مذكرة نظرية التوازن المالي للعقد الإداري
فكرة التوازن المالي للعقد الإداري
إختلال التوازن المالي للعقد الإداري بسبب تصرف من الإدارة
تعريف النظرية وشروطها
الصور التي تتقمصها نظرية عمل الأمير و نتائجها القانونية
نظرية الصعوبات المادية الغير متوقعة.
عداد الطالب القاضي
قاسم نور الدين.
مقدمة
إن المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه القانون الإداري هو مبدأ استقلاله عن القانون المدني، حيث أصبح له ذاتية خاصة يعني ذلك أن القاضي الإداري بكل حرية وحسب حاجة الحياة العامة يطبق قواعد القانون الإداري دون أن يكون مرتبط بنصوص القانون المدني إلا أنه لا يمانع في تطبيق ما يستبين منها انه منسجم مع الحاجات المذكورة ولو أنها تستجيب لحاجات القانون الخاص بمعنى أنه يستطيع أن يكيفها ليستخرج منها الأحكام المطورة الموافقة لتطلعات الحياة الإدارية .
في الواقع هذا ما ذهب إليه ويسلم به في الوقت الحاضر الفقه والقضاء، أن روابط القانون الخاص تختلف بطبيعتها عن روابط القانون العام وأن قواعد القانون المدني قد وضعت لتحكم روابط القانون الخاص ولا تطبق وجوبا على روابط القانون العام إلا إذا وجد نص يقضي بذلك، فإن لم يوجد فلا يلتزم القضاء الإداري بتطبيق القواعد المدنية حتما وكما هي، وإنما تكون له حريته واستقلاله في ابتداع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ في مجال القانون العام بين الإدارة في قيامها على المرافق العامة وبين الأفراد ، فله أن يطبق منه القواعد المدنية ما يتلاءم معها وله أن يطرحها إن كانت غير متلائمة معها فله أن يطورها بما يحقق هذا التلازم ،من هنا يفترق القانون الإداري عن القانون المدني في أنه ليس مجرد قضاء تطبيقي مهمته تطبيق نصوص مقننة مقدما، بل هو في الغالب قضاء إنشائي وهذا في خلق الحل المناسب للنزاع المطروح وبهذا أرسى القواعد لنظام قائم بذاته ينبثق من طبيعة روابط القانون العام واحتياجات المرافق العامة ومقتضيات سيرها وإيجاد مركز التوازن والملائمة يبين ذلك ويبين المصالح الفردية فابتدع نظرياته التي استقل بها في هذا الشأن وخاصة في مجال تنفيذ العقود الإدارية، وكل ما يمكن القول به في هذا الصدد هو أن نظام العقود الإدارية القانوني بعيد عن دنيا النظام القانوني للعقود المدنية وهذا ما تبين من خلال مراحل تنفيذ العقود الإدارية وملاحقة الحلول المتعاقدة الذي يبدو غير مألوف.
غير أن هذا لا يعني على الإطلاق أن القانون الإداري قطع الصلة من غير مقتضى بينه وبين القانون المدني، فروابط القانون العام في طبيعتها تلتقي مع روابط القانون الخاص وفي الحالتين الأخذ بما تمليه الأمور ومقتضيات العدالة الموجودة وهذا ما ذكره مفوض الحكومة الفرنسية :" Rivet" صراحة عندما خاطب عام 1921 مجلس الدولة الفرنسي في تقريره قائلا :
" Vous êtes maitres de votre jurisprudence a vous de l’ créer …..en ne retenant les règles du code civil que dans la mesure ou l'application en est compatible avec les nécessites de la vie collective…"
فالقضاء الإداري يذكر صراحة بل وبكل وضوح القواعد المقررة مثلا في القانون المدني بخصوص القوة القاهرة "La Force Majeure"،والحادث الفجائي ويذهب بعيدا فى تعليل موقفه إلى أنه إذا كان مجال تطبيق هذه القواعد هو مجال روابط القانون الخاص إلا أن القضاء الإداري قد اضطر على الأخذ بها باعتبارها من الأصول العامة حتى يجب النزول عليها في تحديد الروابط الإدارية في مجال القانون العام مادامت تتلاءم مع سير المرافق العامة.
ومن هنا تبرز أمامنا الأهمية القصوى لما يتعلق بدراسة العقود الإدارية بشكل عام، وتشكل هذه الدراسة أحدث نواحي القانون الإداري، وأن الجهود لا تزال تبذل على ندرتها لتوضيح الغموض الذي يعتريها لا سيما ما يتعرض له تنفيذ العقود الإدارية من مواجهات تكاد تكون دائمة وبخاصة عقود الأشغال العامة، فالصعوبات التي قد يصطدم بها المتعاقد مع الإدارة قد تجعله في وضع يؤثر على مركزه القانوني، سواء أكانت خارجة عن إرادته أو بفعل الإدارة نفسها، وهو ما يعبر عنه بصفة عامة بفكرة التوازن المالي للعقد La Notion D'équilibre financier ، ويعبر أحيانا عنه بفكرة التوازن الشريف بين حقوق الملتزم مع الإدارة والتزاماته اتجاهها معه L'équivalence Honnête Des Prestations.
وإذا كانت العقود الإدارية قد اكتسبت محلا كبيرا في معالجة أزمات النهوض الاقتصادي وإقامة الإنماء والأعمار وازداد العمل بها كوسيلة معاونة لاستكمال مهمات الإدارة في هذا المجال عندما تعجز هذه الأخيرة عن القيام مباشرة بمهامها ،كانت الحاجة كبيرة وماسة إلى جلاء واضح للحالات التي يكون فيها المتعاقد مع الإدارة بحاجة إلى إعادة التوازن المالي للعقد الإداري، فكثيرة هي العقود الإدارية التي يجريها الملتزم مع الإدارة تظهر بعد إبرامها غير واضحة الحدود ولا يكون بمقدور المتعاقد الملتزم تنفيذ التزاماته التعاقدية، فيلجأ إلى الإدارة المتعاقدة لضمان التوازن مع حقوقه والتزاماته، ومن ثمة تظهر المشكلة أمام القضاء الإداري فضلا عن الفقه في تقصي الأسباب وتحديد أطر هذه الأسباب بروح واقعية عملية في كل حالة فردية وفقا لظروفها الخاصة .
ولما كانت الوقائع الجديدة الطارئة على تنفيذ العقود الإدارية كل واحدة منها ذات طبيعة تختلف عن طبيعة الأخرى وقد تقرر مصير شروط هذا التنفيذ إما يجعله أكثر إرهاقا Plus Difficile اوأكثر كلفة Plus Onéreux أو مستحيلا Même Possible، كانت المسألة تطرح نفسها لمعرفة أي النتائج القانونية التى يمكن أن تتولد عن انعكاسات هاته الوقائع الجديدة بالنسبة لالتزامات الطرف المتعاقد أي الإدارة من جهة والمتعاقد الملتزم من جهة ثانية.
ومن هذا القبيل طرحت عدة نظريات مختلفة للإجابة على هذه الأطروحات والتساؤلات القانونية وكيفية التعامل معها كي تستقيم علاقة الإدارة مع المتعاونين معها وفقا لما يقال بأن الإدارة خصم شريف وهي :
نظرية الصعوبات المادية غير المتوقعة .
أما عن الخطة المتبعة في الدراسة فقد ارتأينا معالجة الموضوع من خلال ثلاثة فصول ،أحاول في الفصل الأول أن أعطي فكرة عن نظرية التوازن المالي للعقد الإداري من حيث تعريفها ،نشأتها ،وأساسها القانوني ، والذي يكون كفصل تمهيدي للفصلين التاليين ثم أعالج في الفصل الثاني مسألة اختلال التوازن المالي للعقد الإداري بتصرف من الإدارة والمتمثل في نظرية فعل الأمير وأحكام الاستناد إليها أما الفصل الثالث فسأتناول فيه اختلال التوازن المالي للعقد الإداري بتصرف خارجي عن الإدارة والمتمثل في نظريتي الصعوبات المادية غير المتوقعة والظروف الطارئة وأحكام الاستناد إليهما.
الخطة
فصل تمهيدي : " فكرة التوازن المالي للعقد الإداري "
المبحث الأول : نشأة وتطور النظرية.
المطلب الأول : نشأة النظرية .
المطلب الثاني : تطور النظرية .
المطلب الثالث : مفهوم النظرية.
المبحث الثاني : أساس النظرية .
المطلب الأول : المسؤولية العقدية .
المطلب الثاني : النية المشتركة للطرفين.
المطلب الثالث : العدالة وصالح المرفق العام.
الفصل الثاني : اختلال التوازن المالي للعقد الإداري بسبب تصرف من الإدارة " نظرية فعل الأمير ".
المبحث الأول : تعريف النظرية وشروطها.
المطلب الأول : تعريف النظرية.
المطلب الثاني : شروط النظرية .
المبحث الثاني : الصور التي تقمصتها نظرية عمل الأمير و نتائجها القانونية.
الفصل الثالث : اختلال التوازن المالي للعقد الإداري بسبب تصرف خارجي عن الإدارة
المبحث الأول : نظرية الظروف الطارئة
المطلب الأول : تعريف النظرية وشروط تطبيقها.
المطلب الثاني : نتائجها القانونية.
المبحث الثاني : نظرية الصعوبات المادية الغير متوقعة .
المطلب الأول : تعريف النظرية وشروط تطبيقها .
المطلب الثاني : نتائجها القانونية.
خاتمة
تعرضت في هذا البحث لدراسة موضوع من أهم موضوعات النظرية العامة للعقود الإدارية التي لم تنل حظها بعد من البحث العميق ألا وهو نظرية التوازن المالي للعقد الإداري.
ويمكن أن نستخلص من هذه الدراسة أن نظرية التوازن المالي للعقد أصبحت تشكل اليوم نظرية قانونية مستقلة تستمد أصولها من الأحكام التي تواتر عليها القضاء الإداري إلى جانب بعض النصوص التشريعية المنظمة لحالات معينة حتى غدت مبادئ ثابتة ومستقرة هذه المبادئ التي اجتهد الفقه الإداري في تحليلها وتفسيرها وإعطائها الأساس القانوني.
وعلى ذلك تعتبر نظرية عامة تؤسس عليها النظريات القانونية التي يرجع إليها في تحديد حقوق والتزامات المتعاقدين وهي بذلك تجسيد لفكرة العدالة التي قامت على أساسها نظريات عمل الأمير والظروف الطارئة والصعوبات المادية غير المتوقعة.
فهذه النظرية إذ تعترف للإدارة بحق تعديل عقودها الإدارية من جانب واحد عن طريق تعديل التزامات المتعاقدين معها على نحو وبصورة لم تكن معروفة وقت إبرام العقد حتى يمكنها أن تواءم بين التغيرات السريعة المستمرة واحتياجات المرافق العامة.
ومن اجل تحقيق هذا الهدف النبيل على الإدارة أن تضمن التوازن المالي للعقد في حالة اختلاله
وطالما أن المصلحة العامة تبقى قائمة وضرورة سير المرافق العامة باستمرار وانتظام كذلك والإدارة منوط بها كفالتها على أحسن وجه فتكون ملزمة بان تعيد التوازن المالي للعقد في حالة اختلاله بسبب عمل الأمير أو الصعوبات المادية غير المتوقعة أو الظروف الطارئة.
لأن تامين المتعاقد من المخاطر غير المتوقعة التي يصعب تقديرها مسبقا من شانه أن يخلق جوا من الثقة والتعاون الذين لابد منهما لتحقيق الهدف المشترك (مصلحة لجماعة).
فليس من العدالة أن يتحمل المتعاقد مع الإدارة مخاطر الصعوبات غير المتوقعة مما قد يؤدي إلى قلب التوازن المالي للعقد فيتوقف المرفق العام عن السير بانتظام واستمرار الأمر الذي يعني عدم كفالة المصلحة العامة المنوط بالإدارة تحقيقها والسهر عليها وتلك نتيجة بالغة الخطورة.
ونظرية التوازن المالي للعقد هي نظرية مرنة بفضل احتوائها على نظام مختلف بالنسبة للتعويض فقد يكون كاملا وقد يكون جزئيا حسب ما إذا كان اختلال التوازن المالي للعقد يرد إلى عمل الأمير أو إلى الصعوبات المادية غير المتوقعة أو يرجح إلى الظروف الطارئة ويكون التعويض كاملا على أساس عمل الأمير والصعوبات المادية غير المتوقعة ويكون جزئيا على أساس الظروف الطارئة وهي بذلك لا تعني التوازن الحسابي المطلق بين التزامات المتعاقد وحقوقه بل مجرد التوازن النسبي بين حقوقه والتزاماته لان الربح يحصل عليه بعمله واجتهاده في تجنب المخاطر.
ونظرية التوازن المالي للعقد هي نظرية متوازنة لأنها تعترف للمتعاقد الآخر في مقابل الامتيازات المكفولة للإدارة أو نتيجة المخاطر الغير العادية التي تعترض سبيله أثناء التنفيذ بضمانات تكفل له المحافظة على حقوقه ومن أهمها حقه في ضمان التوازن المالي للعقد.
وللنظرية أهمية كبيرة لأنها تهدف إلى تحقيق العدالة عن طريق تعويض المتعاقد المضرور لتمكينه من مواصلة تنفيذ التزاماته وتقديم الخدمة وبالتالي إشباع حاجات الجمهور فتحقيق الصالح العام.