وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي
مقدمة
الحمد الله نحمده ونستعينه ونسأله التوفيق والعصمة من الزلل والفقه في دينه والبصر بأموره والمعرفة بموازين العدل التي شرعها سبحانه في القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبانت للناس أسسها وطرق الوصول إليها، فالعدل في القضاء لا يتأتى إلا أذا كان القاضي على بينه مما يقضي به وما يقضي فيه، ومن هنا كانت ولاية القضاء لأولى النهي، الذين نور الله بصائرهم، فاعتصموا بحبله، استمطروا رحمته ومن فيض علمه وتوفيقه، واستشعروا من أنفسهم العجز إلا بقدرته.
والقضاء بين الناس والفصل في خصوماتهم منذ خلق الله مجتمع الإنسان كان موكولاً إلى الأنبياء والمرسلين أمرهم الله به لتستقيم الأمور ويستقر العدل، ويرتدع الظالم.
"أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" سورة النساء الآية 58
وكان من سنة الإسلام وتشريعه للعدل بين الناس أن قرر القواعد المثلى التي يجري بها القضاء ويلتزمها القضاة يتمثل هذا قول الرسول e في الحديث الصحيح انه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال (إنما أنا بشر مثلكم، وأنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له بنحو ما أسمع. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار).
وفي هذا توجيه للمتخاصمين أن يستغل فصاحة لسانه ووضوح بينة وقوة حجته في الإيقاع بخصمه والغلبة عليه في ساحة القضاء وتوجيه القضاة ألا تبهرهم الفصاحة فتميل بهم عن استنكاف الحق واستبصاره من حجج المرافعات التي يتبارى الخصوم في عرضها أو استعراضها، تجلية للحق، أو طمساً لمعالمه بضوضاء الباطل، فالمهمة صعبة ولا بد من استقامة الطريق الموصلة إليها وتأصيل ضوابطها وبيان معالمها ليكون القاضي على بصيرة بطرق القضاء ليحكم بالعدل الذي ولي ميزانه وليكون في علم المتقاضي أصول القضاء التي تجرى عليها المرافعات فلا يضل ولا ينسى، فيضيع الحق ويسود الجور.
ولقد جاء القرآن الكريم بأصول القضاء، فهو قول الله العدل مبيناً للرسول e ومن بعده للقضاة سماع الدعاوي في الأنزعة والخصومات من إقرار وشهادة وكتابة ويمين وقرائن وغيرها بطريق المصنفات ولكن بالآيات البينات والإشارات.
والأصل أن يكون القضاء صحيحاً منطبقاً على الحق والعدل ظاهراً وباطناً يشترط أن يحصل للقاضي حين فصل القضاء علمان.
الأول علمه بالحادثة التي يراد منه الفصل فيها علما منطبقاً على الواقع
الثاني علمه بحكم الله تعالى في تلك الحادثة.
أدلة الإثبات والثبوت
الدليل في اللغة: المرشد
الاصطلاح: هو ما يلزم من العلم به العلم بشيء أخر.
فإذا أعلم المدعى القاضي بحجته على دعواه لزم من علم القاضي بتلك الحجة مع اقتناعه بها علمه بصدق دعوى المدعى فيما أدعاه.
الإثبات: هو إقامة المدعى الدليل على ثبوت ما يدعيه قبل المدعى عليه
والثبوت هو قيام الحق المدعى.
فالإثبات فعل يصدر من المدعى وهو قائم وصادر عنه الثبوت وصف قائم بذات الشيء المدعى قبل المدعى عليه.
فالأثر في ذلك أن القاضي يحكم للمدعى على المدعى عليه بما أدعاه متى استوفت الدعوى كل شروطها الشرعية.
من يلزم بإقامة الدليل (عبء الإثبات)
الأصل براءة الذمة
فمن أدعى على غيره حقاً أو قولا ملزماً بحق أو فعلاً كذلك فعليه الدليل فإن دفع المدعى عليه دعواه فعليه إقامة الدليل على ما دفع به.
وهذا الأصل من حديث الني e قال "لو يعطي الناس بدعواهم لادعى أناس دماء رجال وأموالهم ولكن البينة على المدعي وفي إسناد أخر البينة على المدعي واليمين على من أنكر".
طرق الإثبات الشرعية :
ما يفيد القاضي علماً يقينا
علم القاضي - التواتر
علم القاضي : كأن يسمع رجلا يقر لأخر بمال أو بطلاق أو بقذف أو قتل
التواتر التابع : هو خبر جماعة يقع العلم بخبرهم أو هو خبر جماعة لا يتصور اتفاقهم على الكذب. فلا تقام بينة على خلافه لأن البينات يدخلها الشك بخلاف التواتر سواء أكان المستند إلى التواتر مدعيا أم مدعى عليه وسواء أكان مثبتاً أم نافياً أكان في الأموال أم الحدود أم القصاص وسواء أكان قبل الحكم أم بعده وذلك لأن التواتر حجة على النفي والإثبات لإفادته القطع واليقين.
ما يفيد علم القاضي ظنا راجحاً
الإقرار ـ الشهادة ـ اليمين ـ الخط والكتابة ـ المعاينة ـ القرينة ـ القيافة ـ القرعة.
الإقرار : هو إخبار الإنسان عن ثبوت حق لغيره على نفسه
من محاسنه : - إسقاط واجب الناس عن ذمته وقطع ألسنتهم عن مذمته
- إيصال الحق إلى صاحبه وتبليغ المكسوب إلى كاسبه فكان فيه نفع صاحب الحق وإرضاء خالق الخلق.
إحماد الناس المقر بصدق القول ووصفهم إياه بوفاء العهد وإنالة النول.
الدليل على مشروعيه قوله تعالى "وليملل الذي عليه الحق"
"كونوا قوامين بالقسط شهداء على الناس ولو على أنفسكم"
من السنة حديث ماعز
ـ الإجماع أجمع المسلمون على الإقرار حجة منذ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير منكر
المعقول: لأن الخبر كان متردد بين الصدق والكذب في الأصل لكنه ظهر رجحان الصدق على الكذب لوجود الداعي إلى الصدق الصارف عن الكذب لأن عقل المقرر دينه يحميلانة على الصدق ويزجرانه عن الكذب ونفسه الأمارة بالسوء ربما تحمله على الكذب في حق غيره أما في حق نفسه فلا فصار علقه ودينه وطبعه داعي إلى الصدق زواجر عن الكذب فكان الصدق ظاهر فيما أقر به على نفسه فوجب قبوله والعمل به.
ركن الإقرار : اللفظ الدال عليه مثال لفلان عليه كذا أو ما يشبه
شروط المقر: العقل ـ البلوغ
أما الصغير والمجنون ومن في حكمهم لا يصح إقرار أوليائهم أو أوصيائهم عنهم بل هو باطل ويلحق بهم المحجور عليه والسكران.
الشهادة
الشهادة هي أخبار صدق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القاضي ولو بلا دعوى.
الدليل من القرآن قوله تعالى:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم" فاستشهدوا عليهن أربعة منكم"
من السنة: شاهداك أو يمينه "البينة على المدعي"
الإجماع على مشروعيتها منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم حتى الآن
المعقول : حجة الناس داعية إلى ذلك لأن المنازعات تكثر بين الناس ويتعذر إقامة الحجة الموجبة للعلم في كل خصومة والتكليف يقوم بحسب الوسع.
تحمل الشهادة يجب على من تحملها أن يؤديها لأن تحمل الشهادة على حفظ حقه قال تعالى "ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا"
شروط تحمل الشاهدة العقل والبصر ومعاينة المشهود عليه في مالا تقبل فيه الشهادة بالتسامع كل الموت والنكاح.
أداء الشهادة: من تحمل الشهادة على قول أو فعل فيما كان من حقوق الله تعالى فعلى الشاهد أن يؤدي شهادته حسبة أمام القضاء لأن صاحب الحق هو الله سبحانه وتعالى.
أداء الشهادة يكون في مكان القضاء وبلفظ أشهد
شروط الشاهد العامة والخاصة:
الشروط العامة :
أن يكون من أهل الولاية (البلوغ والعقل والحرية).
اتصافه بما يرجح به جانب الصدق على جانب الكذب (العدالة) وألا يتصف بما يخل بالمرؤة
انتفاء التهمه عنه في شهادته كشهادة الفروع للأصول والعكس وألا تجر له منعه كالأجير والصديق وغير ذلك.
النطق والبصر فلا تقبل شهادة الأخرس والأعمى.
الشروط الخاصة :
الإسلام، الذكورة , الأصالة لا تقبل الشهادة على الشهادة ، العدد
مراتب الشهادة: الحدود، القتل، الردة ، الزنا، القذف، المعاملات، وغيرها.
موافقة الشهادة للدعوى
اليمين
تعريفه وقسم معتبر شرعاً على أمر قد وقع في زمن الماضي أو الحاضر تأكيداً له في مجلس القضاء.
مشروعيته بالكتاب "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان"
من السنة ولكن اليمن على المدعى عليه
الإجماع : أجمعت الأمة على مشروعية اليمين
إلى من توجه اليمين : توجه اليمين إلى المدعى عليه أو العجز عن الإثبات ويوجهها القاضي بدون طلب في دعاوي الحسبة
أنواع اليمين:
الحاسمة : هي اليمين التي يوجهه الخصم إلى خصمه عند عجزه عن الإثبات لحقه حسماً للنزاع
اليمين المردودة : هي اليمين التي يوجهها المدعى عليه إلى المدعي.
يمين الاستظهار: يوجهها القاضي من تلقاء نفسه رغبةً منه في تحري الحقيقة ليستكمل به دليل ناقص في الدعوى وهذه اليمين لا تحسم النزاع إلا أن القاضي أن يقضي على أساسها باعتبارها مكمله لعناصر الإثبات الأخرى القائمة في الدعوى ليبني على ذلك حكمه في موضوعها أو قيمة ما يحكم به.
النكول عن اليمين: هو قضاء بالقرائن
وهي بدلاً عن الإقرار وقائم مقام في قطع الخصومة واستدلال عن ما ذهب إليه والنكول عن اليمين يدل على أن الناكل كاذب في إنكاره السابق ومقر في المعنى بما دعاه المدعي ولولا ذلك ما نكل لأن اليمين الصادقة فيها ثواب بذكر الله تعالى على وجه التعظيم وفيها صيانة المال الحارث وعرضه بدفع تهمة الكذب عن نفسه والعاقل يميل إلى مثل هذا طبعاً.
الأوراق والمسندات
المستندات الرسمية يعمل بها بلا بينه
المستندات غير الرسمية العرفية يعمل بها مع البينه في الإثبات
القرائن
استنباط القاضي أو الشارع أمر مجهولاً من أمراً من أمر معلوم فهي دليل غير مباشر كشهادة أو الإقرار
الدليل : الولد للفراش والعاهر الحجر
ونفي النسب لغيره لا يجوز لمخالفته ذلك للشرع إذ النسب من حقوق الله وله نفيه باللعان
القرائن نوعان:
القرائن القاطعة : كبيع المريض في مرض الموت لوارثه إلا إذا اجازه باقي الورثة وكذا لغيره
القرائن غير القاطعة : وهي تقبل إثبات ما ينقضها كوجود سند الدين تحت يد المدين.
المعاينة : مشاهدة القاضي بنسفه لمحل النزاع.
القيافة: كالعلم بموجود الشبه بين شخصين ليعرف أبينهما نسبه فالبنوة بالأخوة أم لا.
القرعة: تجب عند تساوي الحقوق والمصالح عند النزاع ومنعاً للضغائن والأحقاد والرضي بما جرى به الأقدار.
----------------------------
الحكم بالفراسة والقرائن
أولا: الحكم بالفراسة:
من وسـائـل الإثبات المختلف فيها عند فقهاء الشريعة الحكم بالفراسة، وهل تصلح دليلا يعتمد عليه القاضي في بناء أحكامه، أم لا تصلح دليلا لبناء الأحكام القضائية. وقبل أن نعرض آراء الفقهاء ينبغي معرفة المقصود من الفراسة.
الفراسة لغـة :
الفِراسـة بالكسـر من التفـرس, يقال: تفرّس الشيء إذا توسمه، وتفرّست فيه خيرا: توسّمته، وهو يتفرّس يتثبت وينظر، فالتفرس والتوسّم معناهما واحد أي يفسّر أحدهما بالآخر.
الأصل في الفراسة ومعناها الفقهي :
الأصل في الفراسة قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}. (الحجر: 75).
فذكر أهل التفسير أن المتوسّمين يعني المتفرسين، وذلك اعتماداً على ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم .
فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم تلا الآية ".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسُّم".
يقول الألوسي: "قال الجلال السيوطي: هذه الآية أصل في الفراسة".
معنى هذا أن الفراسـة قد ورد اعتبارها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأنها سمة من سمات المؤمنين، إذ أن الأحـاديث مادحـة للمتفرسين, وأن الفراسـة مدرك من مدارك المعاني؛ لأن المؤمن المتفرس ينظر بنور الله، فالله عز وجل هو الذي يريه ويفيض عليه.
فإذا ثبت هذا فلينظر كيف سارت تفسيرات العلماء للفراسة:
يقول ابن العربي المالكي في تفسير الآية السابقة: "التوسم: هو تفعّل من الوسم وهي العـلامـة التي يستـدل بها على مطلوب غيرهـا, وهي الفراسة وحقيقتها: الاستدلال بالخَلقْ على الخُلق، وذلك بجودة القريحة، ووحدة الخاطر، وصفاء الفكر".
ويقول القرطبي: "هي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها..." وقال ثعلب: "النظـر من القرن إلى القـدم, واستقصاء وجـوه التعـريف, وذلـك يكون بجودة القريحة، وحدة الخاطر، وصفاء الفكر، وزاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا وتطهيره من أدناس المعاصي، وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا".
ويفسرها الحكيم الترمذي بقوله: "والتفرس أن يركـض بقلبه فارساً بنور الله إلى أمر لم يكن فيدركه… وإذا امتلأ القلب من نور الله تعالى نظرت عينا قلبه بنوره فأدرك في صدره مالا يحاط به وصفا".
ويفسرها ابن الأثير بقوله : "الفراسة بمعنيين: أحدهما: ما دل عليه ظاهر الحديث، وهو ما يوقعه الله في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوال الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس. والثاني: يعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق".
نلاحظ أن هذه التفسيرات مترددة بين اتجاهين :
الأول : إن الفراسة علامة يستدل بها على مطلوب غيرها- وأصحاب هذا التفسير يوافقـون المعنى اللغوي، ويقـولون: إن العلامات لما كانت متفاوتة منها ما يظهر من أول وهلة ولكل فرد من الناس، ومنها ما كان خفيا لا يدرك بباديء النظر، كان الخفيّ منها لا يعرفه إلا ذوو التجـربـة وصفاء الفكـر، والفراسة في جميع هذه الأحوال استدلال بالعلامة لا مدخل للإلهام فيها، بل إن أصحاب هذا القـول استنكـروا على الصـوفية وغيرهم ممن يرون أن الفراسة نوع من الإلهام والكرامة.
وقد تمثل هذا الاتجاه في قول ابن العربي وبه أخذ القرطبي وثعلب، وهو المعنى الثاني عند ابن الأثير.
الثاني : إنّ الفراسة خاطر إلهامي يوقعه الله سبحانه وتعالى في قلوب الصالحـين من عباده، فيعـرفـون به أحوال الناس، ويطّلعون على مالا يطّلع عليه العامة، وقد يدركون به أمراً لم يكن بعد.
وهـذا يتمثـل في تفسير الحكيم الترمذي, والمعنى الأول عند ابن الأثـير وإليه أشار القرطبي بقـولـه: "إنها تكون لمن صفى قلبه من كدورات الأخلاق وتفريغ القلب من حشو الدنيا..." الخ.
سواء كانت الفراسة استـدلالاً بالعـلامة أو خاطراً إلهامياً، فإن المتفق عليه في هذه التفسيرات هو أنّ سبيل الإدراك بالفراسة مستتر، وطريق المعرفة بها طريق خفي، وخطوات الاستنتـاج فيها غير ظاهرة إلا لمن صفى فكـره وكـان حادّ الـذكـاء، أو كان من المؤمنين الصادقـين الـذين مدحتهم الآية والأحاديث وذكرت أنهم ينظرون بنور الله فتكون فراستهم صادقة ويطرد صوابها.
وجـدير في هذا المقام، وحتى يتبيّن لنا معنى الفراسة، أن نذكر جانباً من الآثار التي أوردها الفقهاء تمثيلا للفراسة.
أولا: ما روي من فراسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
أ ـ أنه قال: "يا رسـول الله لو اتخـذت من مقـام إبـراهيم مصلى" ونزلت الآية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}. (البقرة: 125).
ب ـ أنه قال: "يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن. فنزلت آية الحجاب".
ج ـ أنـه قال حين اجتمـع على رسـول الله صلى الله عليه وسلم نسـاؤه في الغـيرة: "{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُن}. فنزلت كذلك". (التحريم: 5).
هـ ـ أنـه دخـل عليـه قوم فيهم الأشتر فصعّد فيه النظر وصوّبه، وقال: "أيهم هذا؟" قالوا: "مالك بن الحارث"، فقال: "ماله قاتله الله إني لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا"، فكان منه في الفتنة ما كان.
ثانيا : ما روي عن ذي النورين عثمان رضي الله عنه :
أ ـ أنه دخل عليه بعض الصحابة، وكان قد مرّ بالسوق فنظر إلى امرأة, فلما نظر إليه عثـمان قال: "يدخـل أحـدكم عليّ وفي عينيه أثر الزنا". فقال له: أَوَحْياً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟, قال عثمان: "لا ولكن فراسة صادق".
ب ـ أنـه لما تفرّس أنـه مقتول ولابد، أمسك عن القتال والدفع عن نفسه لئلا يجري بين المسلمين قتال وآخر الأمر يقتل هو، فأَحبَّ أن يُقتل دون أن يقع قتال بين المسلمين.
ثالثا: ما روي من فراسة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الحسين بن علي رضي الله عنهما لمّا ودَّعه قال: "أستودعك الله من قتيل"، ومع الحسين رضي الله عنه كتب أهل العراق تناشده الحضور لنصرته، فكانت فراسة ابن عمر أصدق من كتبهم.
رابعا : ما روي من فراسة الشعبي- رحمـه الله أنه قال لداود الأزدي - وهو يماريه-: "إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك", فكان كذلك.
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة تجل عن الحصر، ولكن الذي يبدو كـما ذكرت هو خفاء طريق الاستنتاج، وأن المتفرس يدرك الأمر بأسلوب مستتر، فقد يكون استنتاجه هذا مبنياً على علامات خفية تفرسها، وقد يكون مبنيا على خواطر إلهامية قذفها الله في قلبه ونطق بها لسانه.
القضاء بالفراسة في آراء الفقهاء:
لما كان الاستدلال بالفراسـة لا يقـوم على أسس واضحـة ظاهرة حيث أنّ خطوات الاستنتاج فيها خفية غير معروفة لغير المتفرِّس فقد منع جمهور الفقهاء بناء الأحكام القضائية على الفراسة، وقالوا: إنها لا تصلح مستنداً للقاضي في فصل الدعوى، إذ أن القاضي لابد له من حجة ظاهرة يبني عليها حكمه.
يقول الشيخ الدردير المالكي فيما يتصف به القاضي: "فالمطلوب الدهاء ويندب ألا يكون زائدا فيه عن عادة الناس، خشية أن يحمله ذلك على الحكم بين الناس بالفراسة وترك قانون الشريعة من طلب البيّنة وتجريحها، وتعديلها، وطلب اليمين ممن وجهت إليه وغير ذلك".
ويقول ابن العربي المالكي: "إذا ثبت أن التوهّم والتفرّس من مدارك المعاني، ومعالم المؤمنين، فإن ذلك لا يترتب عليـه حكم، ولا يؤخـذ به موسـوم ولا متفرس، فإن مدارك الأحكام معلومة شرعاً، مدركة قطعاً، وليست الفراسة منها".
وجـاء في تبصرة الحكّـام لابن فرحـون قولـه: "والحكـم بالفراسة مثل الحكم بالظن والحـرز والتخمـين، وذلـك فسق وجـور من الحكم، والظن يخطئ ويصيب"، ثم بيّن الشـاطبي في كتـابـه الموافقات: أن الفراسـة لا تصلح مستنـداً للقاضي في حكمـه لأن الاعتبـارات الغيبيـة لا دخـل لها في بنـاء الأحكـام القضائيـة، فالرسـول صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم المتفرِّسين - لم يعتـبرها دليلا يعتمد عليه فقال: "إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجتـه من بعـض، فمن قضيت له بحق أخيـه شيئـا بقـولـه فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها". فقيّد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك".
كـما أن صاحب (معين الحكام) الحنفي قد ذكر من القول في منع الحكم بالفراسة مثل ما قدمناه عن صاحب تبصرة الحكام، وأن الحكم بها حكم بالظن والتخمين.
رأي ابن القيـم :
خالف ابن القيم جمهـور الفقهاء وذهب إلى القول بجـواز الحكم بالفراسة وقال إنها مدرك صحيح للأحكام، واستخراج الحقوق وفصل الدعاوى، ومن قوله في ذلك: "ولم يزل حذّاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدّموا عليها شهادة ولا إقراراً".
وهو في ذلك يرى أنّ الفراسة من القرائن، ويفسِّرها بالعلامة، ويظهر ذلك من فحوى اعـتراضـه على تفرقـة أبي الوفاء بن عقيل- أحد فقهاء الحنابلة - بين الفراسة والأمارات. قال: "وسئل أبو الـوفـاء بن عقيل عن هذه المسألـة - أي مسألة الحكم بالقرينة والأمارات - فقال: "إن الحكم بالقرينة ليس من باب الحكم بالفراسة التي تختفي فيها خطوات الاستنتاج".
فاعترض ابن القيم قائـلا: "وقـول أبي الـوفاء بن عقيل ليس هذا فراسة فيقال: لا محذور في تسميته فراسة، فهي فراسة صادقة، وقد مدح الله الفراسة وأهلها في مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وهم المتفرسون الآخذون بالسّيما وهي العلامة2.
ومن هنا يتضـح لنا أن ابن القيم لا يفرّق بين الاستـدلال بالعـلامـات كانت هذه العلامات خفية لا تدرك إلا للمتفرسين، أم كانت ظاهرة تدرك لكل أحد، ومع أنه قد ذكر جانبـاً من الأمثلة التي تقـدّمت عن الفراسة التي يختفي فيهـا طريق الاستـدلال بالعـلامة ويتضـح فيها جانب الإلهام كتلك التي قدمناها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إلا أنه يرى أن كل ذلك استدلالا بالعلامة ويجوز بناء الأحكام القضائية عليه.
وزيادة على ذلك فقد استدل ابن القيم على القضاء بالفراسة بما كان يفعله إياس بن معاوية وشريح، إذ اشتهر عنهما ذلك، وذاع ذكاؤهما وحسن فراستهما, وقد أورد ابن القيم في الطـرق الحكميـة آثـارا كثيرة عنهـما تنم عن ذكاء وصفاء فكر وحدّة فراسة تميّزا بها في إرجاع الحقوق إلى أهلها.
تعقيـب
ومن رأينا أن الفراسة لا تصلح مستندا لحكم القاضي وفصل الدعاوى وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء خلافا لابن القيم، وذلك للأسباب التالية:
الأول: أنه لم يرد في الشرع الحكيم ما يدل على اعتبارها والأخذ بها في القضاء، ومع أن الله عز وجل قد مدح المتفرّسين، وأنه تعالى هو الذي يفيض عليهم ويهديهم هذه المعارف التي لا يدركها غـيرهم، إلا أن مدارك الأحكام القضائية معلومة شرعا، وقد وضّحها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم خير المتفرسين وأفضلهم وأعرف الناس بالناس. قال: "إنكم تختصمون إليّ.." الحـديث, فلم يجعـل للاعتبارات الخفية مدخلا، ولم يترك لوسائل الاستنباط غير المنضبطة والمستترة مجالا.
ثانيا: لما كانت الفراسة غير مدركة بالعين الحسية، فقد يكون الاحتجاج بها مدخلا لذوي النفـوس المريضة والأغراض والـدعاوى الباطلة، فيحكمـون بما يوافق أهواءهم وأطماعهم مما يؤدي إلى اختلاف الأحكام وفساد القضاء.
ثالثا: إذا كنا قد وافقنا الفقهاء القائلين بعدم السماح للقاضي القضاء بعلمه لكون طريق الإثبات غير معـروف لغـير القاضي، فمن باب أولى ألا نوافق في القضاء بالفراسة لنفس السبب. وإن كان فسـاد الزمـان من أسباب منع القاضي أن يقضي بعلمه فهو أيضا سبب كاف لمنع الحكم بالفراسة.
رابعا: قول ابن القيم -رحمـه الله- "إن الفـراسـة من الاستدلال بالعـلامة" محل نظر لوجود حالات كثيرة للفراسة يختفي فيها الاستدلال بالعلامة، وفيما قدّمنا من أمثلة دليل صادق على صحة قولنا. أما الفراسة التي يكون الاستدلال فيها مبنيا على العلامة الظاهرة فحكمها ملحق بحكم العمل بالقرائن والعلامات. وهو ما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.
أما فعل إيـاس بن معاويـة وشريح، فقد رجعت إلى كثير من القضايا المأثورة عنهما ووجـدت استـدلالهم بالعـلامة الظاهرة واضحا، غير أنه يظهر جليا ذكاؤهما وفراستهما في الوصول إلى هذه العلامة. ثم إن القضاة ليسوا كإياس وشريح حتى يسيروا سيرهما. كـما أنّ جمهور الفقهاء لا يتفق معهم على الأخذ بمنهجهما في القضاء.
وعلى هذا أرى أن الفراسة لا تصلح أن تكون طريقاً من طرق الإثبات في الفقه ا لإسلامي.
ثانيا: ا لحكم بالقرائن:
معنى القرينة لغـة:
القرينة، جمعها قرائن، قارن الشيء يقارنه مقارنة وقرانا: اقترن به وصاحبه, وقارنته قرانـا: صاحبته، وقرينـة الرجل: امرأته، وسميت الزوجة قرينة لمقارنة الرجل إياها. وقرينة الكـلام ما يصاحبه ويدل على المراد به. والقرين المصاحب, والشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه, وفي الحديث: "ما من أحد إلا وكّل به قرينه" أي مصاحبه من الملائكة والشياَطين.
معنى القرينة اصطلاحا:
لم أعثر فيـما اطلعت عليه من كتب الفقـه القديمة على تعريف للقرينة إلا ما ورد في كتاب "التعريفات" للجرجاني حيث يقول: "القرينة: أمر يشير إلى المطلوب". وما نقله العلامة ابن نجيم المصري الحنفي عن ابن الغرس من قوله: "من جملة طرق القضاء القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به". وأيضا ما جاء في مجلة الأحكام العدلية من أن: "القرينة القاطعة هي الأمارة البالغة حدّ اليقين".
هذه التعـريفات وان اختلفت كلماتها إلا أنها تتفق على أن القرينة أمر أو أمارة أي علامـة تدل على أمر آخر وهـو المراد، بمعنى أنّ هناك واقعة مجهولة يراد معرفتها فتقوم هذه العلامـة أو مجمـوعة العلامات بالدلالة عليها، وهي لا تختلف عن المعنى اللغوي لأن هذه العلامات تصاحب الأمر المجهول فتدل عليه، أي تدل عليه لمصاحبتها له.
والقرينة في مجال الإثبات هي العـلامات التي تدل على الواقعة المجهولة التي يراد إثباتها عند انعدام أدلة الإثبات الأخرى الأقوى من إقرار أو بينة.
مثال ذلك : أن يرى شخـص الله عليه وسلم يحمل سكينا ملطخة بالدماء وهو خارج من خربة خائفا يرتجف، فيدخـل شخـص أو أشخـاص الخربة على الفور فيجدون آخر مذبوحا لتوه مضرجا بدمائه وليس في الخربة غيره. فالواقعة المراد إثباتها هي شخصية القاتل والعلامات التي تدل عليها هي خروج ذلك الرجل وبتلك الهيئة التي تحمل على الاعتقاد أنه القاتل، وذلك عند عدم اعترافه أو قيام البيّنة على القاتل. فالاعتراف والبينة دليلان يتناولان الواقعة المجهولة مباشرة، أما العلامات فإنها تدل عليها دلالة أي يؤخذ منه بالدلالة والاستنتاج حكـم الواقعة المجهولة.
الفرق بين القرينة والفراسة :
بناء على ما قدمنا من تعـريف للقرينـة، وبناء على ما قدمنا من قول في الفراسة فيمكن تلخيص الفرق بـين القرينة والفراسة في النقاط التالية:
أولا: أن القرينـة علامـة ظاهرة مشاهدة بالعيان، كمن يرى رجلا مكشوف الرأس وليس ذلك من عادته يعدو وراء آخر هارباً وبيد الهارب عمامة وعلى رأسه عمامة، فهذه قرينة مشاهـدة بالعـين الحسيـة ودلالتها كـما يقول العلماء واضحة على أن العمامة للرجل مكشوف الرأس، ولا يقال عمن يرى هذه العلامة ويستنتج هذا الحكم إنه متفرس.
ثانيا : أن رؤية القرينة لا تتطلب مواصفات معينة في الرائي، كصدق الإيمان وصفاء الفكـر وحّـدة الـذكـاء، وذلك لأن خطوات الاستنتاج فيها ظاهرة واضحة، حتى أن الدقيق منهـا كتلك التي تقـوم على التجـارب العلمية لها أسسها وضـوابطها وقانونها الذي يسهل الاطلاع عليه ومعرفته، أما الفراسة فهي تتطلب مواصفات معينة في المتفرّس، صدق إيـمان أو حّدة ذكاء وصفاء فكر، وذلك لأن خطوات الاستنتاج فيها مستترة خفية.
ثالثا: إنـه يمكن أن تقـام البيّنـة على وقـوع القرينة ويتأكد القاضي من ثبوتها ففي المثال المتقدّم قد يشهد اثنان أو أكثر على رؤية الواقعة، أما الفراسة فلا يتوفر فيها ذلك، فلا يستطيع أحد الشهادة عليها وإن صحّ وقوعها على قلب اثنين أو أكثر فتلك حالة نادرة.
رابعا: القرينـة قد تصلح دليلاً لبناء الأحكام القضائية ومستنداً للقاضي في فصل النزاع كـما سنبين ذلك. أما الفراسة فلا يصح الحكم بها على قول جمهور الفقهاء خلافاً لابن القيم.
القرينة والعرف :
وقبل أن نبيِّن آراء الفقهاء في القضاء بالقرينة نشير إلى ما لاحظناه من ارتباط وثيق بين القرينة والعرف.
والعرف : هو ما تعارف عليه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك, بحيث لا يخالف دليـلا شرعيـا أو يحلّ حرامـا أو يبطـل واجبا، والعرف بهذا المفهوم قد راعته الشريعة طالما أن الناس تعارفوا عليه واتفق مع حاجاتهم ومصالحهم، فقد راعى الشارع الحكيم عرف العرب ففرض الـدية على العـاقلة واعتبر العصبية في الإرث ولهذا يقول الحنفية: "المعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً" و"الثابت بالعرف كالثابت بالنص", وقد غيّر الإمام الشافعي- رحمه الله - بعض أحكام مذهبه بعد أن ذهب إلى مصر لاختلاف أعرافهم عن أعراف أهل العراق.
ويظهر ارتباط القرينـة بالعـرف في صور يشكـل فيها العـرف قرائن تجب مراعـاتها وملاحظتها، مثال ذلك: لقد تعارف الناس على البيع بالتعاطي وهو التبادل بين المتعاوضين من غير لفظ، فهذا عرف وهـو في نفس الـوقت قرينة دالـة على رضا الطرفين بالبيع، وقد استجاب الفقهاء لمتطلبات العرف وتحرّروا بموجب هذه القرينة عن التقيُّد بشكلية اللفظ.
ومن أظهر الصور التي جعلوا فيها العرف قرينة تجب مراعاتها في فهم الدعوى مسألة تنازع الزوجين في متاع البيت, وفى هذا يقـول القرافي المالكي: "إنّ الإشهاد بين الزوجين يتعذر لأنهما لو اعتمدا ذلك، وأن من كان له شيء أشهد عليه أدى إلى المنافرة وعدم الوداد بينهما، وربما أفضى إلى الطلاق والقطيعة, فهما معذوران في عدم الإشهاد وملجآن إليه، وإذا الجاَ لعدم إشهاد فلو لم يقض بينهما بالعادة لانسد الباب بينهما".
ومن ذلك أيضا قولهم : إن الزوجين إذا اختلفا في قدر المعجل والمؤجل في المهر ولا بينة لأحدهما فالقول لمن شهد له العرف.
يستفاد من هذا أن العرف قد يكون قرينة تدل على ما يطلب معرفته فلذلك كان لابد من ملاحظته ومعرفته عند نظر الدعوى, لأجل هذا فقد نبّه الفقهاء على القاضي بالتعرف على أحوال الناس وعاداتهم وما تواضعوا عليه لأنه بذلك تتبين له الدعوى ويعرف المحق من المبطل. ومن يرجع إلى ابن القيم في كتابيه الطرق الحكمية وأعلام الموقعين، وابن فرحون في تبصرته، والطرابلسي في كتابه معين الأحكام، لوجد ما فيه الكفاية من حث القاضي على معرفـة العـرف. ثم إن الفقيه الحنفي ابن عابدين قد ألف رسالة في هذا الشأن أسماها "نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العُرف"
ومـع هذا التـداخـل بين القرينة والعـرف يجب ألا يغيب عن نظـرنا التفرقة بينهما، فالقرينة كـما قدمنا هي العلامات التي يستنتج منها الواقعة المجهولة التي يراد إثباتها أو الحكم فيها، فقد تكون هذه العلامات مستفادة من أعراف الناس وما تواطأوا عليه، وقد تكون من غير ذلك. بمعنى آخر إن للقاضي أن يبني حكمه بناء على قرينة تعارف الناس على كذا، وقد يبنيه على علامات أخرى في الدعوى ليست مستفادة من العرف والعادة. ومن ثم فإن دائرة القرينة في مجال الإثبات أوسع لأنها تضم العرف وغيره.
القضاء بالقرينـة :
لم تحظ القرينة بالاتفاق على صلاحيتها كدليل لبناء الأحكام القضائية إلا أنه بالرغم مما يبدو لنا من خلاف حول تحكيم القرائن في فصل النزاع القضائي، فإن جميع المذاهب لا تخلو من إعمال القرائن في بعض المسائل حتى ولو كان ذلك تحت ستار العرف والعادة. ولكن هذا التحكيم للقرائن يختلف من مذهب لآخر، فيتسـع مداه لدى فقهاء المالكية ومتأخري الحنابلة ويتوسط لدى الحنفية ويضيق عند فقهاء الشافعية والظاهرية.
وقبـل أن نعـرض أمثلة توضـح أخـذ المـذاهب المختلفـة بالقرائن نطرح أولا أدلـة الفريقين، القائلين بتحكيم القرائن والمانعين لها.
أدلة القائلين بالقرينـة:
أولا: القرآن الكريم:
لعل من نافلة القـول أن نذكـر أنـه ليس في القرآن الكريم نص قطعي الدلالة على اعتبار القرينـة في الأحكـام أو عدم اعتبـارها, ولكن القائلين بالقرينة قد استنبطوا اعتبارها بدلالة ظنية لبعض النصوص في القرآن الكريم ورأوا جواز الأخذ بها.
والآيات التي استنبط منها الفقهاء جواز الأخذ بالقرينة في الأحكام هي :
(1) قولـه تعـالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}. (يوسف 18)
(2) قولـه تعـالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ, قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم}. (يوسف: 26- 28).
ومحـل الاستـدلال الوارد في هذه الآيات ما ذكـره المفسـرون من أنّ يعقوب -عليـه السلام- استدل بقرينة سلامة القميص من التمزيق عَلى كذب دعوى إخوة يوسف- عليه السلام - بأن الذئب قد أكله, وكذلك استدل الشاهد بقرينة قدّ القميص من دبر على كـذب امرأة العزيز وبراءة يوسف- عليه السلام-.
ونرى الآن منهجهم في استنباط حكم القرينة من هذه الآيات.
الشاهد الأول:
يقول ابن العربي المالكي عن قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ...} الآية: "فيها ثلاث مسائل- نذكر منها:
المـسألـة الأولى : إنـما أرادوا أن يجعـلوا الدم علامة على صدقهم فروي في الإسرائيليات أن الله تعـالى قرن بهذه العلامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التلبيب. والعـلامـات إذا تعـارضت تعـيَّن الـترجيـح، فيقضى بجانب الرجحان وهي قوة التهمـة لوجـوه تضمنها القرآن، منها طلبهم إياه شفقة ولم يكن من فعلهم ما يناسبها فيشهد بصـدقها بل كان سبق ضدهـا وهي تبرمهـم، ومنها أن الـدم يحتمـل أن يكون في القميص موضـوعـاً، ولا يمكن افتراس الـذئب ليـوسف وهـو لابس القميص ويسلم القميص من تخريق، وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات (العلامات) وتعارضها.
المسألة الثانية : القضاء بالتهمة إذا ظهرت كما قال يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ولا خلاف في الحكم بالتهمة, وإنـما اختلف الناس في تأثير أعيان التهم".
ومن ذلـك أيضـا قول القرطبي في تفسيره "استـدل فقهاؤنا بهذه القرينة على إعمال الأمارات في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها وأجمعوا على أنّ يعقوب -عليه السلام- استدل على كذبهم بصحـة القميص, وهكـذا يجب عَلى النـاظر أن يلحظ الأمارات والعلاقات إذا تعارضت, فـما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهى قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها".
الشاهد الثاني :
إنه لما نشب النزل بين يوسف -عليه السلام- وامرأة العزيز التي قذفته بـما قذفته من إرادة الفاحشـة، قال يوسف -عليـه السـلام- مكـذبـا لها، ودفعا لما نسب إليه، {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} فعند ذلك جاء دور الشاهد الذي وصفه القرآن الكريم بأنه من أهلها والذي فصل الخطاب بـما ذكره من القرائن التي بان بها الحق وانفض بها النزاع.
والقرائن التي ذكـرهـا الشـاهـد هي أنـه إذا كان قميص يوسف قدّ من القبـل فالمرأة صادقة في دعواها بأنه هو الذي أرادها، أما إذا كان قدّ من دبر فهي كاذبة ويوسف بريء من التهمة. والحاصل أن القميص قدّ من دبر, وهذا دليل إدباره عنها وهو دليل براءته.
وقد يعترض على العلامـة المـذكـورة إذ أنها لا تدل قطعا على براءة يوسف - عليه السـلام - لاحتـمال أن الرجـل قصد المرأة بطلب الفاحشة فغضبت عليه المرأة فعدت خلفه لتضربه، فعلى هذا الوجه قد يتمزّق القميص من دبر، والمرأة بريئة من الذنب.
وأجيب على هذا الاعتراض بأن القرائن كانت كثـيرة وكفيلة بصرف هذه التهمـة عنـه، أمـا القرينة المذكورة في الآية إنما جاءت دليلا مرجحا ومقويا لتلك القرائن، ومن هذه القرائن التي ذكـرهـا المفسرون أن يوسف - عليه السلام- كان عبدا في ظاهر الأمر والعبد لا يمكن أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحـد، كـما أنهم رأوا أن المرأة زيّنت نفسهـا على أكمل الوجـوه، ولم يكن على يوسف -عليـه السـلام- آثـاراً للتزين. ثم إنّ أحوال يوسف -عليه السـلام- في المـدة الطـويلة تدل على براءته إذ لم يروا منه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك مما يقوى الظن. وقيل: إن زوج المرأة كان عاجزا وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة.
فلما حصلت هذه الأمارات الـدالـة على أن مبـدأ هذه الفتنة كانت من المرأة استحى الزوج وتوقف وسكت لعلمـه بأن يوسف هو الصادق والمرأة كاذبة، أظهر الله ليوسف دليلا يقوي تلك الدلائل فجاءت تلك القرينة على لسان الشاهد.
كـما اعترض على هذه القـرينـة من ناحية الشاهد المذكور، فقد اختلفوا فيه فقيل: "إنه كان ابن عم المرأة وكان حكيما يستشره الملك"، وقيل: "إنه طفل تكلّم في المهد". فقالوا: إن كان الشـاهـد طفـلا تكلم في المهـد لا يكـون في الآية دليل على إعمال الأمارات إذ أن الدليل هو كلام الصبي في مهده.
وقد دفع هذا الاعتراض بأنه يستبعد أن يكون الشاهد صبيا بل كان رجلا حكيما وهو الذي ينـاسب سياق الآية، فلو أنطق الله الطفـل لكان كافيا قوله: "إنها كاذبة" ولما احتاج إلى نصب العلامة، ثم قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ليكون أولى بالقبول في حق المرأة ولو كان صبيا لا يتفاوت الحال كونه من أهلها أو من غير أهلها. كـما أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا لمن تقدمت معرفته بالواقعة وإحاطة بها.
وقيل: إنـه لا تعـارض بين كونه صبيا تكلم في المهد وبين الأمارة المنصوبة، فقد يتكلم الصبي, ومع ذلك ينبههم إلى الدليل الذي غفلوا عنه وهي أمارة القميص
وهناك اعتراض ثالث هو أن هذه الآية تبيِّن شرع السابقـين وشرع من قبلنا لا يلزمنا.
وقد أجيب على هذا الاعتراض بالأدلة التي يحتج بها مثبتو العمل بشرع من قبلنا إذا لم يرد دليل على نسخه عنا.
ثانيا : السنة الشريفة وعمل الصحابة رضوان الله عليهم :
كذلـك احتـجّ القـائلون بالقـرينـة في الأحكـام بآثـار كثـيرة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومن هذه الآثار:
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الـذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: "إنما ذهب بابنك ", وقالت الأخرى: "إنـما ذهب بابنك", فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان ابن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكيـن أشقّه بينكما", فقالت الصغرى: "لا تفعل يرحمك الله هو ابنها ", فقضى به للصغرى".
فاستدل بقرينة رضا الكبرى أن يشقّه نصفين وعدم شفقتها عليه أنه ليس ابنها، بينما أشفقت الصغرى وامتنعت عن الدعوى حتى لا يذهب الطفل, فهذا يدل على أنه ابنها إذ أن الله أودع في قلوب الأمهات الشفقة على أبنائهن.
(1) ما روي عن جابر بن عبـد الله رضي الله عنـه قال: "أردت السفر إلى خيبر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جئت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته".
فأقام العلامة مقام الشهادة.
(3) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيّم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا: "يا رسول الله وكيف إذنها؟" قال: "إذنها صماتها". أو قال: "أن تسكت".
فجعل عليه الصلاة والسلام صماتها قرينة على الرضا.
(4) أنـه صلى الله عليه وسلم حينـما صالـح يهود خيبر كان لحي بن أخطب مال كثير فأخفوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم عنه؟ فقال ابن أبي الحقيق عم حيّ ابن أخطب: "أذهبتـه الحروب والنفقات"، فقال صلى الله عليه وسلم: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك", ثم دفعه إلى الزبير فضربه حتى أقر بمكان المال. فيظهر اعتماده صلى الله عليه وسلم على الأمارات وشواهد الحال قرب العهد وكثرة المال.
(5) عن زيـد بن خالـد الجهني أن رجـلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: "عرِّفها سنة ثم اعرف وكاءها ووعاءها وعفاصها ثم استنفع بها فإن جاء ربها فأدها إليه". فأمر رسـول الله صلى الله عليه وسلم الملتقط أن يدفع اللقطة إلى صاحبها بمجرد الوصف لأن وصفه لها بما يطابق الواقع قرينة على ملكيته.
(6) أن ابني عفـراء لما تداعيا قتل أبي جهـل قال لهـم رسـول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسحتـما سيفيكما؟ " قالا: "لا". قال: "فأرِياني سيْفيكُمَا", فلما نظر فيهما قال لأحدهما: "هذا قتله وقضى له بسلبه".
(7) أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالقافة وجعلها من أدلة ثبوت النسب وليس فيئها إلا مجرد العلامات والأمارات.
(8) حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجم المرأة التي ظهر حملها ولا زوج لها ولا سيد. كما ورد في المتفق عليه قوله في شأن الرجم: "وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف" .
(9) كذلك ما ورد في الموطأ وكذلك عن مسلم عن عمر وعثمان وابن مسعود -رضوان الله عليهم - بحد من وجدت منه رائحة الخمر.
هذا نزر قليل من الأدلة الكثيرة التي أوردها مثبتو العمل بالقرائن في القضاء راعيت في اختياره قوة الثبوت ووضوح الدلالة، ولنقف الآن قليلا مع أدلة المانعين لإعمال القرائن في بناء الأحكام القضائية .
أدلة المانعين :
تتركز حجة هؤلاء في خطورة الأخذ بالقرائن لما يحوطها من الاحتمالات من شأنها أن تؤدي إلى القصاص من متهم بريء ، أو إنزال العقوبة على شخص لا يستحق العقاب.
ومن الآثار الواردة في هذا المعنى :
(1) ما روي أنه أتي برجل وجد في خربة بيده سكين ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله علي رضي الله عنه فقال: "أنا قتلته", قال علي: "اذهبوا به فاقتلوه"، فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعاً، فقال: "يا قوم لا تعجلوا ردّوه إلى علي"، فردوه، فقال الرجل: "يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه أنا قتلته" فقال علي للأول: "ما حملك على أن قلت: أنا قتلته ولم تقتله؟" قال: "يا أمير المؤمنين وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحَّط في دمه وأنا واقف وفي يدي سكين وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة، فخفت ألا يقبل مني وأن يكون قسامة فاعترفت بما لم أصنع واحتسبت نفسي عند الله", فقال علي: "بئسما صنعت فكيف كان حديثك؟" قال: "إني رجل قصاب وخرجت إلى حانوتي في الغلس فذبحت بقرة وسلختها، فبينما أنا أصلحها والسكين في يدي أخذني البول فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه، فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا وأخذوني فقال الناس: "هذا قتل هذا ما له قاتل سواه"، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه", فقال علي للمقر الثاني: "فأنت كيف قصتك؟" فقال: "أغواني الشيطان فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت حس العسس، فخرجت من الخربة واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضا، فاعترفت بالحق". فقال للحسين رضي الله عنه: "ما الحكم في هذا؟" قال: "يا أمير المؤمنين إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}" (المائدة:32) فخلّى عليّ عنهما, وأخرج دية القتيل من بيت المال" .
وقد وقع نظير تلك القضية في عهده -صلى الله عليه وسلم- إلا أنها ليست في القتل .
عن علقمـة بن وائـل عن أبيـه: أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجـد بمكـروه من نفسها، فاستغاثت برجل مرّ عليها وفر صاحبها، ثم مرّ ذوو عَدد فاستغـاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر, فجاءوا به يقودونه إليها فقال: "أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر"، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: "إنـما كنت أغثتهـا على صاحبهـا فأدركني هؤلاء فأخذوني", فقالت: "كـذب، هو الذي وقع عليَّ ", فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا به فارجموه", فقام رجل فقال: "لا ترجموه فارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل" واعترف, فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها والذي أغـاثها والمرأة. فقال: "أمـا أنت فقد غفر لك", وقال للذي أغاثها قولا حسنا. فقال عمر رضي الله عنـه: "أرجم الـذي اعترف بالزنا", فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لا. لأنه قد تاب", وفي رواية فقالوا: "يا رسول الله أرجمه", فقال: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم".
وعند الترمذي أمر برجمه، فقال: "ارجموه لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم".
مما لا شك فيه أن هذين الأثرين يوهنان الأخذ بالقرينة ويفتان في عضد الاحتجاج بها ويقويان شبهة المانعين للعمل بها من حيث أن شواهد الحال كثيرا ما تكذب، وأن الأمر يكـون خلاف ما دلت عليـه القرائن الظـاهرة, فلو أخـذنـا بها لذهبت دمـاء وأموال لمجرد الاحتمال. غير أنه لا يفوتنا في هذه المقام أن نورد ما ذكره الإمام ابن القيم- رحمه الله- عن هذين الأثرين.
يقول ابن القيم عن القضية التي عرضت على أمير المؤمنين علي-رضي الله عنه-: "وهـذا إن كان صلحـا وقـع برضا الأولياء فلا إشكال، وإن كان بغير رضاهم فالمعروف من أقـوال الفقهاء أن القصـاص لا يسقـط بذلك؛ لأن الجاني قد اعترف بـما يوجبه ولم يوجد ما يسقطه فيتعين استيفاؤه، وبعد فلحكم أمير المؤمنيـن وجه قوي".
رأي ابن القيم أن القصاص قد وجدت موجباته فليس هناك ما يمنع استيفاءه، اللهم إلا أن يكون قد تم ذلك برضاء الأولياء، فكأنه يرى نقصان الرواية لكونها لم تبين وجه عدول أمير المؤمنين علىّ عن استيفاء القصاص.
أما الحديث الثاني فيقول عنه: "وهذا الحديث إسناده على شرط مسلم، ولعله تركه لهذا الاضطراب في متنه", ويقصد بالاضطراب في المتن ورود رواية بعدم رجم الذي اعترف بالـزنـا, وروايـة الترمذي أنه أمر برجمه. قال ابن القيم: "إن الراوي إما أن يكون قد جرى على المعتاد برجم المعترف، وإما أن يكون اشتبه عليه أمره برجم الذي جاءوا به أولا، فوهم وقال: إنه أمر برجم المعترف. ثم بين أن الذين رجمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون، ولم يكن هذا من بينهم. والظاهر أن راوي الرجم في هذه القصـة استبعد أن يكون قد اعترف بالزنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجمه، وعلم أن من هديه رجم الزاني فقال: "وأمر برجمه".
وبعـد أن بيّن ابن القيم - رحمـه الله- هذا الاضطـراب في متن الحـديث، ووهّم أحد رواته ذكر أن القرائن في هذا الحديث مع أنها دلت على خلاف الواقع، إلا أن الرسول عليه الصـلاة والسـلام قد حكّم القرائن أيضا، وإلا فكيف أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجم المتهم الذي كان مغيثا للمرأة مع عدم إقراره ولم تقم شهادة على رؤية الزنا. قال: "فيقال: - والله أعلم- إن هذا مثال إقامة الحد باللوث الظاهر القوي، فإنه أدرك وهو يشتد هارباً بين أيدي القوم، واعترف بأنـه كان عنـد المرأة، وادعى أنه كان مغيثا لها، وقالت المرأة: "هو هذا" وهذا لوث ظاهر، وقد أقام الصحابة حد الزنا والخمر باللوث الذي هو نظير هذا أو قريب منه وهو الحمل والرائحة… ولما انكشف الأمر بخلاف ذلك تعين الرجوع إليه، كـما لو شهد أربعة بزنا المرأة لم يحكم برجمها إذا ظهر أنها عذراء أو ظهر كذبهم"
يتبين من هذا أن الإمام ابن القيم يرى أن هذين الأثرين لا يمنعان العمل بالقرينة، إنما يؤيدان الحكم بالقرائن إذ أنه عليه السلام أمر برجم الرجل الذي وجد عند المرأة وادّعى إغاثتها وليس هناك ما يدعوه إلى إصدار هذا الحكم بالرجم إلا القرائن الظاهرة. ويرى ابن القيم أن في هذا الحديث تأييداً لمذهبه القاضي بإعمال القرائن في إثبات الحدود.
رأينا في الموضـوع :
تبين مما سبق أن الحديث الذي استدل به من رفـض القرينة اختلفت فيه أقوال الرواة فظهر الاضطراب في متنه، ومع ذلك ففيه الدلالة على تحكيم القرائن. وكذلك الأثر المروي عن علي- رضي الله عنه- وأعوانه فيه اتهام بنقصان الرواية حيث لم تبين كل ظروف القضية المطروحة، ومع ذلك فمن رأيي أن القرائن في هذا الأثر مع أنها دلت على خلاف الواقع إلا أن فيه دلالة على إعمالها أيضا، فالمتهم الأول بالرغم من أنه لم يرتكب الجريمة إلا أنه علم أنـه لا يستطيـع دحـض القرائن الظـاهرة فآثر الاعتراف بـما لم يجنه. ونفس هذه القرائن هي التي جعلت عسكـر علي -رضي الله عنـه- يلقـون القبض على المتهم, ولـو لم تكن القرائن دليلا في الـدعـوى لما قبضـوه ولمـا ذكروا أنه القاتل, وإلا كيف يكون الحال إذا وجدنا رجلا مذبـوحـا وإلى جواره آخر يحمل سكينـا مضرجة بالدماء ثم نتركه لاحتمال أن يكون القاتل غيره، فإن صح وجود قاتل غيره كـما في هذا الأثر فإنه في حكم النادر.
ففي اعتقادي أنـه لا خلاف في أن القـرائن لا تخلو من بعـض الاحتمالات التي توهن اعتبارها وتضعفها كدليل، ولكن يمكن القول بأن هذه الاحتمالات -كـما تدخل في القرينة- قد تدخـل في غيرهـا من طرق الإثبات, فالبينـة قد يتطرق إليهـا كذب الشهود أو نسيانهم، والإقرار قد يدخل الغرض وتحقيق مصلحة ذاتية، ومع ذلك لم يلغ الشارع الحكيم اعتبارهما واعتمادهما كأدلة للإثبات لتوهم هذه الاحتمالات، فالشريعة لها الظاهر والله يتولى السرائر. فإذا كان الاحتـمال قد يدخـل في أقـوى الحجـج الشـرعيـة، فليس هو بحجة يمنع بها اعتبار القـرائن، وكـما يكـون هنـاك ضحـايـا في القـرائن في مثل هذه الاحتمالات، فلا تخلو الأدلة الأخرى أيضا من ضحايا.
ولكن هذه الاحتـمالات ليس هي الغـالب في أحوال القرينة كـما أنها ليست الغالب في الإقرار والبينة. والشارع الحكيم قد عول على الظاهر ودلالة الحال في مواطن كثيرة لا يمكن تجاهلها منها ما ذكرنا ومنها مالا يتسع المجال لذكره. والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إذا رأيتم الرجـل يعتـاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان". فجعل الشهادة على إيـمانه مبنية على الظاهر من حاله وهو ارتياد المساجد. وما الحكـم بعدالة الشهود إلا بناء على الظاهر من حالهم، فالغـالب من الأحـوال أن الظـاهر يطابق الواقع. أما الاحتمال فهو في حيز التوهم، فيجب ألا نلقي بالتعـويـل على القرائن لمجـرده. ثم إننـا بهذا القـول الذي نطلب فيه من القاضي النظر إلى القـرائن والأمـارات نشـترط عليه إمعان النظر والفكر والتثبت فلا يحكم بالقرائن الضعيفـة المتهـافتـة التي لا يقـوى بها الظن على ظهور الحكم. فلا بد أن يؤسس حكمـه على قرائن ظاهـرة يتبـين فيها وضوح الدلالة وقوة الحجة بحيث يكون مطمئنا لذلك الحكم منشرح الصدر.
ثم إن هؤلاء المـانعـين للعمـل بالقرائن إذا كانوا قد عاشوا في مجتمعات سليمة غلب على الناس فيها الأمانة والصدق والورع، مما جعلهم يتورعون إلى هذا الحد ويوجبون على القاضي ألا يتعدّى في أدلته على المذكور، فإنّ أعراف اليوم قد تغيَّرت تماما، وتعقّد أسلوب الحياة، ومـع هذا التعقيـد انعدم الضمير والوازع، وانتشر الفساد وضرب أطنابه، وتكونت للسلب والنهب والسطـو عصابـات وجمعيات ليس في البلد الواحد فحسب بل أصبحت لها شبكـات وفروع عالميـة، وانتشرت دعـاوى التزوير والغش، وسهل التعدي على النفس والعرض والمال، وكل ذلك يتم وقلّ أن يكون في حادثة منها شاهد عيان واحد، أو إقرار ممن قام بها، وليس هناك من الوازع الديني أو الأخلاقي ما يجعل المتهم يقر بحق عليه أو جريمة ارتكبها، ولو تركناه لليمين لحلفها وحلف عليها ألفاً أنه ما فعل ولا أخذ, فلو قصرنا الإثبات على الأدلـة المـذكـورة لما ثبتت جريمة ولا استخلـص حق. ولعمري أن رجال هذا المذهب -مع قلتهم بالنسبـة للقـائلين بالقرائن- لو وقعت عليهم مثل ما يقـع اليـوم من الحوادث والقضـايـا، أو لو أنهم عاشـوا حتى رأوا ما نرى لما توقفـوا في الإفتـاء بـما يوافق متطلبـات هذه الحوادث والمنازعات، خصوصا وقد عرف منهم حرصهم الشديد على إقامة الحق والعدل.
ثم إنه مع هذا التقدم العلمي الذي يشهده عالم اليوم أمكن التوصل إلى قرائن قوية تبين الحق وتعـين على فهم الـدعـوى كالتحليلات المعملية من فحـص للدم وغيره ومطابقة بصـمات الأصـابـع ومضـاهـاة الخطوط وغير ذلك. فإننا إذا أهملنا هذه القرائن وألقينا بها في البحـر بحجـة ما يتطـرق إليها من الاحتمال لعرضنا الشريعة الإسلامية لتهمة الجمود وعدم مسايرة العصر، وهذا ما لم يقله إلا المكابر، فهي شريعة كل وقت وقانون كل جيل، وما هذه الفتاوى المأخوذة من أصولها المعروفة إلا دليل مرونتها وقابليتها لحكم الأجيال المتعاقبة.
وعليه فإنه لا مناص من الأخذ بالقرائن والرجوع إليها في بناء الأحكام القضائية إذا لم يكن من دليل غيرها وفقاً على فتوى الكثيرين من الفقهاء -كـما رأينا وسنرى إن شاء تعالى-.
على أننا حينما نؤيد الأخذ بالقرائن ونرى ضرورة مراعاتها عند بناء الأحكام القضائية لا نلقي هذا القول على عواهنـه ونطلقـه بلا حدود، فالقرائن التي نرى الاحتكام إليها هي تلك القرائن التي تكـون واضحـة الـدلالـة في الـدعوى ظاهرة في محل النزاع، لا القرائن الضعيفة التي يتسع فيها باب الشك والاحتمال.
كـما أننا نرى ضرورة المحافظة على مقاصد الشرع الحكيم ومراعاة منهجه في الإثبات، فالـدعـاوى التي تكـون منهـج الشـارع فيهـا التشدد في الإثبات والحيطة في تطبيق عقوباتها كجـرائم الحـدود ينبغي ألا يكـون هنـاك توسّـع في إثباتها أو إعـمال للقرائن لدرجة يخل بنظام الشـارع، إذ أن هذا النـوع من القضايـا ليس متروكـا لاقتناع القاضي بارتكـاب المتهم للجريمة، ولذا فقد جعل له الشارع نظاما مقيَّدا في الإثبات، وزاد في أمر التثبت والنظر دون ما هو معهود في غيرها من القضايا، كـما طلب من القاضي أن يفسر كل شك يطرأ في الدعوى لصالح المتهم، فإذا وجد أي شبهة تصرف الحد عن المتهم دفع عنه الحد لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
القرائن في نصوص الفقهاء:
ليس مقصودي في هذه الفقرة أن أسجِّل دراسة نصِّية للقرائن عند الفقهاء فإن ذلك لا يتسـع له المجـال. ثم إني قد جعلت هذه الـدراسـة في كتـاب أعـدّ لطبعه بإذن الله تعالى. تناولت فيه أنواع القرائن وتطبيقاتها على الدعاوى سواء كانت دعاوى الجنايات أو المعاملات أو الـدعـاوى التي تقـع في دائـرة الأحوال الشخصيـة كـما تنـاولت فيه نظرة الفقه الإسلامي للقرائن المستحدثة التي أبرزتها العلوم المعاصرة. أما الذي أقصده من هذه الفقرة أن أبيِّن في عجالة ملاحظاتي عن تلك الدراسة.
الناظر في مذاهب الفقهاء يبدو له من أولى وهلة أن الفقهاء على فريقين، فريق يرى عدم الاعتداد بالقرينة ويقول إنها لا تصلح حجة في بناء الأحكام القضائية, وفريق آخر يراها حجة يجوز للقاضي عدها من أدلة الإثبات والفصل في الدعوى بناء على دلالتها.
لننظر مثلا في هذا النص الذي نقلناه عن العلاّمة الحنفي ابن نجيم المصري يقول في كتابـه البحـر الرائق: "إعلم أنـه قد ظهـر من كلام المصنف أنّ طرق القضاء ثلاثة: بيّنة، وإقرار، ويمين ونكـول عليه, أو القسامة أو علم القاضي بما يريد أن يحكم به... قال ابن الغـرس -ولم أره حتى الآن لغيره-: "أو القرائن الـدالـة على ما يطلب الحكم به دلالـة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به "، قال الخير الرملي-أي عن قول ابن الغرس في القرائن-: "هذا غريب خارج عن الجادة فلا ينبغي التعويل عليه ما لم يعضده نقل من كتاب معتمد".
هذا النص يبيّن لنا اختلاف فقهاء المذهب الحنفي في الاحتجاج بالقرينة، ولكن عند التحقيق نجد أن فقهاء المذهب الحنفي قد اتفقوا على الاعتداد بالقرائن في بعض المواضع، ولـذا فإننا نقـول إنـه لا يخلو مذهب من هذه المـذاهب من الاحتجـاج بالقرينة, ولكن هذا الاحتجـاج يختلف من مذهب لآخر، فبينما يتسع مداه عند فقهاء المالكية ومتأخري الحنابلة ليشمل إعمال القرائن في الحدود والقصاص، يضيق لدى فقهاء الشافعية والظاهرية الذي اقتصـدوا في الاحتجاج بها ولم يأخـذوا بها إلا حيث بلغت من القوة مبلغ اليقين وأصبح عدم الأخذ بها يخالف بداهة العقول أو يخالف النص الصريح.
ونبرهن على صحـة هذا القـول بعـرض موجز لبعـض القرائن التي تحدث عنها الفقهاء، وسأكتفي بسـرد موجز لآرائهم, مشيرا إلى المواطن التي اعتمدت عليها في النقل عنهم حتى يتمكّن من يريد الاستزادة في هذا الخصوص من الرجوع إلى هذه المصادر.
أ ـ قرينة الحيازة ودلالتها على الملك :
والحيازة هي وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه. ولا فرق بين الحيازة ووضع اليـد عند فقهاء الشريعـة إذ المقصود هو الاستيلاء على الشيء بصورة مختلفة, فإذا وضع شخص يده على دار أو أرض تصير تلك الدار أو الأرض في حيازته، وترتب على ذلك حماية تلك الحيازة واحترامها، وعُدَّ ذلك المال المحاز من أملاكه وذلك بناء على أمرين هامين:
الأول: القاعدة الفقهية التي تقضى بأن "الأصـل في الإنسان البراءة" وأنّ الناس محمولون على السلامة، فـما لم يثبت أن الشخص مقيَّد أو غاصب فالأصل أنه بريء.
الثاني: ما جرت عليـه العـادة ومـا عرف من غالب أحوال الناس أنهم يتصرفون في أملاكهم، فإذا حاز الإنسان شيئا وتصرف فيه، فالغالب أنه يتصرف في ملكه ما لم يقم دليل على عكس ذلك.
وبناء على ذلـك فإنّ أقـلّ أحوال ثبوت هذه اليد عند الفقهاء أنها تفيد الملك كـما يدل عليه ظاهر الحيازة، وعليه فإنه يجب حماية هذه الحيازة وذلك بعدم انتقال الملكية من الحائز إلا بناقل أرجح من هذه القرينة الظاهرة، أي قرينة الحيازة، والناقل الأرجح عند الدعوى هو إما الإقرار أو البيّنـة أو قرائن أخرى تكـون دلالتها أقوى من دلالة الحيازة وأظهر في حجيتها من دلالة الظاهر.
هذا المعنى في الحيازة متفق عليـه بين الفقهاء. ومن أهم مميزات هذه القـرينـة أنها وضعت حلاً للمشكلات التي تبدو في سبيل تمييز المدّعي من المدّعى عليه، مستفيدين بذلك من دلالة الظاهر التي تفيد أنّ الحائز يتصرّف في ملكه، وعلى مدّعي الملكية في مواجهة الحائز إثبات دعواه.
ب ـ قرينة الاستعمال وقرينة الصلاحية:
قلنا إنّ الفقهاء اتفقوا على أن الحيازة قرينة على الملكية لما تدل عليه شواهد الأحوال، غير أنّ الحيازة وحدها قد لا تضع حداً لكثير من المنازعات، وخاصة إذا كان الشيء المتنازع عليـه في أيدي المتـداعيين يستعملانه أو يتجاذبانه بحيث تكون يد كل واحد منهما عليه، لم يقف الفقهاء عند ذلك مكتوفي الأيدي إنما رجعوا للقرائن المرجحة، والقرائن المرجحة هي:
1ـ قرينة الاستعمال :
وفكرة هذه القرينة تقوم على أساس أنّ اليد دليل الملك كـما قدمنا، فإذا تداعا اثنان في الشيء وكـان في يد أحـدهما، قدّم من كان في يده إذا لم يقدِّم المدَّعي بينة استحقاقه للشيء المتنازع فيـه، فيـترك لمن كان في يده، أمـا إذا تداعيا الشيء وكان في أيديهما، يقوم من كان استعماله للمال المحاز أظهر، ذلك أنَّ الحيازة تقوم على أساس استعمال المال والتصرّف فيه، إذ لا معنى لحيازة الشيء دون تصرف فيه، فالأموال جعلت للاستفادة منها. ومن تم قالوا: كلما كان أحـد المتـداعيـين مستعمـلا للمال المتنازع فيه، ومتصرفا فيه تصرفا يميزه عن الآخر بحيث يجعل سيطرته عليه أكثر وأرجح، ترجح جانبه وقضى له بناء على قرينة استعماله لهذا المال.
ويظهـر جليا اعتـداد فقهاء الحنفيـة والمالكية والشافعية بهذه القرينة في المسائل التي بحثـوهـا في باب "مسـائـل الحيطـان " أو باب "التنازع بالأيدي" أو باب "الشهادات" أو باب "الدعاوى والبينات ". ومن المسائل التي ظهر فيها اعتدادهم بهذه القرينة، قولهم: "إذا تداعيا حائطا وكان لأحدهما عليه جذوع ولا شيء للآخر يقضى به لصاحب الجذوع لأنه مستعمل للحـائـط والاستعـمال دليـل الصـدق, وإذا تنـازعـا في دار يقـدّم ساكن الدار على الذي لا يسكنها, ومن حفر فيها بئراً أو أحدث فيها بناءً يقدَّم على غيره, وإذا تنازعا دابة يقدَّم راكبها على المتعلق بلجامها.. كل ذلك مع الاستهداء بـما يقضي به العرف وشواهد العادات في مثل هذه الأحوال"
ومن الـذين اقتصدوا في الاعتداد بهذه القرينة ابن حزم الظاهري فيرى فيما ذكرنا أن يد المتنازعين متساوية فيقسم المتنازع فيه بينهما.
2- قرينة الصلاحية :
وتقـوم فكـرة هذه القرينة على أساس ترجيح أحد الجانبين بناء على صلاحية الشيء المتنازع فيه لأحد المتداعيين، يعني أن يكون ذلك الشيء ملائـماً له بحسب العرف والعادة، كأن يكـون أداة صنعتـه أو آلة حرفتـه، أومن مستلزمـات مظهره حسب نفوذه أو مركزه في المجتمـع ومـا عرف به بـين الناس، ومن أمثلة ذلك الجلد للدباغ أو العطر للعطار أو السفينة للملاح أو الفـرس للأمـير وذي الجـاه وغير ذلك من الأشياء التي تصلح لأحد الجانبين، في الوقت الذي يكون هذا الشيء ليس من مستلزمات أو أداة حرفة للجانب الآخر، وكـما قلت إن أثر هذه القرينة يبدأ حينما يكون أيدي المتداعيين متساوية على الشيء المتنازع فيه.
وقد قال بالترجيح بهذه القرينة فقهاء المالكية والحنفية والحنابلة، ومنع من الترجيح بها الإمـام الشافعي وابن حزم الظاهري بحجـة أنَّ ذلك يخالف قاعدة الدعوى من أنّ كل من يدّعي حقا فعليه إثبات دعواه ولا ينظر لصلاحية المدّعى به له أو لغيره.
ج ـ في دعوى ملكية اللقطة
أخذ الفقهاء بقرينة مطابقة الوصف دليلا على ملكية الـواصف -بمعنى أن الـواصف للقطة إذا ذكر وصفاً مطابقاً للواقع، جاز للملتقط تسليمه اللقطـة- ومن ثم لا يلزمـه ضمان المـال إذا اتضـح أنّ الواصف ليس هو المـالك عند المالكية والحنابلة والظاهرية وهو الصحيح في نظري, ويلزم بالضمان عند الشافعية .
د ـ قرينة التهمة
أدت إلى تقييد تصرفات المريض في مرض الموت، فلا تنفذ تصرفاته المنجزة سواء أكانت تبرعية أم بعوض إلا في حدود ثلث أمواله مراعاة لحق ورثته. خالف في ذلـك ابن حزم الظاهري ولم يعتد بقرينة التهمة وجعل تصرفات المريـض نافذة كتصرفات الأصحاء. ورأي الجمهور هو الظاهر الغالب.
ه ـ لم يعتد جمهور الفقهاء بالقرينة في إثبات الحدود
، وذهب فقهاء المالكية وابن تيمية وابن القيم وهو قول عن الإمـام أحمـد إلى القـول بثبـوت الحدود ببعض القرائن وهي قرينة الحمـل في الـزنـا في المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، وقرينة الرائحة أو السكر أو القيء في حد الخمر، والتعريـض مع دلالة القرائن الأخرى في حد القذف. ولكل من الفريقين أدلة تؤيد مذهبه، أقواها من جهة النقل أدلة المانعين لإثبات الحدود بالقرائن
و ـ يقول فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة:
إنّ الوسيلة المستخدمة في القتل تدل على القصد الجنائي أو العمدية فإذا استخدم القاتل وسيلة معدة للقتل كالسلاح أو آلة تقتل غالبا كان ذلـك قرينـة على العمدية، وكان القتل قتلا عمدا، ولم يأخذ بفكرة الوسيلة هذه مالك وابن حزم.
ز ـ أخذ الفقهاء بالقرائن في إثبات القسامة
، وهي اللوث عند جمهور الفقهاء, وقرينة وجود القتيل في محله قدم عن الحنفية.
ح ـ في مجال إثبات الحقوق المترتبة على عقـد الـزواج
يعدّ فقهاء الحنفية والحنابلة الخلوة الشرعيـة قرينـة على الـدخـول الحقيقي، فإذا ما ثبتت خلوة الـرجـل بزوجتـه خلوة صحيحة - وهى التي ينعدم فيها المانع الحقيقي الذي يمنع اتصاله بها كـمرضه أو مرضها أو المانع الشرعي كالصوم أو الإحرام في الحج أو المانع الطبعي كوجود شخـص ثالث- فالغالب أنه يجامعها. ولما كان إثبات هذا الجـماع أمرا متعذرا قال هؤلاء بأنه يكفي المرأة إثبات الخلوة الصحيحـة، لتنال حقـوقها في إثبات المهر وثبوت النسب والعدة، ووجوب النفقة والسكنى وغير ذلك، وجعل المالكية أيضا الخلوة قرينة على الوطء ولذا قالوا لن تصدق المرأة في دعواها الوطء وعليها اليمين.
وجعل الفقهاء كذلك قرينة الصلاحية معيارا لفض النزل بـين الزوجين في متاع البيت وذلك بجعل ما يصلح للرجال من كتب وسلاح وغيره للرجل، وما يعرف أنه من متاع النساء كالحلي والمغازل فهو للمرأة. خلافا للإمام الشافعي الذي لا يرى فـض النزل بالصلاحية.
وفي إثبات النسب بالقرائن، أخذ الفقهاء من قرينة قبول الرجل التهنئة وشراء لوازم الولادة قرينة على. أن الولد منه، وقبل الحنفية وصف العلامة في ثبوت نسب اللقيط. كـما عد فقهاء المـالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية قرينة القافة- أي النظر إلى الشبه- دليلا على ثبوت النسب. وخالف فيها فقهاء الحنفية.
ي ـ قال فقهاء المالكية والحنابلة بثبوت الوقف بالقرائن
، فيثبت وقف المسجد الذي بناه صاحبه وأذن بالصلاة فيه وإن لم يصرّح بأنه وقف لأن القرائن تدل على الوقفية، ويثبت وقف الفـرس إذا كان موسـومـا بعـلامة الوقف، وتثبت وقفية كتب المدرسة التي يوجد عليها كتابة الوقف.
والحق أن القرائن التي حفلت بها كتب الفقهاء كثيرة، ولكني أكتفي بهذا القدر لعلي أكون به قد أبرزت جانباً من أهمية القرائن، وأنها دليل قوي قد يصل إلى درجة القطع، وأننا إذا أغفلناه نكون قد عطلنا مدركا هاما من مدارك الأحكام، فنعرّض بذلك نظام الإثبات في الفقه الإسلامي لتهمة الجمود، كـما أننا إذا أفرطنا في استخدامها نكون قد ضيعنا كَثيرا من الحقوق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأميـن.
البصمة الوراثية و حجيتها في الإثبات
المبحث الأول : النسب
المسألة الأولى : مفهومه
النسب في اللغة : القرابة ، وسميت القرابة نسباً لما بينهما من صلة واتصال ، وأصله من قولهم نسبته إلي أبيه نسباً ، ومن باب طلب ، بمعني : عزوته إليه ، وانتسب إليه : اعتزي.
والاسم : النسبة بالكسر ، وتجمع علي نسب ، قال ابن السكيت : يكون من قبل الأب ، ومن قبل الأم ، وقال بعض أهل اللغة : هو في الآباء خاصة علي اعتبار أن المرء إنما ينسب لأبيه فقط ولا ينسب لأمه إلا في حالات استثنائية .
وقد استعمل النسب وهو المصدر في مطلق الوصلة بالقرابة فيقال : بينهما نسب أي قرابة ،وجمعه أنساب .قال الراغب الأصفهاني النسب والنسبة : اشتراك من جهة أحد الأبوين وذلك ضربان : نسب بالطول ، كالاشتراك من الآباء والأبناء ، ونسب بالعرض ، كالنسبة بين بني الأخوة ، وبني الأعمام
إصطلاحاً :
مع البحث المستفيض في كثير من المصنفات في المذاهب الفقهية الأربعة لم أقف علي تعريف شرعي للنسب جامع مانع إذ يكتفي الفقهاء بتعريف النسب بمعناه العام ، المستفاد في معناه في اللغة وهو مطلق القرابة بين شخصين ، دون أن يعرفوه بالمعني الاصطلاحي الشرعي ، وهو الذي يفيد صحة ثبوت النسب لشخص ما ، أو عدم ثبوته له . ومن تلك التعريفات العامة تعريف العلامة البقري بقوله : ( هو القرابة ، والمراد بها الرحم ، وهي لفظ يشمل كل من بينك وبينه قرابة ، قربت أو بعدت ، كانت من جهة الأب أو من جهة الأم )
وعرفه صاحب العذب الفائض ، بالقرابة أيضاً ، ثم قال ( وهي الاتصال بين إنسانين بالاشتراك في ولادة قريبة أو بعيدة .
وقد حاول بعض الباحثين المعاصرين تعريف النسب بمعناه الاصطلاحي الخاص ، وهو القرابة من جهة الأب باعتبار أن الإنسان إنما ينسب لأبيه فقط فقد قال في تعريفه : ( حالة حكمية إضافية بين شخص وآخر ، من حيث أن الشخص انفصل عن رحم امرأة هي في عصمة زوج شرعي ، أو ملك صحيح ، ثابتين ، أو مشبهين الثابت للذي يكون الحمل من مائه )
المسألة الثانية : رعاية الشريعة الإسلامية للنسب :
أولت الشريعة الإسلامية النسب مزيداً من العناية ، وأحاطته ببالغ الرعاية ، ولا أدل علي ذلك من جعله في طليعة الضروريات الخمس التي اتفقت الشرائع السماوية علي وجوب حفظها ورعايتها .
وأن من أجلى مظاهر العناية بالنسب في الإسلام أن الله تعالي امتن على عباده بأن جعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ، فقال عز وجل : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم )) ولا يتحقق معرفة الشعوب والقبائل ، وما يترتب علي ذلك من تعارف وتألف إلا بمعرفة الأنساب وحفظها عن الاشتباه والاختلاط .
ومن أجل ذلك عني الإسلام أيما عناية بتنظيم العلاقة بين الرجل والمرآة ضماناً لسلامة الأنساب ، فحرم الإسلام كل اتصال جنسي يتم علي أصول شرعية يحفظ لكل من الرجل والمرآة ما يترتب ما يترتب علي هذا الاتصال من آثار ، وما ينتج عنه من أولاد ، وأبطل جميع أنواع العلاقات التي تعارفت عليها بعض الأمم والشعوب التي انحرفت عن شرائع الله السوية ، ولم يبح الإسلام سوي العلاقة القائمة علي النكاح الشرعي بشروطه المعتبرة ، أو بملك اليمين الثابت ، ولذا قال عز وجل ) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن أبتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون .
ومن مظاهر عناية الإسلام بالنسب أنه شدد النكير ، وبالغ في التهديد للآباء والأمهات حين يقدمون علي إنكار نسب أولادهم الثابت ويتبرؤون منهم ، أو حين ينسبون لأنفسهم أولاداً ليسوا منهم
وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام : ( أيما امرأة أدخلت علي قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ، ولن يدخلها الجنة ، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه ، احتجب الله منه يوم القيامة ، وفضحه علي رؤوس الأولين والآخرين )
وحرم الإسلام الانتساب إلي غير الآباء حيث قال عليه الصلاة والسلام في معرض التحذير من ذلك ، وبيان الوعيد الشديد علي فاعله : ( من ادعي إلي غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام )
وأبطل الإسلام التبني وحرمه ، بعد أن كان مألوفاً وشائعاً عند أهل الجاهلية وفي صدر الإسلام ، يقول عز وجل ) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم في الدين ومواليكم .
وإنما حرم الإسلام التبني لما يترتب عليه من مفاسد كثيرة لكون المتبني ابناً مزوراً في الحقيقة والواقع ، وعنصراً غريباً عن الأسرة التي أنضم إليها ، ولا يحل له أن يطلع علي محارمها ، أو يشاركها في حقوقها ، إضافة إلي أنه قد لا ينسجم مع أخلاقها ، ولا يتلاءم مع طباعها ، لإحساسه وإحساس الأسرة بأنه أجنبي عنها ، وسواء كان المتبني معروف النسب أو مجهولة ، إلا أن الإسلام مع هذا يلحق المجهول بمن أدعاه بمجرد الدعوى ، مع إمكان كونه منه عادة ، وكل هذا من عناية الشريعة الإسلامية بالنسب ، ومزيد رعايتها له تحقيقاً لمقاصد عظيمة ، وحكم جليلة .
المسألة الثالثة : الوسائل الشرعية لإثبات النسب :
والمقصود هنا بيان طرق إثبات النسب بياناً مجملاً ، دون الدخول في تفاصيل آراء العلماء في بعض الشروط والصور المعتبرة في كل طريق من طرق إثبات النسب .
وطرق إثبات النسب خمسة ، وهي : الفراش ، الإستلحاق ، والبينة ، والقافة ، والقرعة . فالثلاثة الأول محل اتفاق بين العلماء
وأما الرابع فيه قال الجمهور ، وأما الخامس فيه قال بعض أهل العلم ، ودونك الكلام علي كل واحد من هذه الطرق بشيء من الإيضاح علي النحو التالي :
أولاً : الفراش :
أجمع العلماء رحمهم الله تعالي علي إثبات النسب به بل هو علي أقوي الطرق كلها ، قال العلامة بن القيم : ( فأما ثبوت النسب بالفراش فأجمعت عليه الأمة ) والمراد بالفراش : فراش الزوجة الصحيح ، أو ما يشبه الصحيح ، فالصحيح هو عقد النكاح المعتبر شرعاً ، حيث توفرت أركانه وشروطه ، وانتفت موانعه ، وأما ما يشبه الصحيح فهو عقد النكاح الفاسد ، وهو المختلف في صحته ، وكذا الوطء بشبهة علي اختلاف أنواعها ، فإن حكمه حكم الوطء بنكاح صحيح فيما يتعلق بثبوت نسب المولود الناتج عن ذلك الوطء .
فإذا أتت المرآة بولد ممن يمكن ان يولد لمثله لستة أشهر منذ الوطء ، أو إن كان الوطء ، فإن النسب يثبت لصاحب الفراش إذا ولد حال الزوجية حقيقة ، أو حكماً كما في المعتدات ، لقوله عليه الصلاة والسلام ( الولد للفراش وللعاهر الهجر )
ويدخل في الفراش عند جمهور العلماء الوطء بملك اليمين ، وهو ما يعبر عنه بعض الفقهاء بالإستيلاد ، فإذا كان لرجل سُرية يطئها بملك اليمين ، فإنها تعد فراشاً عند الجمهور أما الحنفية فيرون أن فراش الأمة فراش ضعيف ، لا يلتحق الولد بصاحب الفراش إلا باستلحاقه له ، علي تفصيل عندهم في هذا
ثانياً : الاستلحاق :
ويعبر عنه أيضاً بـ ( الإقرار بالنسب ) وغالباً ما يكون في أولاد الإماء والإقرار بالنسب علي نوعين :
الأول : إقرار يحمله المقر علي نفسه فقط كالإقرار بالبنوة ، أو الأبوة .
الثاني : إقرار يحمله المقر علي غيره وهو ما عدا الإقرار بالبنوة والأبوة كالإقرار بالأخوة ، والعمومة .
وقد أشترط الفقهاء لصحة الإقرار بالنسب في كلا النوعين شروطاً لا بد من تحققها لصحة الإقرار وثبوت النسب بمقتضاه ، فاشترطوا لصحة الإقرار بالنسب علي النفس الشروط التالية :
أن يكون المقر بالنسب بالغاً ، عاقلاً ، فلا يصح إقرار الصغير ، ولا المجنون ، لعدم الاعتداد بقولهم لقصورهم عن حد التكليف .
أن يكون المقر له بالنسب ممن يمكن ثبوت نسبه من المقر ، وذلك بأن يولد مثله لمثله ، فلو أقر من عمره عشرون ببنوة من عمره خمسة عشر لم يقبل إقراره ، لاستحالة ذلك عادة .
أن يكون المقر له مجهول النسب ، لأن معلوم النسب لا يصح إبطال نسبه السابق بحال من الأحوال .
ألا يكذب المقرب المقر له المقر ، إن كان أهلاً لقبول قوله ، فإن كذبه فإنه لا يصح الإقرار عندئذ . ولا يثبت به النسب .
أن لا يصرح المقر بأن المقر له ولده من الزنا ، فإن صرح بذلك فإنه لا يقبل إقراره ، لأن الزنا لا يكون سبباً في ثبوت النسب لقول النبي صلي الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر)
أن لا ينازع المقر بالنسب أحد ، لأنه إذا نازعه غير فليس أحدهما أولي من الأخر بمجرد الدعوى ، فلابد من مرجح لأحدهما فإن لم يكن فإنه يعرض علي القافة ، فيكون ثبوت النسب لأحدهما بالقيافة لا بالإقرار .
فإذا توفرت هذه الشروط ثبت نسب المقر له من المقر ، وثبت بمقتضي ذلك جميع الأحكام المتعلقة بالنسب . فإن كان الإقرار بالنسب فيه تحميل للنسب علي الغير ، كالإقرار بأخ له ونحوه ، فإنه يشترط لصحة ثبوت النسب إضافة إلي الشروط المتقدمة ما يأتي :
اتفاق جميع الورثة علي الإقرار بالنسب المذكور
أن يكون الملحق به النسب ميتاً ، لأنه إذا كان حياً فلابد من إقراره بنفسه .
أن لا يكون الملحق به النسب قد أنتفي من المقر له في حياته باللعان
ثالثاً : البينة :
والمراد بها الشهادة ، فإن النسب يثبت لمدعيه بناء علي شهادة العدول بصحة ما ادعاه وقد أجمع العلماء علي أن النسب يثبت لمدعيه بشهادة رجلين عادلين ، واختلفوا في إثباته بغير ذلك : كشهادة رجل وامرأتين ، أو شهادة أربعة نساء عادلات ، أو شهادة رجل ويمين المدعي ، حيث قال بكل حالة من هذه الحالات طائفة من العلماء ، غير أن مذهب جماهير أهل العلم ، وهم المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، أنه لا يقبل في إثبات النسب بالشهادة إلا شهادة رجلين عادلين
فإذا ثبت نسب المدعي بالبينة لحق نسبه بالمدعي وترتب عليه ثبوت جميع الأحكام المتعلقة بالنسب .
رابعاً : القيافة :
وهي لغة تتبع الآثار لمعرفة أصحابها ، والقائف : من يتبع الأثر ويعرف صاحبه ، وجمعه قافه
والقائف في الاصطلاح الشرعي : هو الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلي أعضاء المولود
والقيافة عند القائلين بالحكم بها في إثبات النسب ، إنما تستعمل عند عدم الفراش ، والبينة ، وحال الاشتباه في نسب المولود والتنازع عليه ، فيعرض علي القافة ، ومن ألحقته به القافة من المتنازعين نسبه ، ألحق به .
وقد أختلف العلماء في حكم إثبات النسب بها علي قولين مشهورين :
القول الأول : أنه لا يصح الحكم بالقيافة في إثبات النسب ، وبه قال الحنفية
القول الثاني : اعتبار الحكم بالقيافة في إثبات النسب عند الاشتباه والتنازع . وبه قال جمهور العلماء ، حيث قال به : الشافعية والحنابلة والظاهرية والمالكية في أولاد الإماء في المشهور من مذهبهم ، وقيل : في أولاد الحرائر أيضاً ومما لا شك فيه أن ما ذهب إليه الجمهور من الحكم بالقيافة واعتبارها طريقاً شرعياً في إثبات النسب هو الراجح ، لدلالة السنة المطهرة علي ذلك ، وثبوت العمل بها عند عدد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يعرف لهم مخالف ، فكان كالإجماع منهم علي الحكم بها ، قال العلامة بن القيم رحمه الله في بيان حجية العمل بالقيافة في إثبات النسب وقد دل عليها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل خلفائه الراشدين ، والصحابة من بعدهم ، منهم عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو موسى الأشعري ، وابن عباس ، وأنس بن مالك رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم في الصحابة ، وقال بها من التابعين سعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، والزهري ، وإياس بن معاوية ، وقتادة وكعب بن سور ومن تابعي التابعين اليس بن سعد ومالك بن أنس وأصحابه وممن بعدهم الشافعي وأصحابه ، وأحمد وأصحابه ، وإسحاق وأبو ثور ، وأهل الظاهر كلهم ، وبالجملة فهذا قول جمهور الأئمة ، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة وأصحابه وقالوا العمل بها تعويل علي مجرد الشبه ، وقد يقع بين الأجانب ، وينتفي بين الأقارب )
هذا وقد أشترط الجمهور لاعتبار قول القائف ، والحكم به في إثبات النسب عدة شروط من أهمها : أن يكون القائف مسلماً مكلفاً ، عدلاً ، ذكراً ، سميعاً ، بصيراً ، عارفاً بالقيافة ، مجرباً في الإصابة
وقد ذهب أكثر القائلين بالحكم بالقيافة إلي جواز الاكتفاء بقول قائف واحد والحكم بإثبات النسب بناء علي قوله ، بينما ذهب آخرون إلي أنه لا يقبل في ذلك أقل من أثنين .
ومبني الخلاف في ذلك علي اعتبار القائف هل هو شاهد ، أو مخبر ، فمن قال بالأول أشترط أثنين ، ومن قال بالثاني أكتفي بواحد ، وقيل مبني الخلاف علي أن القائف هل هو شاهد أو حاكم ؟ قال الباجي : (وجه القول الأول : أن هذه طريقة الخبر عن علم يختص به القليل من الناس كالطبيب والمفتي ، ووجه القول الثاني انه يختص بسماعه ، والحكم به ، الحكام ، فلم يجز في ذلك أقل من أثنين وقال في الإنصاف : ( وهذا الخلاف مبني عند كثير من الأصحاب علي أنه هل هو شاهد أو حاكم ؟ فإن قلنا هو شاهد اعتبرنا العدد ، وإن قلنا هو حاكم : فلا وقالت طائفة من الأصحاب : هذا خلاف مبني علي أنه شاهد ، أو مخبر ، فإن جعلناه شاهداً اعتبرنا العدد ، وإن جعلناه مخبراً لم نعتبر العدد ، كالخبر في الأمور الدنيوية ) ورجح العلامة بن القيم الاكتفاء بقول قائف واحد محتجاً بذلك بقوله : ( ومن حجة هذا القول ، وهو قول القاضي وصاحب المستوعب ، والصحيح من مذهب الشافعي ، وقول أهل الظاهر أن النبي صلي الله عليه وسلم سر بقول مجزز المدلجي وحده ، وصح عن عمر أنه أستقاف المصطلقي وحده كما تقدم ، واستقاف بن عباس ابن كلبة وحده ، واستلحقه بقوله . وقد نص أحمد علي أنه يكتفي بالطبيب والبيطار الواحد إذا لم يوجد سواه ، والقائف مثله ............ بل هذا أولي من الطبيب والبيطار ، لأنهما أكثر وجوداً منه فإذا أكتفي بالواحد منهما مع عدم غيره فالفائق أولي هذا وإن لم تتفق الفاقة علي إلحاق المجهول نسبه بأحد المدعيين ، بل تباينت أقوالها وتعارضت ، فإن قولها يسقط لتعارضها ، كالبينتين إذا تعارضتا تساقطتا ، إلا في حالة واحدة وهي أن يتفق اثنين من الفاقة علي إلحاقه بشخص ، ويخالفهما قائف واحد ، فإنه لا يلتفت إلي قوله ، ويؤخذ بقول الاثنين لأنهما كالشاهدين ، فقولهما أقوي من قول الواحد .
أما ما عدا ذلك من حالات الاختلاف كأن يعارض قول اثنين قول اثنين أحرين ، أو قول ثلاثة فإن قول القافة يسقط في هذه الحالات كلها . وبهذا قال الحنابلة أما لو أخذ بقول القافة ، وحكم به حاكم ، ثم جاءت قافة أخري فألحقته بشخص أخر ، فإنه لا يلتفت إلي قول المتأخرة منهما ، لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف ، ومثل هذا أيضاً لو رجعت القافة عن قولها بعد الحكم به وألحقته بشخص أخر فإنه لا يلتفت إلي رجوعها عن قولها الأول لثبوت نسب المجهول بمن ألحق به أولاً وبهذا قال الشافعية والحنابلة وإذا لم يؤخذ بقول القافة لاختلاف أقوالها ، أو أشكل الأمر عليها فلم تلحقه بواحد من المدعين ، أو لم توجد قافة ، فإن نسب المجهول يضيع علي الصحيح من مذهب الحنابلة والقول الأخر للحنابلة هو مذهب الشافعية : أن الأمر يترك حتى يبلغ المجهول ، ثم يؤمر بالانتساب إلي أحد المدعين ، لأنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال للغلام الذي ألحقته القافة بالمدعيين ( وال أيهما شئت ) ، ولأنه إذا تعذر العمل بقوله الفاقة رجع إلي اختيار الولد الجبلي ، لأن الإنسان يميل بطبعه إلي قريبه دون غيره ، ولأنه إذا بلغ صار أهلاً للإقرار ، فإذا صدقه المقر له فيثبت نسبه حينئذ بالإقرار .
وفي قول في كلا المذهبين : أنه يؤمر بالاختيار والانتساب إلي أحد المدعيين إذا بلغ سن التمييز . والمفهوم من مذاهب المالكية : أن الحكم كذلك ، حيث نصوا علي أن الفاقة إذا بأكثر من أب ألحق بهم حتى يبلغ ، ثم يؤمر باختيار واحد منهم .
المبحث الثاني : البصمة الوراثية
المسألة الاولى : مفهومها :
البصمة مشتقة من البُصْم وهو : فوت ما بين طرف الخنصر إلي طرف البنصر يقال ما فارقتك شبراً ، ولا فتراً ، ولا عتباً ، ولا رتباً ، ولا بصماً . ورجل ذو بصم أي غليظ البصم وبصم بصماً : إذا ختم بطرف إصبعه .
والبصمة أثر الختم بالإصبع
فالبصمة عند الإطلاق ينصرف مدلولها غلي بصمات الأصابع وهي : الانطباعات التي تتركها الأصابع عند ملامستها سطحها مصقولاً ، وهي طبق الأصل لأشكال الخطوط الحلمية التي تكسو جلد الأصابع وهي لا تتشابه إطلاقاً حتى في أصابع الشخص الواحد .
المسألة الثانية : ماهية البصمة الوراثية :
مما تقدم في بيان التعريف اللغوي للفظ البصمة يتضح أن من أهم فوائد معرفة بصمات الأصابع الاستدلال بها علي مرتكبي الجرائم من خلال ما ينطبع من بصماتهم علي الأجسام المصقولة في محل الجريمة ، فهي قرينة قوية في التعرف علي الجناة ، ولقد تجاوزت الاكتشافات الطبية الحديثة معرفة هذه الخاصية من جسم الإنسان إلي اكتشاف خواص كثيرة فيه وإدراك مدي تأثير تلك الخواص في الوراثة عن طريق أجزاء من جسم الإنسان من دم أو شعر أو مني ، أو بول أو غير ذلك .
وقد دلت الاكتشافات الطبية أنه يوجد في داخل النواة التي تستقر في خلية الإنسان ( 46 ) من الصبغيات ( الكروموسومات ) وهذه الكروموسومات تتكون من المادة الوراثية – الحمض النووي الريبوري اللأكسجيني – والذي يرمز إليه بـ (دنا ) أي الجينات الوراثية ، وكل واحد من الكروموسومات يحتوي علي عدد كبير من الجينات الوراثية قد تبلغ في الخلية البشرية الواحدة إلي مائة ألف مورثة جينية تقريباً وهذه المورثات الجينية هي التي تتحكم في صفات الإنسان ، والطريقة التي يعمل بها ، بالإضافة إلي وظائف أخرى تنظيمية للجينات .
وقد أثبتت التجارب الطبية الحديثة بواسطة وسائل تقنية في غاية التطور والدقة : أن لكل إنسان جينوماً بشرياً يختص به دون سواه ، لا يمكن أن يتشابه فيه مع غيره أشبه ما يكون ببصمة الأصابع في خصائصها بحيث لا يمكن تطابق الصفات الجينية بين شخص وآخر حتى وإن كانا توأمين .
ولهذا جري إطلاق عبارة ( بصمة وراثية ) للدلالة علي تثبيت هوية الشخص أخذاً من عينة الحمض النووي المعروف بـ ( دنا ) الذي يحمله الإنسان بالوراثة عن أبيه وأمه ، إذ أن كل شخص يحمل في خليته الجينية ( 46 ) من صبغيات الكروموسومات ، يرث نصفها وهي ( 23 ) كروموسوماً عن أبيه بواسطة الحيوان المنوي ، والنصف الأخر وهي ( 23) كروموسوماً يرثها عن أمه بواسطة البويضة وكل واحد من هذه الكروموسومات والتي هي عبارة عن جينات الأحماض النووية المعروف باسم ( دنا ) ذات شقين ويرث الشخص شقاً منها عن أبيه والشق الأخر عن أمه فينتج عن ذلك كروموسومات خاصة به لا تتطابق مع كروموسومات أبيه من كل وجه ن ولا مع كروموسومات أمه من كل وجه وإنما جاءت خليطاً منهما
وبهذا الاختلاط أكتسب صفة الاستقلالية عن كروموسومات أي من والديه مع بقاء التشابه معهما في بعض الوجوه ، لكنه مع ذلك لا يتطابق مع أي من كروموسومات والديه ، فضلاً عن غيرهما
قال الدكتور محمد باخطمة: ( وتتكون كل بصمة من وحدات كيماوية ذات شقين ، محمولة في المورثات وموزعة بطريقة مميزة تفرق بدقة بارعة كل فرد من الناس عن الآخر ، وتتكون البصمة منذ فترة الانقسام في البويضة الملقحة وتبقي كما هي حتي بعد الموت ، ويرث كل فرد أحد شقي البصمة من الأب والأخر من الأم بحيث يكون الشقان بصمة جديدة ، ينقل الفرد أحد شقيها إلي أبنائه ،
وهكذا ..... )
وقال الدكتور عبد الهادي مصباح : ( الحامض النووي عبارة عن بصمة جينية لا تتكرر من إنسان إلي آخر بنفس التطابق ، وهي تحمل كل ما سوف يكون عليه هذا الإنسان من صفات وخصائص ، وأمراض وشيخوخة ، وعمر ، منذ التقاء الحيوان المنوي للأب ببويضة الأم وحدوث الحمل )
وعلماء الطب الحديث يرون أنهم يستطيعون إثبات الأبوة ، أو البنوة لشخص ما أو نفيه عنه من خلال إجراءات الفحص علي جيناته الوراثية حيث قد دلت الأبحاث الطبية التجريبية علي أن نسبة النجاح في إثبات النسب أو نفيه عن طريق معرفة البصمات الوراثية يصل في حالة النفي إلي حد القطع أي بنسبة 100 %أما في حالة الإثبات فإنه فأنه يصل إلي قريب من القطع وذلك بنسبة 99 % تقريباً
وطريقة معرفة ذلك : أن يؤخذ عينة من أجزاء الإنسان بمقدار رأس الدبوس من البول ، أو الدم ، أو الشعر ، أو المني ، أو العظم أو اللعاب أو خلايا الكلية ، أو غير ذلك من أجزاء جسم الإنسان وبعد أخذ هذه العينة يتم تحليلها ، وفحص ما تحتوي عليه من كروموسومات – أي صبغيات – تحمل الصفات الوراثية ، وهي الجينات ، فبعد معرفة هذه الصفات الوراثية الخاصة بالابن وبوالديه يمكن بعد ذلك أن يثبت بعض هذه الصفات الوراثية في الابن موروثة له عن أبيه لاتفاقهما في بعض هذه الجينات الوراثية فيحكم عندئذ بأبوته له ، أو يقطع بنفي أبوته له ، وكذلك الحال بالنسبة للأم ، وذلك لأن الابن – كما تقدم – يرث عن أبيه نصف مورثاته الجينية ، بينما يرث عن أمه النصف الآخر ، فإذا أثبتت التجارب الطبية والفحصوات المخبرية وجود التشابه في الجينات بين الابن وأبويه ، ثبت طبياً بنوته لهما .
وقد تثبت بنوته لأحد والديه بناء علي التشابه الحاصل بينهما في المورثات الجينية بينما ينفي عن الآخر منهما ، بناء علي انتقاء التشابه بينهما في شتي المورثات الجينية
المسألة الثالثة : مجالات العمل بالبصمة الوراثية :
يري المختصون في المجال الطبي وخبراء البصمات أنه يمكن استخدام البصمات الوراثية في مجالات كثيرة ، ترجع في مجملها إلي مجالين رئيسين هما :
المجال الجنائي : وهو مجال واسع يدخل ضمنه :
الكشف عن هوية المجرمين في حالة ارتكاب جناية قتل ، أو اعتداء ، وفي حالات الاختطاف بأنواعها ، وفي حالة انتحال شخصيات الآخرين ونحو هذه المجالات الجنائية .
مجال النسب : وذلك في حالة الحاجة إلي إثبات البنوة أو الأبوة لشخص ، أو نفيه عنه ، وفي حالة اتهام المرآة بالحمل من وطء شبة ، أو زنا .
المبحث الثالث
المسألة الأولى : حكم استخدام البصمة الوراثية في مجال النسب
بعد بيان ماهية البصمة الوراثية وإيضاح طرق إثبات النسب الشرعي ، وطريق نفيه ، فإن مقتضي النظر الفقهي لمعرفة حكم استخدام البصمة الوراثية في مجال النسب ، يفرض علي الباحث الشرعي النظر في إمكانية اعتبار البصمة الوراثية قرينة يستعان بها علي إثبات النسب أو نفيه فحسب ، أو اعتبار هما طريقاً من طرق إثبات النسب قياساً علي إحدى الطرق الثابتة شرعاً .
غير إني وقبل بيان ذلك أود القول بأن النظريات العلمية الحديثة من طبية وغيرها مهما بلغت من الدقة والقطع بالصحة في نظر المختصين إلا أ،ها تظل محل شك ونظر ، لما علم بالاستقراء للواقع أن بعض النظريات العلمية المختلفة من طب وغيره يظهر مع التقدم العلمي الحاصل بمرور الزمن إبطال بعض ما كان يقطع بصحته علمياً ، أو علي الأقل أصبح مجال شك ، ومحل نظر ، فكم من النظريات الطبية علي وجه الخصوص – كان الأطباء يجزمون بصحتها وقطعيتها ، ثم أصبحت تلك النظريات مع التقدم العلمي الطبي المتطور ضرباً من الخيال ()
**وهذا أمر معلوم وثابت مما يحتم علي الفقهاء والباحثين الشرعيين التروي في النظر ، وعدم الاندفاع بالأخذ بالنظريات العلمية كأدلة ثابتة توازي الأدلة الشرعية أو تقاربها ، فضلاً عن إحلال تلك النظريات محل الأدلة الشرعية الثابتة () أمارات قد تحمل عليه ، أو قرائن قد تدل علية ، لأن الشارع يحتاط للأنساب ويتشوف غلي ثبوتها . ويكتفي في إثباتها بأدنى سبب ، فإذا ما ثبت النسب فإنه يشدد في نفيه ، ولا يحكم به إلا بأقوى الأدلة .
قال ابن قدامه : ( فإن النسب يحتاط لإثباته ويثبت بأدنى دليل ، ويلزم من ذلك التشديد في نفيه . وأنه لا ينتفي إلا بأقوى دليل وقال العلامة بن القيم : ( وحيث اعتبرنا الشبه في لحوق النسب ، فإنما إذا لم يقاومه سبب أقوي منه ، ولهذا لا يعتبر مع الفراش ، بل يحكم بالولد للفراش وإن كان الشبه لغير صاحبه ، كما حكم النبي صلى الله عليه و سلم في قصة عبد ابن زمعة بالولد المتنازع فيه لصاحب الفراش ولم يعتبر الشبه المخالف له فاعمل صلى الله عليه و سلم الشبه في حجب سوده حيث أنتفي المانع من إعماله في هذا الحكم بالنسبة غليها ولم يعلمه في النسب لوجود الفراش ) ومن تشديد الشارع في نفي النسب بعد ثبوته أنه حصر نفيه بطريق واحد فقط وهو اللعان ، واشترط لإقامته شروطاً كثيرة تحد من حصوله ، وتقلل من وقوعه – وقد سبق بيانها – وبناء علي ذلك فإنه لا يجوز استخدام البصمة الوراثية في نفي نسب ثابت ، كما لا يجوز الاكتفاء بالبصمة الوراثية عن اللعان في نفي النسب بمقتضي نتائجها الدالة علي انتفاء النسب بين الزوج والمولود علي فراشه ، وذلك لأن اللعان حكم شرعي ثابت بالكتاب والسنة والإجماع وله صفة تعبدية في إقامته ، فلا يجوز إلغاؤه ، وإحلال غيره محله ، أو قياس أي وسيلة عليه مهما بلغت من الدقة والصحة في نظر المختصين به .
وإن كان بعض الفقهاء المعاصرين قد ذهبوا إلي جواز الأخذ بالبصمة الوراثية والاكتفاء بها عن اللعان إذا دلت نتائجها عن انتفاء النسب بين الزوج والمولود علي فراشه ، معللين لذلك بأن الزوج إنما يلجأ إلي اللعان لنفي النسب عند فقد من يشهد له بما رمي به زوجته ، وحيث أن الفحص من خلال البصمة الوراثية قد يدل علي صحة قول الزوج ، فإنها تكون بمثابة الشهود التي تدل علي صدق الزوج فيما يدعيه علي زوجته في حال ثبوت انتفاء النسب بين الزوج والمولود علي فراشه من خلال نتائج البصمة الوراثية ومع تقديري للقائلين بهذا القول من الفقهاء فإن فيه من المصادمة للنصوص الشرعية ، الجرأة علي إبطالها ، وإلغاء العمل بها ما يحمل علي رد هذا القول وعدم اعتباره ، وذلك لأن الأحكام الشرعية الثابتة لا يجوز إلغاؤها ، أو إبطال العمل بها إلا بنص شرعي يدل علي نسخها وهو أمر مستحيل ، ولأنه لو أقرت الزوجة بصدق زوجها فيما رماها به من الفاحشة فإن النسب يلحق الزوج لقوله صلى الله عليه و سلم ( الولد للفراش وللعاهر الهجر ) ولا ينتفي عنه إلا باللعان ولأن اللعان يشرع لدرء الحد حاملاً ، ويعلم الزوج أن الحمل منه ، ولكنه زنت بعد الحمل فيريد أن يدرأ الحد علي نفسه باللعان فلا يجوز منعه من هذا الحق الثابت له شرعاً ، فكيف يجوز إلغاء حكم شرعي بناء علي نظريات طبية مظنونة ، والله عز وجل يقول ) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ( وقد جاء في مشروع توصية المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة : ( أنه لا يجوز استعمال البصمة الوراثية في نفي النسب استقلالً اكتفاء باللعان ، ولا استعمالها في نفي نسب من ثبت نسبه بأي دليل شرعي )
وقال الشيخ محمد الأشقر ( إنه لن يكون مقبولاً شرعاً استخدام الهندسة الوراثية ، والبصمة الوراثية لإبطال الأبوة التي ثبتت بطريق شرعي صحيح من الطرق التي تقدم بيانها ولكن مجال العمل بالبصمة الوراثية سيكون في إثبات أو نفي أبوة لم تثبت بطريق شرعي صحيح .....)
هذا ومع أنه لا يجوز الاكتفاء بالبصمة الوراثية عن اللعان ، فإنه يحسن الاستعانة بها علي اعتبار أنها قرينه قد تحمل الزوج علي العدول عن اللعان فيما إذا ثبت من خلال نتائج البصمة الوراثية أن المولود علي فراشه هو أبنه قد تخلق من ماءه ، وهذه مصلحة شرعية يدعو إليها الشرع المطهر ويتشوف إليها لما فيها من تأكيد للأصل الشرعي وهو ( أن الولد للفراش ) ، ولما فيها من درء مفسدة اللعان وضرره ، فإن أصر الزوج علي طلب اللعان للانتفاء من نسب المولود علي فراشه فذلك حق له لا يجوز منعه منه بناء علي ما ظهر من نتائج البصمة الوراثية من كون المولود المراد نفيه هو أبنه .
ولو أن اللعان تم بين الزوجين ، وانتفي الزوج من الولد ، ثم أكذب نفسه ، وعاد واستلحق الولد بنسبه ، فأنه يلحق به سواءً أكان إستلحاقه بسبب ما ظهر له من نتائج البصمة الوراثية قبل اللعان أو حتي بعده والتي تدل علي أنه ولده ، أو لم يكن إستلحاقه بعد اللعان بسبب ، لأن الفقهاء أجمعوا علي أن الملاعن إذا أكذب نفسه وأستلحق الولد بعد نفيه فإنه يقبل منه ويلحقه نسبه ، لتشوف الشارع إلي ذلك ، لكن يقام عليه حد القذف إن كانت الزوجة محصنة ، ويعذر إن لم تكن محصنة )
وأما إذا تبين من خلال نتائج البصمة الوراثية صحة ما يدعيه الزوج من كون أن المولود علي فراشه ليس أبنه ، فذلك قرينه تقوى جانب الزوج ، وتؤكد حقه في اللعان
فالخلاصة أنه لا يجوز الاكتفاء بالبصمة الوراثية عن اللعان علي اعتبار أن نتائجها عند ذوي الاختصاص بها قطعية أو قريبة من القطعية ، وذلك لأن الحكم الشرعي لا يجوز إبطاله وترك العمل به إلا بدليل نصي وهو غير ممكن ، غير أن الحاكم الشرعي يجدر به أن يستفيد من هذه التقنية الحدية المتطورة وإجراء الفحوصات المخبرية للبصمة الوراثية للاستعانة بها كقرينة من القرائن التي يستعان بها علي التحقق من صحة دعوى الزوج أو عدمها ، بغرض الحيلولة دون وقوع اللعان قدر المستطاع لحض الشارع علي درء ذلك ومنعه ، وتشوفه لاتصال الأنساب وبقاء الحياة الزوجية.