حرية القاضي فى تكوين عقيدته
إن مبدأ حرية اقتناع القاضي الجنائي هو أحد المبادئ المستقرة فى القوانين الإجرائية الحديثة . وقد تعددت تعريفات الفقهاء لماهية هذا المبدأ وأقرب هذه التعريفات وأدقها بياناً وتفسيراً هو أنه الحالة الذهنية أو النفسية أو ذلك المظهر الخارجي الذى يساعد وصول القاضي باقتناعه إلى اليقين بحقيقة واقعة لم تحدث تحت بصره .
ونظام الأدلة القانونية Preuves Legales مقتضاه أن تقيد القاضي فى حكمه بالإدانة أو بالبراءة بأنواع معينة من الأدلة ، أو بعدد منها طبقاً لما يرسمه التشريع المطبق دون أن يأبه فى ذلك بمدى اقتناع القاضي بصحة ثبوت الواقعة أو عدم ثبوتها ، ومن ثم يلتزم القاضي بالأخذ بهذه الأدلة وإنقاذ حكمه ولو لم يكن مقتنعاً بها ، وقد ساد ذلك فى التشريعات الجنائية السابقة على الثورة الفرنسية والتى جاءت وأقرت مشروع قانون بإدخال نظام المحلفين وقاعدة شفوية المرافعة ، وفى نفس الوقت نظام الإثبات الجنائي المبني على حرية القاضي فى تكوين اقتناعه ،وكان ذلك بتاريخ 18 يناير 1791م ، ثم استقر نهائياً فى تشريع تحقيق الجنايات الفرنسي الذى وضع فى سنة 1808م .
ولقد ترك هذا النظام للقاضي حرية الأخذ بطرق الإثبات كافة وتقويم كل دليل وقيمتها مجتمعة فى الإثبات وفقاً لما يمليه عليه اقتناعه الشخصي ومفاد ذلك أن الشارع على خلاف نظام الأدلة القانونية قد تخلى عن إستئثاره ببيان الدليل وقوته فى الإثبات تاركاً ذلك للقاضي فاتحاً أمامه باب الإثبات على مصراعيه وعلى مد بصره بغية الوصول إلى الحقيقة وسائراً وفق القواعد القانونية التى تحكم موضوع الإثبات . بعداً به ونأياً له عن التحكم والسلطة المطلقة أي ملتزماً بتلك القواعد التى تحكم التنقيب عن الدليل وكيفية الحصول عليه ، فإن خُولفت كان عليه استبعاد الدليل ، وهذا المبدأ هو السائد فى التشريعات الحديثة .
ولقد ساعد فى انتشار هذا النظام المبني على حرية القاضي فى تكوين عقيدته ظهور الأدلة العلمية وتقدمها ، مثل تلك الأدلة المستمدة من الطبي الشرعي والتحاليل وتحقيق الشخصية ومضاهاة الخطوط وغيرها ، وهي لا تقبل بطبيعتها إخضاع القاضي لأي قيود بشأنها ، بل ينبغي أن يترك الأمر فى تقديرها لمحض اقتناعه . ولقد عبرت محكمة النقض لهذه القاعدة الأساسية فى الشرائع الحديثة ، ألا وهى قاعدة حرية القاضي فى تكوين اقتناعه بمثل قولها: " إن أساس الأحكام الجنائية إنما هو حرية قاضي الموضوع فى تقدير الأدلة القائمة فى الدعوى فما دام يبين من حكمه أنه لم يقض بالبراءة إلا بعد أن ألم بتلك الأدلة ووزنها فلم يقتنع وجدانه بصحتها فلا يجوز مصادرته فى اعتقاده ، ولا المجادلة فى حكمه أمام محكمة النقض ، كما أنه لا يحكم بالإدانة إلا إذا أطمأن ضميره إليها ، بشرط أن يكون الاطمئنان مستمداً من أدلة قائمة فى الدعوى يصح فى العقل أن تؤدي إلى ما اقتنع به القاضي ، وما دام الأمر كذلك فلا تجوز المجادلة فى حكمه أمام محكمة النقض .
وللقاضي حريته فى الاعتماد على أي دليل ما دام يؤدي إلى النتيجة التى إنتهي إليها سواء بطريق مباشر أم غير مباشر ، ولذلك فإن للقاضي الجنائي أن يكمل الدليل بالمنطق ويستخلص منه ما هو مؤد إليه حتماً .
إن القاضي يحكم بمحض اقتناعه بحسب ظروف كل دعوى على حدة لا يقيده رأى سبق أن أبداه فى دليل قدم إليه هو شخصياً أو لغيره من القضاة فى دعوى أخرى، ولو تماثلت الظروف بين الدعويين أو بين الدليلين .
أن حرية القاضي الجنائي ليست مطلقة فى كل قيد ، وأن يستند إلى أدلة طرحت على بساط البحث فى الدعوى وإلا كان ذلك هو التحكم بعينه
معيار اليقين فى الأحكام الجنائية :
يحكم القاضي فى الدعوى بعد تفنيد أدلتها واقتناعه بعناصر الإثبات فيها ، فإذا كانت غير أكيدة فإنه يحكم بالبراءة . إما لعدم كفاية الأدلة ، أو لعدم ثبوت التهمة فى حق المتهم ، أما إذا وجدت عناصر الإثبات بما يطمئن إليه ثبوت التهمة فى حق المتهم وتأكيد اتصاله بالواقعة على نحو قول الشهود واعترافه وتوافر كافة وسائل الإثبات ، فإنه يحكم مستنداً إلى هذه المصادر والأدلة حكماً يتفق مع المنطق والعقل . وهذا هو اليقين الحقي الذى لا مرية فيه ولا محيد لأحد عنه ، والذى يجعل حكم القاضي دائماً عنواناً للحقيقة .
مصادر اليقين :
أن اليقين هو الغاية التى يهدف إليها القاضي فيمحص أدلته ، ويناقش مضمونها ويوازن بينها ثم يرجع بعضها على البعض حتى إذا ما انتهى إلى تحديد أكثرها عمقاً واتصالاً بالحقيقة وأكثرها غوصاً فى نفسه ووجدانه فإنه يصدر الحكم استناداً إلى هذه الأدلة .
لهذا فإننا نقسم مصادر اليقين إلى مصدرين :
1- المصدر العيني لليقين القضائي :
تتمثل عناصر المصدر العيني فى الشهادة والاعتراف وأقوال المتهم متى كانت على قدر من الصدق الذى يؤدى إلى الوصول نحو الحقيقة القضائية . ولقاضي الموضوع السلطة فى تقدير الأدلة والأخذ بها متى ما رأى فى عناصر المصدر العيني ما يعتبره ذو أهمية فى الدعوى أو كان على وجه النقيض بأن يرى عدم لزومها فيطرحها جانباً استناداً إلى سلطة التقدير التى يملكها .
2- المصدر العلمي لليقين القضائي :
وهو المصدر الذى يعتمد على أساس من العلم والمعرفة ، ويستمد اليقين العلمي عناصره من المعاينة ونتائجها والخبرة الفنية والاستجواب والتسجيلات الصوتية والمرئية متى تمت فى نطاق القانون ودون عيوب إجرائية .
ويعتبر اليقين بمصدريه العيني والعلمي هي عنوان الحقيقة القضائية كلما توافقا .
- ضمانات تطبيق مبدأ الاقتناع اليقيني للقاضي الجنائي :
إذا كان المشرع قد استند للقاضي الجنائي سلطة الاقتناع بلوغاً للحقيقة التى ينشدها عنواناً لحكمه ، فإن هذه السلطة هي سلطة تثبت ، وليست سلطة تحكم، الأمر الذى بمقتضاه يصبح على القاضي أن يلتزم بأن تكون الأحكام الصادرة منه فى إطار الضمانات التى حددها القانون سلفاً ، وهى ضمانات تهدف إلى تحقيق الحقيقة القضائية ودفع الهوى والشطط عن الأحكام الجنائية .
ومن أهم الضمانات :
أ-أن يكون الحكم مسبباً :
يعتبر تسيب الأحكام من أهم الضمانات الجوهرية التى اقتضاها مبدأ الشرعية ، ويترتب على التناقض فى التسبيب بطلان الحكم متى كان هذا التناقض لا يتصور معه معرفة أيما الأمرين قصدته المحكمة .
ب -أن يقوم الحكم على أدلة طرحت فى الجلسة :
بيان مؤدى الدليل :
لقد إستلزم المشرع لصحة الحكم أن يتضمن الإشارة إلى عناصر الإثبات ، وبيان مؤداها وما تضمنه كل منها . والعلة من ذلك أن عدم بيان مؤدى الدليل يجعل الحكم خالياً مما استشهدت به المحكمة من أدلة أشارت إليها .
الإستثناءات الواردة على مبدأ حرية الاقتناع :
هناك قيود ترد على حرية القاضي الجنائي فى تكوين اقتناعه وعقيدته نحو إصدار الحكم وهذه القيود بمثابة قواعد هامة واستثناءات رسمها الشارع على مبدأ قضاء هذا القاضي ، وذلك لضمان حماية المتهم من احتمال خطأ القضاء أو تسرعه ، وهذه الثمرة التى يبتغي المشرع تحقيقها .
ومن أهم الحالات التى تمثل استثناءً على الأصل العام :
1- محاضر الجلسات والمخالفات :
جعل المشرع لهذه المحاضر حجة فى إثبات الوقائع الواردة فيها دون أن يكون للقاضي سلطة مناقشتها .
2 - إثبات جريمة الزنا :
الأدلة التى تقبل وتكون حجة على المتهم بالزنا هي القبض عليه حين تلبسه بالفعل أو اعترافه ، أو وجود مكاتيب أو أوراق أخرى مكتوبة عنه ، أو وجوده فى منزل مسلم فى المحل المخصص للحريم .
لإثبات جريمة الزنا على المتهم بالزنا لابد من توافر الأدلة التى تقبل وحدها إثبات التهمة وهذه الأدلة هي كالتالي :
أولاً : التلبس بالزنا
ثانياً : الإعتراف
ثالثاً : المكاتيب والأوراق الصادرة من المتهم والمتضمنة اعترافاً وأن يكون الحصول عليها بطريق مشروع
رابعاً : تواجد الشرك فى منزل مسلم فى المحل المخصص للحريم .
3- الأدلة فى المسائل الجنائية :
تتبع المحاكم الجنائية فى المسائل غير الجنائية التى تفصل فيها تبعاً للدعوى الجنائية طرق الإثبات المقررة فى القانون الخاص بتلك المسائل وفى هذا ضرورة تستلزمها طبيعة هذه المسائل التى لا يتصور إثباتها إلا بالقانون الذى تنتمي إليه .