مقدمة
مرت مسؤولية الدولة في القانون الإداري بعدة مراحل تمثلت الأولى في مرحلة تكريس مبدأ عدم مسؤولية الدولة أي فكرة السيادة المطلقة ،إلى مرحلة تقرير مسؤولية الدولة على أساس الخطأ من القانون المدني، ثم على أساس الخطأ المرفقي بمفهوم القانون الإداري، وصولا إلى المرحلة المتطورة وذلك بتقرير كل من القضاء والتشريع مسؤولية الدولة دون خطأ عن مخاطر النشاط الإداري أي تقريرها حتى في حالة انعدام الخطأ.
وتطورت المسؤولية عن المخاطر في القانون العام لتشمل مختلف ميادين النشاط الإداري، وبالرغم من هذا فإن المسؤولية عن الخطأ ألمرفقي هي الأصل أو القاعدة العامة في مجال مسؤولية الدولة في القانون الإداري، والاستثناء هو المسؤولية دون خطأ.
ولقد اختلفت النظريات الفقهية حول تحديد أساس المسؤولية غير الخطئية نظرا لتنوع مجالات المسؤولية الإدارية تبعا لتنوع وتطور مجالات تدخل الدولة الذي يرتب بالتبعية تنوعا في أسس المسؤولية، فالأساس يتغير بتغير حالاتها. وبالرجوع إلى ما سجله الاجتهاد القضائي، وما وصل إليه المجهود التشريعي فإنه يمكن تبويب هذه الحالات إلى حالات مؤسسة عن المخاطر تتعلق أساسا بالنشاط المادي للإدارة، وحالات أخرى مؤسسة عن الإخلال بمبدأ المساواة تتعلق بالتصرفات القانونية المشروعة.
إن الحالات أو الأوجه المتعددة لنظرية المخاطر ليست على سبيل الحصر، بل هي أمثلة مستنتجة ومستخلصة من الاجتهاد القضائي والتشريع في الجزائر وفرنسا، ويمكن تقسيم تطبيقات المسؤولية عن المخاطر الإدارية و المهنية و إلى تطبيقات المسؤولية عن المخاطر الاقتصادية والاجتماعية، وتندرج ضمن هذه الأخيرة المسؤولية عن مخاطر أعمال العنف الجماعي أي عن أضرار التجمهرات والتجمعات وهي المسؤولية التي سنقصر دراستنا عليها.
وإذا كانت قواعد المسؤولية على أساس المخاطر، ونطاقها من صنع مجلس الدولة الفرنسي، كما هو الحال بالنسبة للمسؤولية على أساس الخطأ، فهذا لا يعني أن جميع حالات المسؤولية هي قضائية، بل إن المشرع تدخل أحيانا لتأسيس الحق في التعويض حينما يتم التعويض لبعض الأضرار، وهذا هو الوضع بالنسبة لمسؤولية البلديات المنصوص عليها في القانون البلدي، حيث تعرض هذا الأخير إلى ثلاث حالات وهي الأضرار التي يتعرض لها المنتخبون المحليون، والأضرار التي يسببها المنتخبون المحليون والأضرار الناتجة عن الاضطرابات و التجمهرات والتجمعات.
فمسؤولية البلدية في الحالتين الأولى والثانية تقوم على أساس الخطأ، وفي الحالة الثالثة المتعلقة بالأضرار الناتجة عن الاضطرابات و التجمهرات والتجمعات فأساس المسؤولية هو المخاطر.
وبالرغم من أن موضوع التجمهر والتجمع هو ذو طابع جزائي صرف، إلا أنه هذا لم يمنع القضاء والفقه الإداريين من دفع المشرع إلى وضع نظام خاص بهذه المسؤولية وإقرارها. ففي فرنسا نظمت المسؤولية عن ضرر التجمهر حيث كان يحمل السكان مسؤولية الاضطرابات التي تقع على إقليم البلدية، ثم جاء قانون 05 أفريل 1889 فجعل المسؤولية على عاتق البلدية، ثم بموجب نص المادة 2216-3 من القانون العام للجماعات المحلية نقل المسؤولية من البلدية إلى الدولة.
وقد حذا المشرع الجزائري حذو المشرع الفرنسي عندما تبنى نظام المسؤولية غير الخطئية عن أضرار التجمهر والتجمع ضمن أحكام قانون البلدية 67-24، بموجب أحكام المادة 171، المعدل بقانون البلدية رقم 90-08 المؤرخ في 07 أفريل 1990 وهذا بموجب أحكام المادة 139 وما يليها.
ومهما يكن الاختلاف بين الأنظمة المختلفة للمسؤولية عن حوادث التجمهرات والتجمعات وتنوعها، فإنه يمكن تفسير الأسس العامة التي قدمت مبررا لهذه المسؤولية في فكرة ضمان المضرور في الحصول على حقه، والمتمثل في التعويض وفق نظام التضامن والتكافل الاجتماعي.
ويكتسي موضوع المسؤولية عن مخاطر التجمهرات والتجمعات أهمية عملية ونظرية بالغة، وتزداد أكثر في القانون الإداري الجزائري بسبب كثرة الأضرار التي تدخل في مجال هذه المسؤولية، كأعمال العنف عقب المباريات الرياضية، وأعمال العنف التي تتبع الاضطرابات، والاحتفالات وغلق الطرق والمسيرات وما ينجم عن ذلك من ضرورة جبر الأضرار التي تلحق بالضحايا، فبهذا تظهر الحاجة أو الأهمية العملية لموضوع مسؤولية البلديات عن مخاطر العنف الجماعي، من زاوية حاجة المتقاضين وكل رجال القانون إلى الدراسات العملية الخاصة بالتطبيقات القضائية لهذا النوع من المسؤولية وذلك بغرض معرفة وتأسيس دعاواهم لجبر الأضرار التي تلحق بهم نتيجة هذه الحوادث المحفوفة بالأخطار، خاصة في بلادنا أين أصبحت أحيانا المظاهرات والتجمعات تأخذ طابعا سياسيا يؤدي أحيانا إلى إهدار حقوق الضحايا الذين أصيبوا في مثل هذه التجمعات و التجمهرات، أما الأهمية النظرية لهذا الموضوع فتظهر من خلال الإسهام في إثراء تنظير هذا الجزء من قواعد القانون الإداري الذي هو في تطورمستمر، والوصول إلى معرفة مدى التوازن بين العمل القضائي والعمل التشريعي في خلق قواعد هذه المسؤولية.
إننا نجد بصدد دراسة هذا الموضوع بعض التطبيقات للاجتهاد القضائي بمناسبة أحداث معينة، وفي حالات متفرقة للمسؤولية عن المخاطر، ولا نجد نظرية كاملة ولهذا سنتناول تحليل مسؤولية البلديات عن أضرار التجمهرات والتجمعات وما يترتب عنها، ومعرفة نظامها في الجزائر.
ولهذا الغرض إننا سنتجنب الطرح التقليدي الذي كان يقوم على التساؤل وطرح فكرة مدى استقلالية قواعد المسؤولية الإدارية عن قواعد المسؤولية المدنية أي التساؤل حول أصالة قواعد المسؤولية الناجمة عن أضرار التجمهرات والتجمعات، وهل يوجد نظام خاص بها، أم أنها تخضع في مبادئها وأسسها وتنظيمها على قواعد القانون المدني ولاسيما المادة 124 ؟.
بل إن الإشكال الذي نريد طرحه والبحث فيه هو : ما هو أفضل نظام يحقق مصلحة المضرور من أفعال ومخاطر العنف الجماعي أي من أضرار التجمهرات والتجمعات، هل هو إسناد المسؤولية للبلدية أو للدولة ؟ ، وهل البلدية أو الدولة هما الجهتان الوحيدتان المسؤولتان عن التعويض ؟
وهذا التساؤل ينطلق من فرضية ضرورة التوفيق بين مصلحة المضرور وضرورة التفكير في ميزانية الدولة، والنتائج التي يترتب على أساسها إطلاق الحق في تعويض المتضرر عن كل ضرر أصابه من جهة، ومن جهة أخرى التقيد أو التشدد في حماية خزينة الدولة بسبب الخوف من تبديد الأموال للمتضررين مما يؤدي إلى عدم تحقيق العدالة ومبادئ الإنصاف وعدم تطبيق قواعد المسؤولية الحقة، فالبحث عن أفضل نظام يساعد على التوفيق بين مصلحة المتضرر ومصلحة الخزينة العامة، يقتضي منا التفكير في مدى إسناد المسؤولية إلى البلدية أو إلى الدولة.
خاتمة
توسعت المسؤولية الإدارية بدون خطأ عن مخاطر النشاط الإداري المهني و الاقتصادي و الاجتماعي بشكل كبير، أصبح يشمل حاليا جميع مخاطر الحياة العامة في جميع مجالاتها، و لكنها تبقى مع ذلك الاستثناء، فمازالت القاعدة العامة هي المسؤولية الإدارية عن الخطأ المرفقي.
وهذا ما تفرضه اعتبارات مالية و ليس اعتبارات قانونية، كما توسعت تطبيقات هذه المسؤولية، و هو ما يخدم بدون شك مصلحة الضحية (المتضرر)، التي في حالات كثيرة لا يمكنها إثبات ركن الخطأ في المسؤولية عن الخطأ المرفقي، مما يجعلها مهملة بدون تعويض يجبر الأضرار اللاحقة بها، غير أن ذلك لا يعني الاستغناء نهائيا عن نظرية الخطأ، لأن هذه الأخيرة تبقى لازمة لإعمال دعوى رجوع الدولة على موظفيها المخطئين و المقصرين و المهملين.
و نتيجة لتوسع المسؤولية غير الخطئية بصفة عامة، توسعت و تطورت مسؤولية البلدية عن أضرار التجمهرات و التجمعات، فالتشريع و القضاء تخليا عن السببية الحقيقية بين نشاط السلطة العامة و الضرر و أصبح يكتفي بأن تكون أضرار التجمهرات و التجمعات ناتجة عن أعمال العنف الجماعي و ليس نشاط الإدارة، فتقوم مسؤولية هذه الأخيرة لأننا إزاء مخاطر اجتماعية يتسبب فيها المجتمع ككل، و هي ناتجة عن العيش المشترك في المجتمع، الذي يتضامن فيما بينه لتعويض الضحية.
كما أن التشريع و القضاء تخليا عن القوة القاهرة كسبب للإعفاء من المسؤولية عن أضرار التجمعات و التجمهرات، و هذا تطور كما سبق ذكره يصب في مصلحة المتضرر لا في مصلحة البلدية.
و زيادة على ما سبق فإن المشرع، و نظرا لأن المشكل الرئيسي للقرارات الصادرة في هذا النوع من القضايا يتعلق بتنفيذها، و مراعاة لمصلحة الضحية أوجد حلولا قانونية بموجب القانون رقم 91-02 المتعلق بالقواعد الخاصة المطبقة على بعض أحكام القضاء إذ تنص المواد الأولى، الثانية و الخامسة منه على إمكانية الحصول على مبالغ التعويضات المحكوم بها بواسطة إجراء الاقتطاع الجبري من حساب البلدية لدى الخزينة العمومية.
و كذلك بموجب القانون رقم 06-23 المعدل لقانون العقوبات في مادته 138 مكرر التي نصت على المسؤولية الجزائية للموظف العمومي الذي يستعمل سلطة وظيفته لوقف تنفيذ حكم قضائي أو امتنع أو اعترض أو عرقل عمدا تنفيذه.
و البلدية في النظام الجزائري لم تكن الجهة المسؤولة دائما عن تعويض أضرار التجمهرات و التجمعات، فإضافة إليها حمل المشرع الصندوق الخاص بالتعويضات مسؤولية التعويض في مراحل زمنية محددة و هذا بموجب نصوص خاصة في قوانين المالية، أو بموجب قانون العفو الشامل 90-19 بالنسبة لأحداث محددة على سبيل الحصر من حيث الظروف الزمنية و المكانية.
فسلك المشرع هذا المنهج تحقيقا لمصلحة المتضرر، و نظرا لأسباب ترتبط أساسا بعوائق مالية و أخرى سياسية و اجتماعية.
و نتيجة لما تقدم تظهر ضرورة تغيير و تحويل المسؤولية عن أضرار التجمهرات و التجمعات (أعمال العنف الجماعي) من جهة البلدية إلى جهة الدولة، لكون هذه الأخيرة لها القدرة المالية و السياسية و الاجتماعية لتحمل آثار هذه المسؤولية، مع الإبقاء على حق الدولة في الرجوع على البلدية في حالات معينة.
و نشير في الأخير إلى الدور المهم للقاضي الإداري في تفعيل و تطوير هذا النوع من المسؤولية و تطبيق قواعدها.