شرح قضية اليوناني كراسلانيس Caraslanis قضية زواج اليوناني تتمثل وقائعها في أن يونانيا اسمه كراسلانيس تزوج في فرنسا من فرنسية طبقاً للشكل المدني المعمول به في فرنسا،فطعن أولياؤه ببطلان هذا الزواج لأنه لم يتم حسب الشكل الديني الذي يتطلبه القانون اليوناني،قانون جنسية الزوج،و الذي يعتبر إشهار الزواج في الشكل الديني مسألة موضوعية و تدخل في نظام الأحوال الشخصية،و لكن محكمة النقض الفرنسية قضت باختصاص القانون الفرنسي في تحديد طبيعة المسألة المتنازع عليها، و اعتبرت إشهار الزواج في الشكل الديني مسألة شكلية لا موضوعية و تسري عليه قاعدة لوكيس و بالتالي قضت بصحة الزواج، و قالت المحكمة حيث أن مسألة تحديد ما إذا كان إشهار الزواج يدخل في قواعد الشكل أو في القواعد الموضوعية يفصل فيها القضاة الفرنسيون طبقاً لمفاهيم القانون الفرنسي الذي يعتبر الطبيعة الدينية أو المدنية للزواج مسألة شكل،و بالتالي الزواج المدني الذي أبرمه الزوجان يعتبر صحيحاً وفقاً لقاعدة لوكيس.
الظاهر من الأمثلة السابقة و غيرها اختلاف موقف القضاء بصدد التكييف الذي هو مسألة مهمة يتوقف عليها تحديد القانون الواجب التطبيق،و أن القضاء كيّف الوقائع دائماً طبقاً للقانون الوطني،فهل هذا الموقف سديد أو أن له مساوئه ؟
موقف الفقه و التشريع من التكييف :
اختلف الفقهاء في تعيين القانون الذي يخضع له التكييف،فرأى البعض أن التكييف يخضع للقانون الأجنبي المختص بحكم النزاع،و ذهب الرأي الراجح إلى إسناده لقانون القاضي،و اقترح البعض الآخر الجمع بين القانونيين،و رأى فريق رابع إخضاع التكييف للمبادئ العامة في القانون المقارن،و نشير بإيجاز إلى هذه الآراء فيما يلي :
إخضاع التكييف لقانون القاضي :
يعتبر التكييف أو تحديد الوصف القانوني للمسألة محل النزاع عملية أولية لازمة لمعرفة و اختيار قاعدة الإسناد، و بالتبعية لتحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع،و من الطبيعي أن يجري القاضي التكييفات اللازمة حسب المبادئ و الأحكام السائدة في قانونه،و هذا أمر بديهي،فعملية التكييف ذات طبيعة واحدة سواء تعلق الأمر بمنازعات وطنية بحتة أم بمنازعات منطوية على عنصر دولي أو أجنبي.
و أول من ناد بهذه النظرية هو الفقيه الألماني "فرانتس كان" (Frantz Kahn)، و لكن يرجع الفضل في بلورتها و استخلاص عناصرها و إيضاح معالمها إلى الفقيه الفرنسي "بارتان" Bartin
و يستند خضوع التكييف لقانون القاضي إلى عدة أسانيد،ساق بعضها الأستاذ "بارتان" و أضاف الفقه الحديث البعض الآخر.
السند الأول : عملي : و يقوم على الواقع القضائي،فقد كشف الأستاذ "بارتان" أن المحاكم الفرنسية قد درجت على إخضاع التكييف للقانون الفرنسي،باعتباره قانون القاضي،وحده دون غيره،و من بين القضايا التي استشهد بها هذا الفقيه، قضية ميراث المالطي،حيث كيفت المحكمة المسألة التي يثيرها ادعاء الزوجية بأنه يدخل في فكرة الميراث و ذلك حسب أحكام القانون الفرنسي،قانون القاضي الذي ينظر الدعوى،و لما كان القانون الواجب التطبيق على الميراث في العقارات هو قانون الموقع،أي القانون الفرنسي،فقد قضت المحكمة في النهاية برفض ادعاء الزوجة،باعتبار أن القانون الفرنسي لا يعترف بمثل هذا الحق (نصيب الزوج المحتاج) وقت صدور الحكم.
السند الثاني : سياسي : و يقوم على فكرة سياسية أكثر منها قانونية،و هي فكرة السيادة،حيث يرى الأستاذ "بارتان"،أن تنازع القوانين ما هو في الحقيقة إلا تنازعاً بين سيادات الدول المختلفة التي على صلة بالعلاقة محل النزاع،فالأمر يتعلق هنا بتحديد نطاق سلطان و مجال انطباق تشريعات تلك الدول،أي تحديد مدى السيادة التشريعية لها،و لما كانت وظيفة قاعدة الإسناد لا تعدو أن تكون فضا للتنازع بين السيادات،و كان التكييف يعتبر مسألة أولية و لازمة لإعمال قاعدة الإسناد فهو يتصل أيضاً بفكرة السيادة،و لما كان التكييف يحدد نطاق تطبيق قاعدة الإسناد فيكون من غير المتصور أن يتنازل المشرع أو القاضي الوطني عن هذه المسألة المتعلقة بنطاق سيادة دولته التشريعية لقانون آخر غير قانونه.
السند الثالث : قانوني : و لم يرق السند السياسي في نظر غالب الشراح،فإخضاع التكييف لقانون القاضي يقوم على وظيفة التكييف كعملية فنية في علاقته بقاعدة الإسناد فهذه الأخيرة،لا تهدف إلى فض التنازع بين سيادات أو رسم النطاق المكاني لتطبيق القوانين في الدول المختلفة،و إنما وظيفتها اختيار أنسب القوانين لحكم العلاقة ذات الطابع الدولي. و هذا لا يمكن إدراكه أو تحقيقه إلا بعد إجراء التكييف اللازم للمسألة المعروضة،فالتكييف ما هو إلا تفسير لقاعدة الإسناد ذاتها.
فالقاضي الذي يكيف شرط شهر الزواج في حفل ديني يحضره كاهن يقوم بطقوس معينة،لا يقصد في الواقع سوى تفسير قاعدة الإسناد التي تقرر اختصاص قانون محل إبرام الزواج بحكم مسائل الشكل،أو التي تقرر اختصاص القانون الشخصي بحكم المسائل الموضوعية في الزواج،و ذلك ليتوصل إلى معرفة ما إذا كان هذا الشرط يتعلق بالشكل أم بالموضوع،و هو إذ يفسرها لا يفسرها إلا حسب أحكام قانونه الذي تشكل قاعة الإسناد جزءاً منه.
و يقترب من هذه الحجة ما يراه الأستاذ موري من أن التكييف هو تفسير لقواعد الإسناد لا غير و على القاضي أن يفسر قواعد التنازع في قانونه طبقاً لهذا القانون أيضاً،مثلا ينبغي أن يتحدد شكل التصرف الخاضع لبلد الإبرام عملاً بقاعدة لوكيس حسبما هو مقرر في قانون القاضي،و قد أيد الفقيه باتيفول هذا الرأي معتبراً التكييف هو تفسير لقاعدة الإسناد و أخذ به غالبية الفقهاء في القانون المقارن.
السند الرابع : منطقي : و مقتضاه أن "البيئة أو الجو القانوني" الذي يعمل فيه القاضي الذي يواجه حل مشكلة تنازع القوانين يقودانه إلى تطبيق قانونه على عملية التكييف،فقاعدة الإسناد ذاتها،كما مضت الإشارة،قاعدة وطنية داخلية، و تشكل جزءاً من قانون القاضي،و كل ما يلزم لإعمالها يلتمس بجانب ذلك القانون،كما أن القاضي نفسه،و إن كان يفصل في منازعة خاصة دولية،ليس قاضياً دولياً بل قاضي وطني يتأثر في تكوينه و عمله بمفاهيم و أحكام قانونه الوطني،كل هذا يؤدي بالضرورة إلى إجراء التكييف وفقاً للمبادئ و الأحكام السائدة في قانونه.
و لا يعكر صفو هذا "الجو الوطني" تدخل قانون أجنبي حيث أن التكييف هو عملية أولية سابقة على إعمال قاعدة الإسناد و الكشف عن إمكانية تطبيق قانون أجنبي،فقبل تمام التكييف أو تحديد الوصف القانوني للمسألة المثارة لا يكون هناك قانون آخر ينازع قانون القاضي اختصاصه و لا يمكن التكهن بهذا القانون حيث أن القاضي لم يعرفه بعد.
و هناك حجة أخرى للفقيه أرمنجون الذي يرى أن التكييف يجب توحيده وطنياً،و يجب ألا يتغير بتغيير القانون المختص،فليس من المعقول أن يعتبر القاضي الوطني العلاقة مرة داخلة في الميراث و مرة أخرى مشارطات الزواج تبعاً لاختلاف القوانين في التكييف (راجع قضية المالطي)،إن العدالة تقضي أن يكون القانون الخاص بالتكييف قانوناً واحداً و هذا يتأتى بإعمال قانون القاضي وحده.
و الحقيقة هي أن التكييف يجب أن يخضع لقانون القاضي لاعتبار هام،و هو أنه في حالة تنازع عدة قوانين ليس من ضمنها قانون القاضي،فيجب أن يحتكم إلى هذا القانون ما دام النزاع رفع أمام محاكمه إذا فرضنا أن نزاع زواج اليوناني طرح أمام القاضي الجزائري نجد أن المسألة تنازعها ثلاثة قوانين،قانون مكان إبرام الزواج و القانون الوطني للزوجين و قانون القاضي،هذا القانون الأخير ليس له صلة بالاختصاص الموضوعي،و مع ذلك يجب الفصل بين القانونين الأولين بين ما يعود من النزاع إلى الموضوع و ما هو خاص بالشكل،طبقاً لأحكام قانون القاضي باعتباره قانوناً محايداً،و إلا كان إعمال أحد القانونين و تفضيله على الآخر من قبيل المصادرة على المطلوب.
الاستثناءات الواردة على فكرة خضوع التكييف لقانون القاضي.
التكييف الأولي و التكييف الثانوي: يفرق "بارتن" بين التكييف الأولي و السابق و التكييف اللاحق أو الثانوي:
1- غرضه الاهتداء إلى قاعدة الإسناد التي تندرج تحتها المسألة القانونية المطروحة :
لمعرفة القانون المختص بحكمها، و الثاني هو الذي يتطلبه القانون الذي عينته قاعدة الإسناد بعد الاهتداء إليها،فالتكييف الأولي هو الذي يخضع لقانون القاضي،أما الثاني فيخضع للقانون الذي أشارت بتطبيقه قاعدة الإسناد.
و عليه لو عرضت على القاضي علاقة اتفاقية معينة فإنه يقوم بتكييفها وفقاً لقانونه،فإذا اهتدى إلى أنها تدخل ضمن فئة الالتزامات التعاقدية أخضعها لقانون الإرادة،و هذا هو التكييف الأولي،و به قد عرف القانون المختص بحكمها،و ينتهي هنا دور قانون القاضي ليأتي دور القانون المختص ليكيف لنا هذه العلاقة التعاقدية فيما إذا كانت عقد بيع أو عقد هبة،و إذا كانت عقد بيع،هل هو بيع تجاري أم بيع مدني و هكذا...
و قد كان بارتن يعتبر في البداية التكييف الثانوي استثناء من التكييف وفقاً لقانون القاضي،غير أنه عدل عن ذلك في أبحاثه اللاحقة و اعتبره نتيجة منطقية للأساس الذي بنى عليه نظريته و هي فكرة السيادة،ذلك أنه لما كان يتوقف على التكييف الأولي معرفة القانون الأجنبي المختص،و الذي تطبيقه يعد انتقاصاً للسيادة التشريعية للدولة،فإنه لا يمكن أن يتم إلا وفقاً لقانون القاضي لأن هذا الأخير هو وحده الذي يملك بيان قدر هذا الانتقاص من السيادة و حدوده،و أما التكييف اللاحق فلما كان لا علاقة له بالاختصاص التشريعي و لا أثر له عليه،فخضوعه للقانون الأجنبي لا مساس فيه بالسيادة التشريعية للدولة.
و قد أقر الفقه الحديث رأي بارتن الذي يميز بين التكييف السابق و التكييف اللاحق،لكن على أساس مختلف،فالتكييف الأولي عند هذا الفقه ما هو إلا تفسير لقاعدة الإسناد في قانون القاضي،و لهذا فمن المنطقي ألا يخضع إلا لهذا القانون،أما التكييف اللاحق فهو تفسير للقانون الأجنبي فمن المنطقي ألا يتم إلا وفقاً لهذا القانون.
و يقول الأستاذان لورسان و بورال أن التكييفات الثانوية ليست تكييفات دولية،و إنما هي تكييفات داخلية،و عليه لا يمكن اعتبارها استثناءاً حقيقياً من قاعدة خضوع التكييف لقانون القاضي.
2- مدى خضوع المال للتكييف وفقاً لقانون القاضي :
يرى بارتن أن تكييف المال هل هو عقار أم منقول لا يخضع لقانون القاضي و إنما لقانون موقعه،و قد عد ذلك استثناءاً من التكييف وفقاً لقانون القاضي،و يبرر ذلك بما يحتاج إليه اكتساب الحقوق العينية من طمأنينة،و ما تتطلبه المعاملات من استقرار.
و الواقع أنه إذا كانت قاعدة الإسناد في قانون القاضي تخضع المال سواء كان عقاراً أو منقولاً إلى قانون موقعه فإن هذا الاستثناء الذي أورده بارتن لا مبرر له لأنه لا تأثير له على القانون المختص الذي تعينه قاعدة الإسناد في قانون القاضي فيبقى دائماً هو نفسه بدون تغيير،و عليه فإن التكييف الذي يتم وفقاً لقانون موقع المال لا يعدو أن يكون في هذا الفرض من التكييفات اللاحقة التي سبق الحديث عنها.
و لكن إذا كان القانون المختص بحكم المال يختلف بحسب وصف هذا الأخير هل هو عقار أم منقول،كما هو الحال مثلاً في القانون الفرنسي الذي يخضع الميراث في المنقول لقانون موطن المتوفي،و الميراث في العقار لقانون موقعه،فإن هذا الاستثناء له حينئذٍ تأثير على القانون الذي يحكم المال محل النزاع إذ يختلف باختلاف القانون الذي يتم وفقه التكييف، و لذلك يعد هذا الاستثناء استثناءاً حقيقياً.
و قد انتقد جانب كبير من الفقه هذا الاستثناء على أساس أن سلامة المعاملات لا تتطلب بالضرورة الخروج على مبدأ خضوع التكييف لقانون القاضي،كما أن هذا الاستثناء من شأنه إعطاء لقاعدة الإسناد في قانون القاضي تفسيراً غير الذي أراده المشرع واضعها،ذلك أنه إذا كان المشرع قد أخضع العقار مثلا لقانون موقعه فإن التكييف الذي يتم وفقاً لقانون موقعه قد يجعل القاضي يطبق قانون الموقع على ما لا يعد عقاراً وفقاً لقانونه،و أخيراً فإن الأخذ بهذا الاستثناء سيكون صعباً لما يكون المال كائناً في إقليم أكثر من دولة و يختلف تحديد طبيعته من قانون إلى آخر مما يؤدي إلى تعدد قواعد الإسناد و تضاربها بشأن نفس النزاع.
و لكن النصوص القانونية الخاصة بالتكييف في القانون المقارن،لا تورد هذا الاستثناء صراحة،و كذلك لا يتضح هذا الاستثناء في قاعدة الإسناد المتعلقة بالقانون الواجب التطبيق على المال،و يعارضه كثير من الفقهاء.
3- تكييف الفعل الضار :
هل هو مشروع أو غير مشروع و إذا كان غير مشروع فهل هو جريمة مدنية أو جزائية يخضع لقانون المكان الذي وقع الفعل في إقليمه،لأن اختصاص هذا القانون من النظام العام و تقتضيه العدالة.
4 - إذا تعلق محل النزاع بنظام قانوني غير معروف في قانون القاضي :
كنظام الوقف الإسلامي و نظام التراست في القانون الانجليزي ،و هما نظامان غير معروفين في القوانين اللاتينية،وجب أن يخضع التكييف للقانون الأجنبي الذي يعرف هذا النظام و إلا شوهت الطبيعة القانونية لمحل النزاع.
5-التكييف و قاعدة الإسناد الواردة في معاهدة :
التكييف وفقاً لقانون القاضي ينبغي أن يتجنب لما تكون قاعدة الإسناد واردة في معاهدة دولية لأنه يؤدي إلى الاختلاف في تحديد نطاقها (أي نطاق قاعدة الإسناد) نتيجة الاختلاف في التكييف من دولة متعاهدة إلى أخرى،و في ذلك تعطيل لأحكام المعاهدة و تحلل من أحكامها،و إدراكا لهذه الخطورة فإن أغلبية المعاهدات المبرمة في الوقت الحاضر تحرص على إعطائها بنفسها التكييفات الأساسية اللازمة.
غير أن جانباً من الفقه لا يؤيد بارتان في الاستثناءات الأربعة الأولى،و يرى أن تطبيق قانون القاضي شامل لكل المسائل و إلا ترتبت نتائج عملية سيئة أحياناً،مثلاً في القانون الفرنسي يكيف المحل التجاري و مكاتب التوثيق على أنها منقولات بينما الأسهم التي يصدرها بنك فرنسا تعد من العقارات و يجوز رهنها رهناً تأمينياً،كذلك الإيرادات المرتبة تعد منقولات في القانون الفرنسي الحديث في حين كانت في القانون الفرنسي القديم و لا تزال في بعض القوانين الأجنبية من العقارات،كما أن البعض الآخر من الفقهاء يأخذ على رأي بارتان أن التوسع في تفسير القاعدة العامة يؤدي إلى قبول الاستثناءات الأخرى أو رفض الاستثناءات التي أقرها، و هذا على خلاف النظرية الثانية.