السلام عليـــكم
مفهوم العرف الدولي في القانون الدولي يعتبر العرف الدولي من الناحية التاريخية أقدم مصادر القاعدة الدولية. وهو في المرتبة الثانية بعد المعاهدات حسب ترتيب المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. وقد كان العرف الدولي مصدرا لمجموعة كبيرة من القواعد التي شكّلت القسم الأكبر من قواعد القانون الدولي المعترف بها، غير أن حركة التقنين قللت من أهميته , إذ أن كثيرا من الأحكام العرفية تضمنتها الاتفاقيات الدولية التي أبرمت ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر.
ـ تعريف العرف: " مجموعة من الأحكام القانونية نشأت من تكرار التزام الدول بها في تصرفاتها مع غيرها في حالات معينة بوصفها قواعد تكتسب في اعتقاد غالبية الدول وصف الالتزام القانوني ".
والعرف الدولي لا يختلف عن العرف في القانون الداخلي من حيث تكوينه والزاميته. ولابد لتكوين العرف من توفر ركنين اساسيين:
ـ الركن المادي:
ويتمثل في صدور سلوك أو تصرف سواء أكان إيجابياً أم سلبياً وتكراره من قبل الأشخاص الدولية أو من يمارسون التصرفات في مجال العلاقات الدولية (الجهات المعبرة عن إرادة الدول والأشخاص الأخرى). وقد يتم التعبير مرة واحد فقط, فإذا ثبت أن الإرادة الشارعة قد التزمت مسلكاً معيناً في واقعة معينة فهذا يكفي لنشوء العرف الدولي أو القاعدة العرفية متى ثبت أن الإرادة الشـارعة انصرفت إلى الالتزام بهذا المسلك .
ولا يكفي أن تأتيها الدولة من جانب واحد, بل لا بد أن تأتي الدول الأخرى المعنية نفس السلوك سواء كان إيجابياً أو سلبياً، أي أن التصرف يعتبر سلوك عام في موضوع العرف. والمهم هو أن الواقعة الجديرة بتكوين الركن المادي للعرف يجب أن تتسم بالاستمرارية ذاتها في الزمان والمكان وبصفة العمومية والتجريد. ولا تعني العمومية هنا العالمية وإنما تعني عدم ذاتية توجيه السلوك، فقد ينشأ عرف بين عدد قليل من الدول ولا ينال ذلك من عموميته.
مثال : قضية اللجوء السياسي بين كولومبيا والبيرو
بعد الثورة العسكرية التي قامت في بيرو 1948 اتهمت الحكومة البيروفية حزب الشعب الثوري الأمريكي بإعداد وتوجيه العصيان خاصة زعيمه Victor Raul Haya de latorre وهو من رعايا البيرو. قام Haya ya la torre بالالتجاء الى السفارة الكولومبية في ليما عاصمة البيرو طالباً اعتباره لاجئاً سياسياً فاستجاب السفير الكولومبي لطلبه. و قد رفضت حكومة بيرو السماح بإخراجه من البلاد على هذا الأساس (Sale Conduct) واعتبرته مجرماً عادياً.
وفي الخامس عشر من تشرين الأول 1949 قدمت دعوى الى محكمة العدل الدولية بناء على اتفاق الطرفين تم سؤالها عن أمرين:
1ـ هل يحق لكولومبيا أن تقرر وحدها فيما إذا كان العمل المرتكب يشكّل جرماً سياسياً أم عادياً ؟
2ـ هل تعتبر الدولة التي تنتمي إليها اللاجئ السياسي ملزمة بمنحه الضمانات اللازمة لمغادرة إقليمها؟
أجابت المحكمة عام 1950 بالنفي عن هذين السؤالين وقررت أن حق اللجوء الممنوح للثوار غير مشروع حيث انه حسب اتفاقية هافانا لا توجد حالة طوارئ التي انتفت بمرور ثلاثة شهور على فشل الانقلاب وعلى ذلك طلبت البيرو من كولومبيا تسليمها اللاجئ. ورفضت كولومبيا ذلك مؤكدة أن حكم المحكمة لا يلزمها بتسليم اللاجئ الى سلطات البيرو. وأكدت أن هذا العرف السائد في أمريكا اللاتينية. وقد أصدرت المحكمة عام 1951 قراراً يؤيد ذلك بقولها أنه بالرغم من عدم مشروعية منح حق اللجوء, إلا أن كولومبيا ليست ملزمة بتسليم اللاجئ, وأن هذين الأمرين غير متعارضين لأن هناك وسائل أخرى لإنهاء اللجوء غير تسليم اللاجئ وأن احترام العرف السائد واجب على الدول.
ولكن هل يشترط في السلوك الذي ينشأ القاعدة العرفية أن يكون إيجابيا ؟
الواقع أن السلوك الإيجابي يكون أكثر تعبيرا عن السلوك أو الموقف، فالقاعدة أنه لا ينسب لساكت قول. ومع ذلك فكثيرا ما يكون السكوت تعبيرا عن موقف معين. وقد أكدت محكمة العدل الدولية الدائمة هذا المبدأ في حكمها الصادر سنة 1927 بتقريرها أن القاعدة العرفية يمكن أن تنشأ نتيجة الامتناع عن اتخاذ سلوك أو تصرف معين وإنما يشترط اقترانه بالشعور بالإلزام. وقد اتخذ مبدأ السلوك السلبي لإقرار ما سمي بالحقوق التاريخية. ومن البديهي القول أنه لكي يعتد بالسلوك السلبي يجب أن يكون صادرا من الدولة عن رضا وليس عن إكراه، فقد تعجز الدولة عن التعبير عن إرادتها في رفض السلوك بسبب الإكراه الذي يسلط عليها من دولة أو الدول المتعاملة في السلوك.
ومن الضروري في معرض شرح هذه الفكرة أن نسأل حول ضرورة مشاركة جميع الدول حتى يمكن اعتبار العرف ملزماً ؟
حيث لا يشترط مشاركة جميع الدول في السلوك أو التصرف المكون للركن المادي للعرف، وهذا ما أكدته محكمة العدل الدولية في قضية الامتداد القاري في بحر الشمال عندما قررت أن الشرط الأساسي هو أن تشمل الممارسة الدول التي تتأثر مصالحها على وجه الخصوص.
وفي الحقيقة أن العموم في القاعدة القانونية لا يعني أن يوجه خطاب القاعدة القانونية إلى جميع الناس. والعرف كأي قاعدة قانونية قد يكون خطابه موجه إلى مجموعة من الدول محددة بصفاتها سواء من حيث المكان أو الزمان (عرف خاص أو إقليمي) وقد يكون خطاب القاعدة العرفية موجه إلى كافة المتعاملين في السلوك الذي ينظمه العرف، وفي هذه الحالة فالعرف ملزم لكل الدول التي يعنيها السلوك.
ولا يجوز للدول التي لم تشارك في تكوين العرف التنصل من أحكامه. فالعبرة في هذه الحالة هي عمومية القاعدة العرفية بالنسبة للسلوك وليس بالنسبة للدول التي ساهمت في إنشاء العرف. وعليه لا يمكن للدول التي لم تشارك في تكوين القاعدة العرفية سواء تلك التي كانت موجودة وقت تكوين القاعدة أو تلك التي نشأت بعدها ان ترفض التقيد للعرف، ذلك أن قبول الانضمام إلى المجتمع الدولي يقتضي الالتزام بالقواعد التي تحكم علاقاته والتي تكونت نتيجة تواتر استعمالها.
على أنه ينبغي التأكيد أن العرف قد يكون محلياً أو إقليمياً ويسري حكمه في هذا النطاق. غير أن الأمر أحياناً ليس بهذه البساطة فكثير من الأعراف الدولية هي وليدة الثقافة والممارسة الغربية التي لم تكن تراعي مصالح قسم كبير من المجتمع الدولي وفي الغالب نشأت هذه الأعراف بين الدول الاستعمارية الكبرى، وهو الأمر الذي أدى بدول العالم الثالث إلى التنكر لكثير من الأعراف استناداً إلى أدنى مقاييس العدالة والإنصاف وخاصة في المجال الاقتصادي وطالبت بضرورة إعادة النظر في الكثير من مبادئ القانون الدولي التقليدي، ومن دون شك أن تواجد هذه الدول في إطار المنظمات الدولية ساهم كثيراً في إرساء قواعد جديدة في بعض مجالات العلاقات الدولية ( قانون البحار الجديد). ومع ذلك يمكننا القول أن حركة تقنين قواعد القانون الدولي التي بدأت مع منتصف القرن العشرين قللت من أهمية الموضوع وأصبحت المصادر الاتفاقيات المكتوبة أو المعاهدات المصدر الرئيسي لقواعد القانون الدولي المعاصر.
ـ الركن المعنوي:
العرف الدولي ليس قاعدة تلقائية النشوء والتكوين بل هي إرادية، فالعرف لا يتكون فوق إرادة الدول أو في غفلة منها أو بالرغم عنها، وإنما ينشأ بإرادة البعض تمثيلا لمصالح الجماعة الدولية، وأن عدم المعارضة لا يتم بشكل عفوي أو بدون وعي وإنما بالرضا الضمني. وعلية فلا بدَّ من تولد الإحساس أو الشعور بالإلزام لدى المتعاملين بالعرف، أي الاعتقاد ممن يأتي التصرف بأنه إنما ينفذ التزاماً أو يمارس حقاً. أو بعبارة أخرى يأتي السلوك تطبيقا للقانون. وبناء على ما سبق نرى أن الركن المعنوي أو العنصر النفسي جوهري في تكوين العرف وهو الذي يميز العادة عن العرف
وهناك مسألة أخرى في مجال تكوين العرف تتعلق بالجهة التي يعتد بأعمالها في تكوين العرف الدولي، هناك خلاف بين الفقهاء حول هذا الموضوع. فبعضهم يقصر هذا الحق على الجهة صاحبة الاختصاص في الدولة وهي السلطة التنفيذية وهناك من يمدد هذا الحق إلى كافة السلطات المعبرة عن السيادة في الدولة وكذلك المنظمات الدولية وحتى الأفراد (جورج سيل) إلاّ أن المسألة ليست في من يمارس الواقعة المادية أو السلوك بقدر ماهي في من يلتزم بالسلوك. فالسلوك المكون للركن المادي قد يكون مصدره سلطة وطنية أو دولية ولكن المهم أن ينتقل الإحساس بالإلزام إلى أشخاص القانون الدولي، فهناك أعراف وطنية تحولت إلى أعراف دولية ونتج ذلك عند إحساس الدول بصلاحية الممارسة في إطار العلاقات الدولية ولذلك نجد أن كثيراً من الأعراف الدولية مصدرها عرف محلي أو قاعدة وطنية أو حتى أحكاماً قضائية.
اثبات العرف في القانون الدولي
لا يثير العرف أية مشكلة تتعلق بالإثبات إذا أقرّ أطراف النزاع بوجود القاعدة العرفية. وربما انحصر الخلاف حول تحديد المضمون أو تفسير القاعدة العرفية وهذه مهمة القاضي. أما إذا كان هناك خلاف حول وجود القاعدة العرفية ذاتها فإن الجهود تتجه إلى إثبات العرف. وهذه المهمة ليست سهلة دائماً فقد يقدم الطرف المتمسك بالقاعدة العرفية الدليل على وجودها (البيّنة على من ادعى)، وقد يخفق في ذلك إلاَّ أنه يجب على القاضي التحري عن وجود القاعدة العرفية المدعى بها بكل الوسائل الممكنة بما في ذلك الاتفاقيات الدولية والأحكام القضائية وكتابات الفقهاء والمراسلات الدبلوماسية الصادرة من الأجهزة المختصة في الدولة, وربما كانت مهمة القاضي سهلة إذا تعلق الأمر بالأعراف العامة والمستقرة. ولكن في بعض الأحيان يصبح من الصعب جداً إثبات وجود العرف الإقليمي وخاصة إثبات الركن المعنوي لأنه مسألة نفسية كما ذكرنا سابقاً .