلف باختلاف طبيعة المرفق المنشأ، فيتم ترتيب المرفق بالاستناد إلى نوع النشاط الذي يوكل إليه قصد إدارته والتصرف فيه.
فإن كان طابعه اقتصاديا، أو تجاريا، أو غيره، فينظم بقانون خاص، ويخضع في نزاعه للقضاء العادي، أما إذا كان طابعه إداريا، فينظم بقانون إداري و يخضع لاختصاص القضاء الإداري.
إلا أن إقرار الازدواجية لأول مرة في الجزائر ، يطرح صعوبات مختلفة على مستوى فهم مضامين وأبعاد الممارسة القضائية الإدارية بشكلها الجديد، بالمقارنة مع ما كانت عليه في ظل الوحدة القضائية.
يظهر ذلك على صعيد تطبيق الإجراءات المتبعة في المنازعات الإدارية واختلاط إجراءاتها بإجراءات القضاء العادي، الذي تغلب عليه القواعد الخاصة، ورغم ذلك يعتمد عليه كأساس في بناء استقلال القضاء الإداري.
فكيف يمكن أن يتحقق ذلك ؟
وهكذا، فعملية الانتقال من الوحدة القضائية، إلى نهج الازدواجية القضائية، لا محالة سيعرقل سير عمل النشاط القضائي، بصورة عامة، وسيكون تدخل المشرع المستمر ،خصوصا معرقلا أكثر، بإصداره للقواعد المتتالية قصد تنظيم وإعطاء استقلالية للهيكل الجديد. ولا سيما البطء في عملية التطبيق، نظرا لنقص الخبرة في الميدان وعدم الجدية في التسيير، ومن هذا الجانب يأتي هذا البحث للمساهمة بقدر الإمكان في إبراز الجهات القضائية الإدارية في تطبيق قانون الإنشاء، والدعاوى التي يمكن أن تختص بها سواء على مستوى الدرجة الأولى، أو الدرجة الثانية، وكذا القانون والإجراءات المطبقة في ذلك.
إذا كان القضاء الإداري، هو الجهاز الذي تنشئه الإدارة المركزية، للقيام بتليين العلاقة بين الأجهزة الإدارية، والأشخاص العادية، وبين الأجهزة الإدارية ذاتها، فإنه يعتبر جهازا سلطويا، تحتكر الدولة سلطة تنظيمه وإدارته، قصد التمكن من بسط تحكمها في فئة الشعب المرتبطين بمبدأ العقد الاجتماعي المفترض، والخاضعين إلى سلطة الإدارة التي نشأت من علاقات فردية أو جماعية، وثارت بشأنها نزاعات.
فيفترض في دولة القانون أن تكون أجهزتها الإدارية المركزية قد هيئت القواعد القانونية المتاحة، لتمكين الجهاز القضائي الإداري من معالجة تلك العلاقات التي شابتها خلافات، ما نحا الفرص القانونية متساوية للتقاضي بمثل التي يوفرها القضاء العادي للمتقاضين أمامه.
لما كان إنشاء القضاء الإداري يعتبر محاولة لإيجاد نوع من الاستقلال لجانب تنظيمه الهيكلي، والتفرد بتطبيق القانون الإداري، استنادا إلى قانون الإجراءات الإدارية، ليقوم بالفصل في النزاعات التي تكون الإدارة طرفا فيها.
على هذا الأساس لا يسعنا إلا القول أن القضاء الإداري القائم بذاته في ظل الازدواجية لا يعتبر سوى أداة من أدوات الإدارة العامة المركزية، التداخلية التي أرادت به الإبقاء على هيمنتها المستمرة على جهاز القضاء، يظهر ذلك في عدم قبولها الخضوع للقضاء الموحد كجهاز يتضمن أدوات لمراقبتها بصورة كاملة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو نوع من عدم الاعتراف باستقلالية الجهاز القضائي، لأن الإدارة تدخلت فيه، وأفردت جانبا منه للقيام بالفصل في نزاعاتها على حساب المتقاضي معها، الذي ما كان ليفقد مجموعة من حقوقه لو افترض أن التقاضي كان أمام الجهاز القضائي العادي.
إلا أنه في المقابل، يمكن القول أن تخصيص الإدارة بقضاء خاص، يعتبر دليلا على تنازل الإدارة عن جزء من مكانتها بإخضاع نفسها إلى جهة قضائية معينة، مستقلة في تنظيمها الهيكلي صاحبة اختصاص بتطبيق القانون الإداري عليها فقط، والذي يتميز في بعض قواعده بخصوصياته الاستثنائية غير المألوفة في قواعد القانون العادي.
وهو الأمر الذي يؤدي بنا إلى التساؤل عن القضاء الإداري المنشأ حديثا، إذا ما خص باختصاصات جديدة مغايرة للتي كانت مخولة له في ظل القضاء الموحد ؟.
أم أن الحال بقي على ما كان عليه في ظل الغرف الإدارية التي كانت تراقب الإدارة العامة قضائيا ؟ وما هي الطرق المتبعة من قبل القضاء الإداري في ممارسة أنواع الاختصاصات المخولة له قصد حل المنازعات المعروضة عليه ؟.
بالعودة إلى الحركية التي عرفها القضاء الإداري في ظل النظام القضائي الموحد، يلاحظ عليها أنها أُنشئت من أجل إيجاد نوع من التوافق بين المصالح المتناقضة للمتخاصمين في النزاع الإداري، الذي يختص به القضاء الإداري بالاستناد إلى تطبيق قواعد قانونية وإجرائية من قبل جهاز موحد.
خاتمة
أصبح القضاء الإداري في الجزائر جزءا ثانيا من النظام القضائي الذي كان موحدا، وتعرض للانقسام، ليصبح مكونا لهيئتين قضائيتين، في ظل ما يسمى بالازدواجية القضائية، الذي يفسر من قبل القائمين عليه، على أنه يدخل في إطار سياسة إصلاح العدالة، وتنظيم السلطة القضائية، للتقرب قدر الإمكان من مستوى تحقيق العدالة، والديمقراطية، كعنصرين لقيام دولة القانون.
ومن تفحصنا للجوانب المهمة في الموضوع، تبين لنا أن اختصاص القضاء الإداري في ظل الازدواجية القضائية، لا زال يراوح فما كان عليه زمان نزاع الإدارة في ظل الوحدوية القضائية.
فاختصاص القضاء الإداري مرتبط بأفكار وتوجهات المشرع الجزائري غير المستقرة.
فمنذ الاستقلال وهو يتردد في اتخاذ مسار معين يستقر عليه، ويحدد به القاعدة القانونية التي تنظم المرافق العامة للدولة، ومنها مرفق القضاء.
وفي فترة 1965 وحتى 1996 انساق مع النظام الاشتراكي في توجهاته السياسية التي حاول تطبيقها على الأشخاص الإدارية العامة كأساس عضوي لاختصاص القضاء الإداري، إلا أن قواعد تنظيم وتسيير هذه الأشخاص ، تصادمت مع واقع المذهب الفكري للمسيرين الإداريين المتشبع بفكر التسيير الإداري للنظام الحر، الذي كان سائدا أثناء الاحتلال، وبقي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مغروسا في نظر المؤطرين والمشرعين، في تنظيماتهم القانونية الإدارية والقضائية.
يظهر هذا جليا من خلال الملاحظات البسيطة التي يمكن استخلاصها من تسميات بعض المرافق العمومية، مثل مرفق سونطراك، وسوناكوم، وسونلغاز، وغيرها من المرافق الأخرى التي تحمل أسماء خاطئة، لأن هذه المرافق لا تعتبر شركات بالمعنى القانوني الذي يعكس الواقع من وجودها، وحتى التحركات الأخيرة مثل إشراك بعض المساهمين في رأس مال الشركات العامة يبقى غير معبر عن الرأسمال الحقيقي، والأعضاء المالكين له، لأنه لا يتجسد إلا في الدولة وحدها الشيء الذي ينفي الشراكة ويثبت من جهة أخرى على أن القوانين الجزائرية في معظمها منقولة مباشرة من القانون الفرنسي الذي له مثل هذه الشركات وهذا يقاس على الأشخاص الإدارية.
وبالنسبة لجانب النشاط الذي يوكل إلى المؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي، نلاحظ أن المشرع أهمل تنظيمها القانوني، الذي يفترض فيه الازدواجية في الخضوع للاختصاص. وإن كان الجانب اقتصاديا بحتا تخضع منازعاته لاختصاص القضاء العادي لارتباط تنظيمه بقاعدة قانونية خاصة، مدنية وتجارية،... الخ.
مع الملاحظة أن المرفق الاقتصادي العام يجب أن لا نهمل جانبه الإداري العام المكون لجزء كبير لشخصيته لأنه في حالة نشوب نزاع مرتبط بنشاطه الإداري البحت نكون أمام نزاع قانوني إداري لأن المشرع لم يتناوله بالنص عليه في الجهة المختصة به قضاء، والمفروض أن يكون من اختصاص القضاء الإداري بالتنصيص، لا بترك الأمر على الحابل، أمام المتقاضي، أو من طرف القاضي، مثل ما يحدث في غالب الحالات من عدم قدرة المشرع الجزائري على تحديد الجهة القضائية صاحبة الاختصاص، ويكتفي بالنص عليها بالتقنين المبهم بالعبارة المألوفة يمكن الطعن أمام الجهات القضائية المختصة وهو نوع من العجز الذي يتصف به الشارع الإداري، ولا نلاحظه بالمقابل عند المشرع المدني، ويبدأ العجز بالدرجة الأولى في تعيين الأشخاص الإدارية التي يشملها القضاء الإداري بالاختصاص، التي تنشأ من المشرع في أشكال وتعابير عامة.
لا يمكن أن تترجم إلى الواقع إلا بجهد كبير، قد يؤثر ويغير معنى الكلمة كتسمية لشخص معنوي عام، باصطلاح الدولة، أو الولاية، أو البلدية والمؤسسة العامة ذات الطابع الإداري وغيرها من الأسماء، وهي بمثابة إشكالات تعترض وجه المتخصص الذي يشرع في البحث عن ماهيتها، فما بالك بالشخص العادي الذي يريد منازعة الإدارة، ويعترضه إشكال تحديد الشخص المعنوي العام الذي لا يتحقق له إلا بعد المرور بطرق ووسائل عديدة حتى يتمكن الشخص المضرور من الوصول إلى مبتغاه، بتحديد الشخص الذي ينازعه أمام القضاء الإداري في جوانبه الخاضعة لاختصاص معين دون الآخر، وهي نوع من الصعوبات التي تعترض المبادر بمنازعة الإدارة، قبل الولوج إلى الصعوبات التالية، والمتمثلة في الإجراءات.
م يحل صدور قانون الإجراءات المدنية والإدارية الإشكال الذي كانت عليه الإجراءات الإدارية، في ظل قانون الإجراءات المدنية، إلا في بعض الحالات المطبقة أمام هيئتي القضاء الإداري المحاكم الإدارية أو مجلس الدولة، ففي كلتا الدرجتين، تطبق إجراءات موحدة تميل إلى القانون الخاص أكثر منها إلى القانون العام الإداري. أما جانب الاختصاص الموضوعي فهو الآخر لا حظنا عليه كثيرا من العوائق، التي تظهر في اعتماد المشرع على إصدارات قانونية تتضمن قواعد ليست في متناول حتى القانونين.
وعليه يجب على المشرع الإداري مستقبلا، أن يحاول قدر الإمكان، تناول المعيار الموضوعي بشكل مغاير لما هو عليه الآن بتحديد أنواع القرارات القابلة للطعن أمام القضاء الإداري تحديدا نافيا للجهالة مثل النص على قرارات معينة لا بد من توافرها لشروط حتى تكون ضرورية ليكتمل تكوينها كقرارات إدارية، وعندها يمكن القول أن هناك فروقا معينة بين الأعمال أو القرارات الإدارية، والقرارات شبه الإدارية، وغيرها من الأعمال التي يعتمد عليها في الاختصاص، وهي لا تمت بأية صلة للقرارات الإدارية، ما عدا قاعدة قانونية في نص قانوني خاص مثل قانون المحاماة الذي يدرج بعض القرارات أو الأعمال الصادرة من منظمة المحامين على أنها خاضعة في منازعاتها للقضاء الإداري، رغم عدم تماثل القرار الإداري بالقرار الصادر عن تنظيم مهنة خاصة، مكونة من درجتين.